الإعجاز اللغوي عند النبي

الثلاثاء 8 جمادى الثانية 1438 الموافق 7 مارس/آذار 2017 وكالة معراج للأنباء الإسلامية

د. محمد بن عبدالسلام

1- فالقرآن العظيم يتميَّز بنظْمه البديع، المخالف لكل نظمٍ معهود في  لسان العرب وفي غيرها؛ لأن نظمه ليس من نظْم الشعر في شيء، وكذلك قال ربُّ العزة الذي تولَّى نظْمه: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾ [يس: 699].

وفي صحيح مسلم: أن أُنيسًا أخا أبي ذرٍّ قال لأبي ذرٍّ: لقيت رجلاً بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسلَه، قال أبو ذر: فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر، كاهن، ساحر – وكان أنيس أحد الشعراء – قال أُنيس: لقد سمِعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضَعت قوله على أقراء الشعر – أي: على بحوره وأوزانه التي تَجمعه – فلم يَلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله، إنه لصادق وإنهم لكاذبون[1].

وكذلك أقرَّ عُتبة بن ربيعة أنه ليس بسحرٍ ولا شعر، لَمَّا قرأ عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “حم فُصِّلت”، فاعترَف عتبة – على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة والبلاغة – بأنه ما سمِع مثل القرآن قطُّ، فكان في هذا القول مُقرًّا بإعجاز القرآن له ولأمثاله من المشهورين بالفصاحة والقدرة على الإبانة[2].

2- كما يتميَّز القرآن بأسلوبه المخالف لجميع أساليب العرب؛ من حيث ما  يتميَّز به من الخصائص والسمات الأسلوبية التي تميِّزه عما سواه من كلام العرب؛ سواء في ألفاظه أو تراكيبه؛ وذلك أن لكل كاتب أسلوبًا خاصًّا يُميزه عن غيره؛ ذلك بلزومه لازمة أسلوبية بعينها، فيكون له من السمات والخصائص الأسلوبية ما يُميزه عن غيره، وإن اشترَك مع بقيَّة أفراد نظامه اللغوي في أغلب السمات والخصائص.

أما القرآن، فقد عُرِف بخصائصه الأسلوبية العديدة التي تميَّز بها عن سائر أساليب الفُصحاء والبُلغاء من العرب؛ مما جعل له نمطًا فريدًا، وأسلوبًا متميزًا عن غيره من كلام العرب، على اختلاف أنواعه وضروبه بين شعرٍ ونثرٍ.

فتميَّز القرآن – بأسلوبه الخاص في مطالع سوره – بتوظيف الحروف المقطَّعة، والقسم، وغير ذلك، كما تميَّز في مقاطعه باعتماد نظام الآية، مخالفًا نظام البيت الشعري والجملة النثرية المعهود في كلامهم، كما تميَّز بأنواع من الجَرْس والتأثير تُخالف المعهود من أوزان الشعر وأسجاع العرب في كلامهم، فلم يَغلب عليه السجع، ولم يتكلَّفه؛ وإنما جاءت فواصله منسجمةً متوازنة، عَذبة الجَرْس والنَّغم.

3- كذلك فقد تميَّز بأساليبه، فلم يَقتصر على الأسلوب العقلي المنطقي  الجاف، ولم يعتمد الأسلوب الوِجداني العاطفي وحْده؛ وإنما مزَج في خطابه بين خطاب العقل والوِجدان، فدعا إلى التفكُّر والتأمُّل، فقال: ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ﴾ [البقرة: 219]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 377]،  إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تُخاطب العقل.

وخاطَب القلب والحِس، والمشاعر والوِجدان، فرغَّب في رضوان الله تعالى ومحبَّته، ودار كرامته وحُسن ثوابه، ورهَّب من سَخَطه وعقابه، وما أعدَّ للظالمين في دار الخِزي من العذاب والهَوان؛ فجمَع بين الترهيب والترغيب، والخوف والرجاء، والعقاب والثواب، وخطاب العقل وخطاب الوِجدان، جمع بين الإخبار والإنشاء، وجمع في الإخبار بين التقرير والتصوير، وبين الحقيقة والتخييل، وبين التقديم والتأخير، والحذف والذكر، والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب، ونوَّع في الإنشاء بين الأمر والنهي، والاستفهام والدعاء، والتمني والرجاء، وجمَع في بيانه بين التشبيه والاستعارة والكنايات، وما عهِدته العرب في كلامها من المجازات، وغير ذلك من طرق الكلام.

وجمَع في بديعه بين الالتفات في الخطاب، والطباق والمقابلة، ورعاية الفواصل، والجناس، والمُشاكلة، ورعاية النظير، والجمع والترتيب، وحُسن التقسيم، وقوة الحُجة، وصحة القياس، وصدق التعليل، وبَراعة الاستهلال، وحُسن الختام، والأسلوب الحكيم، وغير ذلك من أنواع البديع المعروفة المقرَّرة، مما عُرِف به القرآن، وتميَّز به خطابُه، وصُنِّفت فيه المصنَّفات والعلوم.

