الحجاب ودعاة التحرر
الإثنين 24 صفر 1437//7 ديسمبر /كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
كريمة دوز
الحجاب ودعاة التحرر
تُعتبر قضية تحرير المرأة من القضايا القديمة الجديدة، التي ظهرَت في نهاية القرن التاسع عشر ميلاديًّا وبداية القرن العشرين، أو بالأحرى بعد سقوط الخلافة العثمانيَّة ودخول المستعمِر إلى بلاد المسلمين، في هذه الفترة ابتعثَت ثلَّة من شباب الأمَّة العربية إلى أوربا فانبهرَت بالثقافة الغربيَّة، ولما عادَت إلى ديار المسلمين بدأَت تنادي بتحرير المرأة، وكانت أُولى هذه الدَّعوات في مصر؛ حيث جَنَّد مجموعةٌ من المفكرين أقلامَهم للدِّفاع عن حقِّ المرأة في نَزع الحجاب والخروج سافرة الوجه.
♦ المطلب الأول: قاسم أمين ودعوة التحرر:
وُلد قاسم أمين في أول ديسمبر عام 1863م بالإسكندرية من أبٍ كردي، التَحق بمدرسة رأس التين الابتدائيَّة بالإسكندرية، وفي سنة 1881 م نال إجازة الحقوق، ثمَّ عمل بمكتب صَديق والده، وانضمَّ للكوكبة التي كانت تُحيط بجمال الدين الأفغاني؛ حيث التقى بمحمد عبده، وسعد زغلول، ليَرحل بعد ذلك إلى فرنسا ليُتمَّ تعليمَه هناك، ويبدأ انبهاره بالعالم الجديد والحياة الغربيَّة، حتى صرَّح بأنَّ: “أكبر الأسباب في انحطاط الأمَّة المصرية هو تأخُّرها في الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير”[1].
وقد كان لدراسة قاسم أمين بفرنسا الأثرُ الكبير على فِكره، ويظهر ذلك من خلال كتابَيه: “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”؛ “ليكون بذلك أول مسلِم حمل لواء الدَّعوة إلى السُّفور وتحرير المرأة على الطريقة الغربيَّة، ولَعلَّه لم يكن يَجرؤ على ذلك لولا التربية الفرنسيَّة التي تلقَّاها على أيدي أساتذته الفرنسيين في القرن 19م”[2].
♦ كتاب “تحرير المرأة”:
أمَّا عن ظروف كتابته لـ “تحرير المرأة”، فقد جاء نَتيجة تهديد الأميرة “نزلي” له بعدما ألَّف كتاب المصريين باللُّغة الفرنسية، ردَّ فيه على المستشرق داركير مدافعًا عن الحجاب، ومبرِزًا أنَّ الحجاب عندما فُرض على المرأة فُرض لتحريرها لا لتقييدها كما يزعم داركير، وفي هذا الصَّدد يقول محمد إسماعيل المقدم: “غضبَت الأميرة ممَّا فعلَه قاسم أمين، وقالت للشيخ محمد عبده قولًا شديدًا بعد أن هدَّدَت وتوعَّدَت، وإلى أن أقنع “قاسم” بضرورة تَصحيح خطئه والعدول عن دِفاعه عن الحجاب، فخرج على البلاد بكتابِه “تحرير المرأة” سنة 1899 م، ودعا فيه إلى نَفس ما سبق أن دعا إليه “فهمي” عدا مسألة زواج المسلمات من الأقباط”[3].
وقد انصرف جهده في الكتاب إلى التَّدليل على مزاعمه من أنَّ حجاب المرأة بوَصفه السائدِ ليس من الإسلام، “وتعرَّض في كتابه – إلى جانب قضيَّة الحجاب – لقضايا اشتغال المرأة بالشؤون العامَّة، وتعدُّد الزَّوجات، والطَّلاق، وانحازَ في كلِّ هذه القضايا إلى ما يطابِق نظرةَ الغربيين لها”[4].
ومن أهمِّ الأفكار التي جاءت فيه بخصوص الحجاب:
♦ أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلاميَّة؛ لا للتعبُّد ولا للأدب؛ بل هي من العادات القديمة السَّابقة للإسلام والباقية بعده.
يقول موضحًا كيف دخل النِّقاب إلى مصر: “وإنَّما هي عادة عرضَت عليهم من مخالطة بعض الأمم، فاستحسَنوها وأخذوا بها وبالَغوا فيها، وألبسوها لباسَ الدِّين كسائر العادات الضارَّة التي تمكَّنَت في النَّاس باسم الدِّين، والدين براء منها”[5].
وقد حاول قاسم أمين أن يسوغ مسلَكه في مسألة الحجاب بإيراد نصوص قرآنيَّة وأحاديث نبويَّة بعد أن يحرِّف معانيَها؛ ليسخِّرها في خِدمة أفكاره، وليلبس على ضحاياه بأنَّه لا يريد بالإسلام سُوءًا، وإنَّما هو ناصحٌ أمين[6].
