الإسلام وحضارته في مواجهة الحضارة المادية والفوضوية

السبت 3 ذو القعدة 1437/   6 أغسطس/ آب 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

أ. د. عبدالحليم عويس
ماذا يقدم المسلمون للحضارة المعاصرة؟

الإسلام وحضارته في مواجهة الحضارة المادية والفوضوية:

جنح سيد قطب – رحمه الله – إلى القول بأنه لا توجد حضارة سوى الحضارة الإسلامية، وهو يقصد بحضارة الإسلام حضارة كل الأنبياء؛ فالدين والنبوة والوحي المتكامل مع العقل الموضوعي، هي جوهر ومسلمات كل حضارة، وبدونها فلا حضارة!

ولو أن سيد قطب قيَّد كلامه ببعض الملاحظات الإضافية لكان كلامه مقبولاً، فالحق أن الحضارة الكاملة أو الصحيحة هي تلك الحضارة التي تقوم على العون والوحي الإلهيين، وترتبط بالسماء، ولا تنسى روح الإنسان وأشواقه العليا التي تمثل جزءًا أساسيًّا من تكوينه الإنساني، كما تقوم – أيضًا – على العقل الإنساني، وعيًا وتخطيطًا، وإبداعًا وعلمًا وفنًّا، وتفصيلاً للوحي وتطبيقًا له في هذه الأرض، لكن هذا لا يُلْغي وجود حضارات (ناقصة) أو (مؤقتة) يمكن أن تستمر لعدة قرون ذات صلة مشوهة أو هزيلة بالوحي، وهو فقه حضاري مال إليه العلامة الجزائري مالك بن بني؛ إنصافًا للآخرين الذين استيقظوا برئة واحدة، ومشوا في الدروب بعين واحدة، ووصلوا – في بعض الأحايين – إلى ما لم يصل إليه الذين شلوا فاعلية الوحي، وأصبحت علاقتهم به شكلية، فما انتفعوا بوحي صحيح يملكونه، ولا استهدوا بعقل صحيح يُعْمِلونه، وقد كانت للإمام الشيخ محمد الغزالي عبارة ذكية يصف فيها هذه القسمة الحضارية، فيقول: “إن المسلمين ناموا في النور (أي: نور الوحي)، بينما استيقظ غيرهم في الظلام”؛ أي بالعقل المحدود وحده!

وابتداء نحمِّل المسلمين جزءًا كبيرًا من المسؤولية في استيقاظ أوروبا بالعقل وحده، بعد أن قتلت الدين الذي كان رجاله يقتلون العقل في محيطهم، بينما وجدت أوروبا – وهي تستيقظ بعد هزيمتها في الحروب الصليبية – مسلمين لا يعرفون قيمة دينهم ولا تراثهم الذي هضمته؛ تحقيقًا لنهضتها، بينما أصحابه يعيشون مخدَّرين بأمجاد الماضي، بعيدين عن إدراك ما ورثوه وعاشوه في إسبانيا وصقلية ورودس والرها وأنطاكية وبيت المقدس وطرابلس، وظهرت الخلافة العثمانية فركزت جهودها المشكورة على القوة العسكرية؛ حماية للمسلمين المهددين، بينما غفلت – عن عدم وعي – عن الجوانب العلمية والحضارية الأخرى، ولا سيما التنظيمية والتكنولوجية، وهكذا كان الوعي الحضاري الإسلامي القائم على جناحي الوحي والعقل غائبًا؛ فكان لذلك تأثيره – مع التأثير اللاهوتي الكنسي في محاربة العقل والعلم – في الاتجاه الأوربي نحو عبادة العقل ونَبْذ الوحي، وفي التركيز على الجانب المادي والمصلح والتكنولوجي والدنيوي من التطور، بعيدًا عن مزج هذه الجوانب الحضارية بالعناية الربانية، والوحي السماوي، ونصيب الرُّوح والأخلاق والقِيَم والضمير في المنظومة الحضارية؛ حتى لا تسحق إنسانية الإنسان، وحتى لا يفقد الإنسان قيادة المادة للآلة، وحتى لا تنقطع الصلة الصحيحة بين الله والإنسان، والدنيا والآخرة، والمصالح الخاصة والعامة، وخلال قرون التطور الأوروبي في عصر النهضة (القرن السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر الميلادية) بقِي الوضع ينحدر إلى أن انتهى بوصول الحضارة المادية إلى وحش مفترس؛ يسحق شعوبًا لمصالحه، ويعيش على الخداع والكذب، ويستعلي عنصريًّا، ولا مكان للآخرة في تخطيطه أو رؤيته أو معاملته للآخرين، ولا في تنظيمه الاجتماعي والاقتصادي والتربوي؛ حتى بلغ الأمر بكثير من فلاسفة الحضارة الذين عاشوا في ظل هذه الحضارة سنوات طويلة، وخبروها عن قُرب، إلى أن يئسوا من إصلاحها؛ فها هو ابنها الكبير “رجاء جارودي” يسميها: (حضارة حفاري القبور للإنسانية)، وعلى غلاف كتابه: (حفارو القبور)[1] يكتب شارحًا: (الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها)، ويأتي الجزء الأول من كتابه تحت عنوان: “العالم المحطم والهيمنة الجديدة”، ونحن لا نستطيع هنا استقصاء التفصيلات التي ذكرها؛ لأنها تحاول (محاولة صعبة) في أربعين صفحة حصر جرائم هدم الإنسانية خلال خمسة قرون من الاستعمار أدَّت إلى نهب ثروات ثلاث قارات، وإلى تدمير اقتصادياتها وتكبيلها بالديون[2].

