ألا ما أشد غربة لغة القرآن بين ظهرانينا !
الأحد،16جمادى الثانية1436//5أبريل/نيسان 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ محمد إبراهيم شقرة
لغتنا العربية لغة الضاد، هي أشرف اللغات، وأرفَعُها شأْناً، وأبهاها ثوباً، وأفصحها تعبيراً، جمعت من الفضائل والخصائص والمزايا، مالم يكن لواحدة من لغات الدنيا، فهي لسان الوحي المبين من قرآن وسنة مطهرة، والآلة الكاشفة عن معانيه، والعين التي يبصر بها العلماء إعجازه، والنور الذي يهتدي به البلغاء إلى معاني فصاحته البعيدة والقريبة.
هذه اللغة التي ازدانت بجلائل الوحي، صارت موئل الفكر والعلم والحضارة الإنسانية زماناً. وقد ظلت الأُمة بها عزيزةً أمداً، ممنعةً بالقرآن والسُّنة… ودواوين الشعر، وحوافظ النثر، وجوامع التاريخ والحكم وعقول العلماء والشعراء، حتى خالطت عقولها وألسنتها، عجمة الفكر واللغات التي دخل أهلها الإسلام، وفتح أرضها المجاهدون المسلمون، وجرى علم الوحي فوقها، فأخذت عقول أهل العربية وألسنتهم من أطراف تلك اللغات، واستقرت ألفاظها وحروفها بين كلمات العربية وحروفها، حتى أصبحت شيئاً منها، والناظر في قواميس العربية يعرف هذا جيداً، فإنه واجدٌ بين المعاني والألفاظ، ألفاظاً أعجمية يقول فيها كاتب القاموس وجامعه: (معّربة)، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لكان سهلاً يسيراً، لكنهُ تعدّاه وجاوزه، حتى صار مع الحادث الجديد نسياً منسياً، وحتى أصبح وجوده على ألسنة العرب المتحدثين بالعربية هو من قوام اللغة وفصاحتها، فما الذي حدث؟ حدث: أن من لا يحسن النطق بالألفاظ العربية الصحيحة، ولا يستقيم لسانه بالقواعد التي قامت عليها هذه اللغة، يتجرأ على حدودها، ويقيم من نفسه مجتهداً، يُنَّظِر لأهل زمانه، ويضع لهم قواعد جديدة ويحدث لهم ألفاظاً جديدة، وينشئ لهم اشتقاقات لا عهد للغة بها، ولا تعرفها في شعرها ونثرها.
والعلم بكل فنونه وفروعه – كما هو شأن العربية – لا يغور في تراب الأرض، لكنه يذهب بموت أهله، وزهد الناس فيه، وإعراضهم عن حلقه ومعاهده، وبشيء آخر وهو: التكسب به، وما كان العلم في عهود هذه الأمة السابقة إلا وسيلة لتحصيل ثواب الآخرة، والوصول إلى رضوان الله سبحانه، والرجاء فيه وفي أوسع رحمته، ولغتنا العربية، فتحت إليها أبواباً كثيرة، ولج منها العلماء إليها، بالنحو والبلاغة، وبالبيان، وبالشعر، وبالنثر والقصيدة والرجز، وسائر فنون اللغة، وسائر فنون اللغة وآدابها، فأوفوا بها جميعاً على محراب القرآن العتيد، ووضعوها جميعاً بين يدي آياته، يستنبطون منها الأحكام، والمسائل والتشريعات، ويدونونها في كتب تتناول التفسير، ولسنا بهذا المقال بصدد تعداد هذه الكتب، أو تصنيفها، وفهرستها، لكن نريد أن يعرف جمهرة الكتاب والأدباء والشعراء – وعمادهم – فيما يكتبون ويتحدثون اللغة العربية التي هي قوام علوم القرآن جميعها، أنهم إن كتبوا وتحدثوا فإنما يتحدثون بلغة القرآن وأن الخطأ فيها هو خطأ في اللغة التي هي قوام القرآن، والقرآن قوامها، وإذا كان هذا الخطأ ناشئاً من تقصير، أو عجز، أو إهمال وتفريط، فهو إِثمٌ فادحٌ، يؤود صاحبه، فالأمر ليس باليُسر الذي يتصوره أولئك المقصرون العاجزون المفرطون، إنه لعسير وشديد وباهظ جداً، ولا يشعر بهذا الاثم الفادح إلا من كان فيه غيرةٌ لاهبةٌ لكتاب الله سبحانه، ولا تنشأ هذه الغيرة إلا بكثرة المدارسة لآياته، وإطالة النظر في أسرار إعجازها، وترداد تلاوته المرة تلو المرة، والوقوف عند حدود حلاله وحرامه، أما الذين يرون في القرآن ثقلاً عقلياً محضاً، أو قيداً هائلاً بينهم وبين شهواتهم، أو سوراً عالياً لا يقدرون على تجاوزه إلى باطلهم. فهؤلاء لا يعرفون ما القرآن ولا ما يدنيهم منه أو يقربهم إليه.