4- ومن إعجازه اللغوي كذلك: الجزالة التي لا تتأتَّى من مخلوق بحالٍ،  ونعني بها قوة الألفاظ وفصاحتها، مع تجنُّب الغريب والمهجور، والركيك والعامي المُبتذل، والقبيح المُستهجن، ورعاية المناسبة بين الألفاظ بما لها من صوت وجَرْسٍ، وبين المعاني من حيث الفخامة والرِّقة، ونحو ذلك، وتأمَّل ذلك مثلاً في سورة ق: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 1 – 88] إلى آخرها.

وقوله – سبحانه – في سورة الزمر: ﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ  فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الزمر: 67 – 700] إلى آخر السورة.

وكذلك قوله – سبحانه – في سورة إبراهيم: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ  الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي  مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 42 – 466] إلى آخر السورة.

قال ابن الحصار: فمن علِم أن الله هو الحق، علِم أن مثل هذه الجزالة لا تَصِح في خطاب غيره، ولا يَصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم ﴾ [غافر: 16]، ولا أن يقول: ﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الرعد: 133].

ثم قال: وهذه الثلاثة – من النظْم والأسلوب والجزالة – لازمة كل سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميَّز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقَع التحدي والتعجيز، ومع هذا فكل سورة تَنفرد بهذه الثلاثة، فهذه سورة الكوثر: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 – 33]، ثلاث آيات قِصار، وهي  أقصر سورة في القرآن، وقد تضمَّنت الإخبار عن مُغيَّبين:

أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وعظمته وسَعته، وكثرة أَوانيه، وذلك يدل على أن المُصدقين به أكثر من أتْباع سائر الرسل.

والثاني: الإخبار عن الوليد بن المُغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مالٍ وولدٍ على ما يقتضيه قول الحق: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ﴾ [المدثر: 11 – 144].

ثم أهلَك الله ماله وولده، وانقطع نَسْله، ورَد هذا في سورة الكوثر؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 – 33]؛ حيث وعَد الله تعالى نبيَّه بالكوثر، وتوعَّد مَن آذاه – وهو الوليد بن المغيرة – بالبتْر والعذاب[3].

5- ومن إعجازه اللغوي كذلك: التصرُّف في لسان العرب على وجه لا  يستقل به عربي، حتى يقع منهم جميعًا على إصابته في وضْع كلِّ كلمة وحرف موضعَه.

6- ومن إعجازه اللغوي كذلك: التناسُب في جميع ما تضمَّنه ظاهرًا وباطنًا من غير اختلافٍ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 822].

وإليك هذه النماذجَ من الأمثلة التي هي غَيض من فيض، وقليل من كثير، بل بعضٌ من كل؛ لنتلمَّس من خلالها هذا الإعجاز الذي كان محلَّ التحدي والتعجيز لأبلغ من تكلَّم بالعربية حتى وقتنا هذا، بل حتى قيام الساعة:

أ- قال الله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 1799]: ففيها من أوجه البلاغة والبيان ما لا يُمكن الإتيان بمثلها، وقد حاوَل البلغاء والفصحاء التعبير عن مضمون معناها، فقالوا: القتل أنفى للقتل، وقالوا: قتْل البعض إحياءٌ للجميع، وقالوا: أكثِروا القتل ليقلَّ القتل، وكل هذه الجمل لا تَفي بما وفَت به الآية الجليلة.

ب- قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 522]، وذلك في فرائض الله وفي سنن رسول الله – صلى  الله عليه وسلم – ما يأمران به ويَنهيان عنه، ويخاف مخالفة الله وعقابه وحسابه، ويَتقيه فيما بقِي من عمره في جميع أمره، فهم الفائزون في المبدأ والمعاد، وهذا القول – مع وجازة لفظه – جامعٌ لجميع الضروريات، وحُكِي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان يومًا نائمًا في المسجد، فإذا برجل قائم على رأسه يشهد بشهادة الإسلام، ثم أعلَمه أنه من بَطارقة الروم، وأنه من جُملة مَن يُحسن فَهْم اللغات من العربية وغيرها، وأنه سمع رجلاً من أُسَراء المسلمين يقرأ آية من كتاب المسلمين، فتأمَّلها، فإذا هي جامعة لكلِّ ما أنزَل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة، ألا وهي: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 522].