اقرأ أيضا  "أم الحيران" الوجه الجديد للنكبة الفلسطينية

أما الجزء الثاني، فيتكلم فيه عن (أغراض الانحطاط)، وهو في نحو ثلاثين صفحة، يحاول توضيح معنى الانحطاط الذي تقود من خلاله الولاياتُ المتحدة العالَمَ إلى الهاوية، إنه[3] – أي الانحطاط – قطع أواصر النسيج الاجتماعي؛ لتحويل المجتمع إلى ذرات؛ لتخريب العلاقات بين الجماعات القومية، الاجتماعية أو الدينية، وذلك عندما لا تعد وحدة العالم هدفًا نهائيًّا وقاعدة كبرى، ويعني الانحطاط على المستوى الفردي الاهتمامَ بالنفس، ورفض الآخر، ورفض أي مسؤولية تجاهه على مستوى الجماعات، وهو النزوع إلى السيطرة، وعبادة السوق والملكية المطلقة للمال تقود مجتمعاتنا – كل مجتمعاتنا – إلى الانحطاط وإلى الموت، وتمثل الولايات المتحدة كل أعراض الانحطاط، وبصورة أكثر عمقًا من الانحطاط الروماني؛ وذلك لقيامها بالآتي:

1- تفكيك النسيج الاجتماعي؛ من خلال تراجع المسؤولية الجماعية لصالح الأنانية واللامبالاة.

2- تفكيك المجتمع؛ بسبب تزايد عدم المساواة (التمييز العنصري) الاقتصادي والثقافي.

3- تفكيك مستقبل المجتمع؛ بسبب محاولة الاستفادة القصوى من الحاضر على حساب المستقبل، باستخدام الوسائل المتاحة دون الوعي بالأهداف النهائية الكبرى.

اقرأ أيضا  التربية بالقدوة والفعل الصامت

ولكن (جارودي) لا يتركنا عند تشخيص المرض أو تحليل أبعاد الأزمة، بل يقدم لنا – من وجهة نظره – الوسائل الكفيلة بالمواجهة، ونحن نرى ضرورة أن نتعرف عليها؛ لنفيدَ منها، ولنضيف إليها، أنه يرى ضرورة القيام بما يلي:

1- إيقاظ رد فعل شعبي ناقد حول أهداف الحياة، وحول الأهداف النهائية لتاريخنا المشترك (وفي رأينا أن المسلمين هم الأَولى بالتصدُّر في هذا الجانب).

2- مفتاح حل مشكلاتنا الكبرى، هو تغيير جذري في علاقات الحضارة الأوروبية مع العالم الثالث، بهدف قلب أساليب الضغط المدمر لصندوق النقد الدولي، وأيضًا بالتوقف عن التدمير، عن طريق الهيمنة الاستعمارية للتنمية الداخلية، وحل مشكلات الثقافة إذا ما أزيلت المزاعم الغربية بالتفوق، وعالجت نماذجها للنمو والثقافة؛ وذلك من أجل الانفتاح على الثقافات الأخرى برغبة في التأثير المتبادل.

3- ونكرر بلا ملل: العقبة الرئيسية هي وحدانية السوق بنظريتيها الأساسيتين:

  • أسطورة الحداثة، وأسطورة الديمقراطية، ومن أجل محاربة ذلك لا بد من تفاعل جهود كل من تمثِّل الحياة عندهم معنى: إيمان بالله، أو إيمان بالإنسان؛ (أي: لا حداثة بلا إيمان، ولا ديمقراطية بلا أخلاق).

4- تغيير نمط حياتنا لن يتم فقط من خلال التبشير الأخلاقي وعكس الوضع الحالي، بل أيضًا عن طريق مشاركة لكل هؤلاء بالذين لا يعيشون من التفكير الطفيلي في الفساد، لكن يعيشون من الإبداع والإنتاج الحقيقي لخدمة المجتمع[4].