ومن البلاء الأطم أن أطواق الشعر وقلائد النثر، ما أصبحت تصاغُ ولا تساغُ، إلا بقواعد مخترعة جديدة، أملتها الضرورات على حد تعبيرهم، والضرورات شيءٌ مخترع أيضاً عند أولئك المخترعين، حتى لقد أصبحت هذه الضرورات هي الأصل في صياغة المقالات وتدبيجها، وبناءِ القصائد وإنشائها، وأطرحوا من حسابهم الأصول التي أصَّلها لنا آباؤنا الأولون، والقواعد وضعها لنا أسلافنا السابقون، وعجنا على الآداب الأعجمية الوافدة إلينا من العائدين من أبناء جلدتنا، الذين خالطت عروبة ألسنتهم عجمة تلك الآداب الأعجمية، أو قل: خالطت تلك العجمة عروبة ألسنتهم، فعادوا من تلك البلاد، وقد امتلأوا عجباً وفخراً، بما حصَّلوا وأمَّلوا، وعلى أيديهم فشت عجمة الآداب في عالمنا العربي، ودخلت إليها مصطلحات وأسماء ما عرفناها من ميراث أبنائنا وأسلافنا، وأجلبت علينا تلك العجمة بكل ما فيها من عُربة ونفرةٍ، وأتت على حصاد القرون الجليلة، التي جمعته عقول أولئك الآباء والأسلاف، بالسهر، والمثابرة، والجد، والرحلة المضنية، التي أكلت من أجسادهم، وبرت عظامهم، وأنهكت قواهم، فخلفوه لنا، خزائن عظيمة، ممتلئة رفوفها بمئات الألوف من كتب النحو والصرف والآداب وتاريخها، والشعر، وفنون النثر، والحكم، والأمثال، وغير ذلك مما لا تكاد أصابع الحصر تأتي عليه عدّاً.
ولا يتوهَّمنّ متوهم أنني أدعو إلى نبذ كل ما نزل بدارنا وحلَّ بأرضنا من ديار العجمة، سواءٌ أكان ذلك في الأسلوب، أم كان في المعاني، أم كان في طرائق البحث والتفكير، أم كان في الإبانة والتحقيق والاستكشاف، أم كان في اقتباس الصور والتشبيهات التخيلية والمحسوسة، إلى غير ذلك مما لا يؤثر على جوهر الفكر العربي، الذي عماده القرآن الكريم، على أن تظل اللغة العربية الفصيحة، التي ظلت محفوظة في دواوينها، بألفاظها، وتراكيبها هي الثوب الذي يردي هذا الذي قبلناه في ديارنا مما وفد إلينا من ديار العجمة.
وأخيراً أيها السادة؛ فأنا مورد أمثلة قليلة من مفردات وتراكيب من ابتكارات مبتكري القواعد اللغوية الجديدة، شاعت في الأمة، حتى استقرت، وامتلأت بها قناعة كتابنا، والأمثلة كثيرة جداً، نكتفي بإيراد قدر يسير منها، فعل فيها ما يذكر بغيرها، فيبعث في أدبائنا روح البحث عن لغتهم الضائعة فيه الذاهبة بعيداً عنهم، فمما يجري على ألسنة أقلام “تواجد” ويعنون (وُجد) والتواجد غير الوجدان، إذ التواجد من الوجد، والوجْد بتسكين الجيم وفتح الواو قبلها، فهو في الحب والحزن فيكون التواجد، إظهار الفرح أو الحزن بما تتركه انفعلاتهما النفسية من آثار على أعضاء الإنسان وحواسه، ومنه أيضاً: كلمة، (أكفياء)، ويريدون بها جمع كلمة كفءْ، بضم الكاف، وهذه الكلمة لا تجمع على أكفياء بل تجمع على (أكفاء) بهمزة في أولها ومن غير ياء بعد الفاء، أو على (كِفاء) من غير همزة قبل الكاف، وأما ما تتداوله الأقلام من(أكفياء) فليس لها سبيل إلى الصحة.
ومنه أيضاً: قولهم: (نفس الشيء) يريدون بذلك: (الشيء نفسه) أي تأكيد الشيء المؤكد المعنوي:(نفس) لكنهم قلبوه، فجعلوا المؤكّد المعنوي مكان المؤكّد، والعكس، والصواب في هذا التركيب أن يراد بكلمة النفس ما جاء في نحو قوله تعالى:(تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك). لكنهم لم يريدون النفس بهذا المعنى في هذا التركيب الذي يستعملونه.
ومنه أيضاً: كلمة (التحديث) يريدون بها، التجديد أو قريباً منه، وهذه الكلمة مصدر للفعل حدَّث: بتضعيف الدال، أي: تكلمه أما الفعل الثلاثي: (حَدَثَ) بفتح الدال من غير تضعيفها، وهو نقيض الفعل(قَدُم) فمصدره: أما (حدوث) وإما (حداثة)، والفرق بين الفعلين (حدَّث) بتضعيف الدال و(حدث) من غير تضعيف، يظهر اسم الفاعل، فاسم الفاعل من الأَول (محدَث) ومن الثاني (حادث) وكل واحد من الفعلين يختلف في معناه عن الآخر، وإن اشتركا في أصل الاشتقاق، وهذا من خصائص اللغة العربية. ومنه أيضاً: كلمة الزوج، ويريدون بها الاثنين معاً، وهذا خطأ، إذ إن كلمة الزوج مفرد، مثناها(زوجان)، ومن ذلك قوله تعالى:(فيهما من كل فاكهة زوجان) وقوله (احمل فيها من كل زوجين اثنين) ويقال للرجل والمرأة (زوجان) وتطلق كلمة زوج على كل منهما من غير تاء التأنيث للمرأة، وبها أيضاً. ومنه أيضاً: توأم، يريدون بها الوليدين اللذين ولدا معاً، والصواب (توأمان). وأما توأم فهو مفرد لهذا المثنى، وهذا غيض من فيض، وما أردت إلا التمثيل، ولعل الله يوفق لتتبع تلك الأخطاء ولتصويبها وتنبيه الناس إليها، وتذكيرهم بالعودة إلى لغتهم التي وهبهم الله إياها، وكرّمهم بالنطق بها
-السبيل-