أنتم المنصورون

السبت 2 صفر 1437//14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. سلمان العودة
جاءت قبائل من العرب تسمى (عضلٌ والقارة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إن فيها إسلاماً، وترغب أن يرسل لها بعض المعلمين، فأرسل سبعة من خيرة أصحابه، فغدروا بهم على ماء يسمى ماء الرجيع، وقتلوا بعضهم، وأسروا بعضهم، وكان ممن أسر: “خبيب بن عديّ الأنصاريّ”.
أخذوه وباعوه لأهل مكة، وعزم أهل مكة على قتله، وكان محبوساً في بيت إحدى الأسر، فطلب مرة سكيناً ليزيل بها شعره فأعطوه، ثم تسلل إليه أحد الأطفال فأخذه وأجلسه على حجره..
رأت صاحبة المنزل هذا ففزعت وخافت أن يقتله ثأراً لنفسه، وأدرك ما يدور في خلدها، فابتسم وقال: أتخافين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل إن شاء الله!
وحضنه وقبّله وأرسله لأمه!
هذه أخلاق رجال محمد صلى الله عليه وسلم في حفظ الذمم، وعدم إيذاء الأبرياء، والتسامي عن الأحقاد والضغائن..
قدّموه ليقتلوه، فطلب أن يمهلوه ليصلي ركعتين، فصلى صلاة خفيفة، وقال: لولا أن تظنوا أني أطلت الصلاة خوفاً من الموت لأطلتها!
وسألوه: أتحب أن محمداً مكانك؟
فقال: والله ما أحب أني في أهلي وأن محمداً تصيبه شوكة في رجله!
هذا انتصار الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
إنها اللحظة التى يعيا فيها الشاعر، ويؤمن فيها الكافر، ويصدق فيها الكاذب.
ويبدو أنه أحب أن يبعث رسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه وإلى أهله وأسرته، وعلم أن أفضل وسيلة لذلك هي الشعر حيث يحفظه العرب ويتناقلونه، فأنشأ يقول:
لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا قبائلهم واستجمعوا كلّ مجــــــــــمّع
وكلهم مبدي العداوة جاهـــــــــــــدٌ علي لأني في وثـــــــــــاق مضيــــــــــــــــــــع
وقد جمّعوا أبناءهم ونســـــاءهم وقرّبت من جذع طـــــــــــويل ممنّــــع
إلى الله أشكو كربتي بعد غربتي وما جمّع الأحزاب لي حول مصرعي
فذا العرش صبّرني على ما يراد بي فقد بضّعوا لحمي وقد يئس مطمعي
وقد خيّروني الكفر والموت دونه وقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وما بي حـــــــــــــــذار الموت أنّي ميّتٌ ولكن حذاري جحـــــــــــــــــم نار ملفّع
وذلك في ذات الإله وإن يشــــــــــــأ يبارك على أوصـــــــــــال شلو ممزّع
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا على أيّ جنب كان في الله مصرعي
ولست بمبد للعدوّ تخشّعًـــــــا ولا جزعًا إنّي إلى اللـــــه مرجـــعي
معانٍ نبيلة في الصبر، والثبات، والتسليم، والثناء على الله، والشكر على اختياره للشهادة، والاستهانة بالموت..
يحتاجها أولئك الذين ابتلوا بعدو قاهر لا يرحم في فلسطين وفيما جاورها من بلاد عربية منكوبة؛ يحكمها متسلطون ظالمون، مستخفون بالدماء، مستهينون بالكرامة الإنسانية، معتدون على الصغار والكبار والرجال والنساء، باحثون عن أسباب للتنكيل بأبرياء، وجعلهم عبرة لكل من تسول له نفسه التعبير عن رأي أو التفوه بنقد مهما كان صغيراً وتافهاً..
لا شيء يعدل العافية، وقد قال صلى الله عليه وسلم للعباس: “يا عبّاس! يا عمّ رسول الله! سل الله العافية فى الدنيا والآخرة” (رواه أحمد والترمذي عن العباس)، وما أعطي أحدٌ من عطاء؛ خيرٌ وأوسع من العافية.
ولكن الحر إذا ابتلي صبر وأظهر التجلّد، واستعان بالله، فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً، كما قال إقبال:
خذوا إيمان إبراهيم تنبـــــــــــــــــت لكم في النار جنـــــــات النعـــيـــــــــــــم
لقد كان “خبيب” في أمن وسكينة ورضا، لم يقلق، ولم يتذمر أو يضجر؛ لأنه موصول الحبل بالله، منتظر لقاءه، فرح بجنته..
ولقد ذكّرنا المرابطون على ثغور الأمة بهذا المعنى، وأحيوا في عصرنا روح البسالة، والصبر، والانضباط، والتزام القيم والمبادئ الربانية؛ التي تحكم المسلم حتى في ميدان المعركة؛ فلا تطيش سهامه، ولا تضيع بوصلته، ولا يفقد الأخلاق الرسالية؛ التي هي أهم ما لديه، وهي المعبّر عن معتقده وإيمانه.
قصة “خبيب” تشبه قصة أصحاب الأخدود؛ الذين أحرقوا بالنار، وصبروا على إيمانهم، فكان فعلهم انتصاراً للمبادئ التي أصرّوا عليها وضحوا من أجلها.. حتى أطفالهم ونساؤهم أحرقوا ولم يتزحزحوا عن عقيدتهم.
وانتصر الله لهم بعقاب السلطة التي قتلتهم وزوالها شر زوال.
وانتصر لهم بأن جعل الملائكة تستقبلهم بالروح والريحان، وتتنزّل عليهم في اللحظة الصعبة: “ألّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون” (فصلت: 30).
وانتصر لهم بأن خلّد ذكرهم في القرآن في سورة تتلى إلى يوم الدين، وجعلهم أسوة ونموذجاً يحتذى لكل مبتلى في العالمين.
إنها صورة من صور النصر الحقيقي؛ الذي يعز فهمه على النفوس الكثيفة الغليظة المثقلة بالماديات، والتى لا تضع في حسابها إلا لحظتها الراهنة وكأنها الدهر كله، ولا تضع في حسابها إلا رقعتها الجغرافية وكأنها الكون كله، ولا تضع في حسابها إلا النمط المادي المشهود وكأنه الحياة كلها..
“والله واسعٌ عليمٌ” (البقرة: 247).
“إنّا لننصر رسلنا والّذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الأشهاد” (غافر: 51).
“ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنّهم لهم المنصورون. وإنّ جندنا لهم الغالبون” (الصافات: 171-173).
السبيل

اقرأ أيضا  منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الحفاظ على سمعة الإسلام
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.