وهكذا يشخص لنا رجاء جارودي الداء الحضاري الذي تعانيه البشرية كلها؛ نتيجة وجود قوة يسميها هو (الولايات المتحدة الأمريكية) تَحفِر للبشرية قبرها، وتقود في كل يوم شعوبًا إلى الموت؛ بدءًا من الهنود الحمر، إلى المخطوفين من أدغال إفريقيا، إلى إبادة الأفغان، والفلسطينيين، ثم العراقيين، بصمت وتواطؤٍ من كثير من قوى العالم.

لكننا نرى أن الولايات المتحدة، بينما تقوم بحفر القبر العالمي، وتفرض عصر الانحطاط، كما يرى جارودي؛ هي – كذلك – من أوائل من سيصيبهم الزوال؛ فثمة (قوة صِهيونية ماسونية قبالية) تضرب بهم، وتضربهم في الوقت نفسه، وهي التي تفعل ذلك بدرجات متفاوتة في أوروبا، بحيث يمكننا أن نقول: إن الحضارة الإنسانية كلها في خطر، والعميان – حسب تعبير بروتوكولات حكماء صهيون – لا يعرفون أنهم وهم يدمرون الآخرين إنما يدمرون الأرض كلها؛ بيئة وأخلاقًا، ودينًا، وروحًا، واقتصادًا، واجتماعًا، وثقافة، وأحدية النظرة، عنصرية المنطلق، نافية لما سواها، وليس غير المسلمين بمنهجهم الحضاري الإنساني الرباني وباحترامهم للآخر، وإيمانهم بالتعددية، وبوضعهم العالم في مكانه الصحيح؛ بناءً لا هدمًا، وسيلة لا غاية، وإدراكًا لما يوصل لخشية الله؛ ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وليس تقديسًا للعلم، واستغناءً به عن الله والرُّوح والضمير والدين، فكأن هذا العالم (صنم ثابت قابل للعبادة)، وعلى سدنته أن يروجوا لقداسته حتى وهو في أشد حالات تخريبه للإنسان؛ فالقنابل الذرية القاتلة توصف بالذكاء والإبداع والقدرات الخارقة، والسباق يجري – بجنون عقلاني – للمزيد من امتلاك أسباب الهلاك.

اقرأ أيضا  علّمني التواضع!

لكننا نحن – المسلمين – مطالَبون بوضع حدٍّ لهذا الجنون العلمي، والنظر إلى العالم على أنه نسبي، وأن الدين والإيمان والفطرة مصادر متوازنة مع العلم لتحقيق المعرفة الصحيحة، فهذه مصادر تميزنا، وتحقق لنا أهدافًا لا تتحقق في المستوى الإنساني الآن؛ حيث الغلبة لعبادة العالم والمادة والقوة.

وإذا كانت الحضارة الحديثة قد رضيت العلم والمادة والقوة، فنحن – في مشروعنا الحضاري – نضع العالم في إطاره وحجمه؛ حتى لا يتحول إلى آلة دمار وخراب، ولكننا نعده ركيزة أساسية في مشروعنا الإسلامي الحضاري، الذي يقوم على مفاهيم ومضامين محورية تتصف بالشمول والتكامل؛ كيما تكون صالحة بمجموعها لتمثيل المشروع الحضاري الذي يمثل بدوره الإسلام؛ عقيدة وشريعة وفلسفة إزاء الكون والحياة والإنسان.

وهذه المفاهيم المحورية ليست مجرد أفكار نظرية، بل يجب إذابتها، لا في بوتقة العمل الإصلاحي الحضاري فحسب؛ بل يتعين انسيابها من الإصلاحيين أنفسهم، من حركاتهم وسكناتهم، في رخائهم وشدتهم، وأن تترجم في أهدافهم وبرامجهم، وبيوتهم وأعمالهم، وفي أفعالهم قبل أقوالهم؛ لتستحيل تلك القضايا والأفكار إلى أكسجين منبعث في فضاء الإصلاح، يتنفسه كل أحد، يتنفسه الرائح والغادي، القريب والبعيد، الصديق والمعادي؛ أي أن يكون المشروع الحضاري روحًا ينفخ الإصلاحيون فيه الحياة، بتمثُّلهم مفرداته، وسعيهم من أجل نشره، وتنفيذه بكل إخلاص وإبداع وإتقان[5].

[1] نشر دار الشروق – القاهرة، ط1، 1419هـ.

[2] جارودي: حفارو القبور، ص 17.

[3] جارودي: حفارو القبور، ص 68، 69.

[4] المرجع السابق ص 23، 124.

[5] عبدالله البريدي: النموذج والمسار، المنار الجديد، العدد 15، القاهرة، بحث في المسألة الحضارية.

الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.