ج- حُكِي أن طبيبًا نصرانيًّا سأل الحسين بن علي الواقدي: لماذا لم يُنقل  شيء في كتابكم عن علم الطب، والعلم علمان: علم أَديان، وعلم أبدان؟ فقال الحسين: إن الله – عز وجل – بيَّن عِلم الطب كله في نصف آية، في قوله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 311]؛  أي: كلوا واشْرَبوا ما أُحِلَّ لكم من المطعومات والمشروبات، ولا تُسرفوا؛ أي: لا تتعدَّوا إلى الحرام، ولا تُكثروا الإنفاق المُستقبح، ولا تتناوَلوا مقدارًا كثيرًا يَضرُّكم، وأنتم بغير حاجة إليه، ثم سأل الطبيب: أقال نبيُّكم شيئًا في هذا الأمر؟ فقال الحسين: إن نبيَّنا جمع الطب في ألفاظ يسيرة؛ حيث قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، حسْب الآدمي لُقيمات يُقمِنَ صُلبه، فإن غلَبت الآدميَّ نفسُه، فثُلُث للطعام، وثُلُث للشراب، وثُلُث للنَّفَس))[4].

د- أن الله تعالى تحدَّى به العرب الفصحاء والبلغاء، والذين عُلِم كراهيتُهم  وتحدِّيهم وترصُّدهم لمحمد – صلى الله عليه وسلم – تحدَّاهم الله تعالى بالإتيان بمثل القرآن، فقال: ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ [الطور: 344]، فلما عجَزوا – مع حرصهم على النيل من محمد صلى الله عليه وسلم – خفَّف الله التحدي بأن يأتوا بعَشر سورٍ من مثله، فقال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾[هود: 133].

ثم خفَّف التحدي بعد عجزهم إلى أن يأتوا بسورة واحدة، فقال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 388].

هـ- ثم كرَّر التحدي وقال: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 244].

فعجَزوا، وتحدَّاهم الله تعالى بهذه الصيغة القاطعة: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾، ومع ذلك لم يستطيعوا حَراكًا، فلما عجَزوا عن معارضته والإتيان  بسورة تُشبهه مع كثرة الخُطباء فيهم البُلغاء – نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن، فقال: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 888].

هذا، وقد كانوا أحرصَ الناس على إطفاء نوره، وإخفاء أمره، فلو كان في مَقدرتهم معارضته، لعدَلوا إليها قطعًا للحق، ولم يُنقَل عن أحدٍ منهم أنه حدَّث نفسه بشيء من ذلك ولا رامَه، بل عدَلوا إلى الإعراض واللَّغو والجدَل تارة، وإلى الاستهزاء تارة أخرى.

فتارة قالوا: سحرٌ، وتارة قالوا: شعر، وتارة قالوا: أساطير الأولين، كل ذلك  من التحيُّر والانقطاع، ثم رَضُوا بخوض الحروب وإعمال السيوف في أعناقهم، فلو علِموا أن الإتيان في قدرتهم، لبادَروا إليه؛ لأنه كان أهونَ عليهم، وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه وأثار حميَّته، ثم سأله أن يقول في محمد – صلى الله عليه وسلم – قولاً يُفيد أنه كارهٌ له، فقال: وماذا أقول؟ والله ما فيكم رجلٌ أعلم بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله ما يُشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وأنه لمُثمر أعلاه، مُغدق أسفله، وإنه ليَعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليَحطِم ما تحته، قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: دعني حتى أفكِّر، فلما فكَّر، قال: هذا سحر يُؤثَر، يَأثُره عن غيره”[5].

قال ذلك هروبًا من مواجهة الحق والحقيقة، وقد علِم وعلِموا أجمعون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يَلق أهل كتاب، ولم يَقم على أحدٍ منهم، فضلاً عن السحر والكهانة؛ ولذلك توعَّد الله الوليد بقرآن أنزَله في قوله: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا* وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا *سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [المدثر: 11 – 266].

ثم لا يزال التحدي قائمًا، فأين العقول يا أُولي الألباب؟![6].

وقد جاء في نفس الرواية السابقة أن عُتبة كلَّم النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما جاء به من خلاف قومه، فتلا عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – قول الله تعالى: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ……. ﴾ [فصلت: 1 – 3] إلى قوله: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 133]، فوضَع عتبة يده على فم النبي،  وناشَده الرحمَ أن يكفَّ.

والقرآن كله على هذا الإعجاز من البناء والتركيب، فانظر أيها العاقل المُنصف، وسلْ نفسك: ماذا تنتظر بعدُ؟!

[1] رواه مسلم (2473).

[2] دلائل البيهقي (508)، وروى القصة بكاملها ابن مَعين في تاريخه (3/ 544).

[3] مقدمة القرطبي في تفسيره (1/ 105)؛ بتصرُّف.

[4] رواه أحمد (4/ 132 – 17225)، والترمذي (2830)، وابن ماجه (3340)، وصحَّحه الألباني (22655) في السلسة الصحيحة عن المقدام بن معديكرب – رضي الله عنه.

[5] الحاكم في المستدرك (3872)، والبيهقي في الشُّعب (134) بسند  جيد؛ (تعليق الذهبي في التلخيص)، وصحَّحه الألباني في صحيح السيرة النبوة (1/ 158).

[6] دلائل النبوة؛ للبيهقي (505).

وكالة معراج للأنباء الإسلامية

اقرأ أيضا  نبينا هو المثل الأعلى والقدوة الصالحة
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.