♦ ردود الفعل على كتاب قاسم أمين:
تصدَّى علماء المسلمين لدَعوى قاسم أمين القائلة بأنَّ النِّقاب ما هو إلَّا عادة، “وتجلَّت ردود الفِعل في مَوجة عارِمة من المعارضة، كان أكثرها مقالات صحفيَّة، وقد اتَّهمه المعارضون بالهذيان، وهاجمه علماءُ الدين هجومًا عنيفًا، وحكم الفقهاء بأنَّه خَرْقٌ في الإسلام ومروقٌ في الدين، وعدَّها الكثيرون ضربًا من المبالغة في تقليد الغربيين”[7].
ولم يكتفِ أنصار الحجاب بالمقالات العنِيفة؛ بل ألَّفوا الكتبَ العديدة، تبطِل شبهات قاسم أمين، وتقيم الحجَّةَ عليه من أدلَّة الشريعة المطهَّرة، ومن هذه الكتب:
♦ “السنَّة والكتاب في حكم التربية والحجاب”؛ محمد إبراهيم القاياتي.
♦ “الجليس الأنيس في التحذير مما في تحرير المرأة من التلبيس”؛ محمد أحمد البولاقي.
♦ “خلاصة الأدب”؛ حسين الرفاعي.
♦ “نظرات في السفور والحجاب”؛ مصطفى الغلاييني.
♦ “قولي في المرأة”؛ مصطفى صبري.
وغيرها من الكتب التي أُلِّفت كردِّ فِعلٍ طبيعيٍّ على مزاعم قاسم أمين ومَن نَحا نحوه في كون حجاب المرأة عادَةً ليست من الدين.
لكن يَبقى هذا الكتاب غير واضح، ولم يَكشف عن توجُّه قاسم أمين مقارنة بكتابه “المرأة الجديدة”؛ الذي باتَت دعوته فيه جليَّة في تغريب المرأة المسلِمة، وبأن تسير سير المرأة الغربية في منهج الحياة وطريقة التفكير.
يقول محمد إسماعيل المقدم: “فلم يَلبث قاسم أمين حين واجَه هذه المعارَضة التي أحرجَته كثيرًا أن أسفَر عن وجهِه الحقيقي، وخلع عنه ثوبَ الحياء وقِناع التديُّن، وكشف في جرأةٍ وصراحة عن أهدافه المغرِضة في كتابٍ ظهر في العام التالي، وهو كتاب: “المرأة الجديدة”، الذي بدا فيه أثر الحضارة الغربيَّة واضحًا”[8].
♦ كتاب “المرأة الجديدة”:
ألَّف قاسم أمين هذا الكتاب بعد سنة من صدور كتابه “تحرير المرأة” سنة 1900 م، ويقصد قاسم أمين بالمرأة الجديدة؛ تلك المرأة التي تحرَّرَت من قُيود الدِّين، قائلًا في مقدمة كتابه: “المرأة الجديدة هي ثَمرة من ثمرات التمدُّن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب على إثر الاكتشافات العلميَّة التي خلَّصَت العقلَ الإنساني من سلطة الأوهام والظُّنون والخرافات، وسلمَته قيادةَ نفسه، ورسمَت له الطريقَ التي يجب أن يسلَكها”[9].
وبهذه المقدِّمة التي تدلُّ على منهج قاسم أمين الغربي وتأثُّره بالثقافة الغربيَّة، يَستطرد قائلًا في وصف المرأة المحجَّبة: “والمرأة التي تَلتزم بستر أطرافها والأعضاء الظَّاهرة من بدنها، بحيث لا تتمكَّن من المشي ولا من الركوب، بل لا تَتنفَّس ولا تنظر ولا تتكلَّم إلَّا بمشقَّة – تُعدُّ رقيقة؛ لأنَّ تكليفها بالاندراج في قِطعةٍ من القماش إنَّما يُقصد منه أن تَمسح هيئتها، وتَفقد الشكلَ الإنساني الطَّبيعي في نَظر كلِّ رَجل ما عدا سيِّدها ومولاها”[10].
كتاب قاسم أمين هذا ما هو إلَّا امتداد للكتاب السَّابق له “تحرير المرأة”، وخلاصة ما يُمكن الخروج به من كِتابه هذا أنَّ المرأة المسلِمة بالتزامها بأحكام الشَّرع ستظلُّ جاهلةً متخلِّفة، لا ترقى لنظيرتها الغربيَّة التي تحرَّرَت فأعانَت مجتمعها على التقدُّم!
وقد كان لكتابَي قاسم أمين الأثرُ الكبير على تَخريب المجتمع المصري وضياع الأخلاق؛ كما أشار لذلك محمد فريد وجدي قائلًا: “إنَّ دعوة قاسم أمين قد أحدثَت تدهورًا مريعًا في الآداب العامَّة، وأحدثَت انتشارًا مفزعًا لمبدأ العزوبة، وأصبحَت ساحات المحاكِم غاصَّة بقضايا هَتك الأعراض، وهرب الشابَّات من دورهنَّ”[11].
توفِّي قاسم أمين سنة 1908م، واستمرَّت دعوتُه للتبلور وتجسَّدت على أرض الواقع بتأسيس جمعيَّة نسائية تدافِع عن حقوق المرأة، وتطالِب بما طالَب به “مرقص فهمي” وقاسم أمين، لتكون مصر بذلك أول بلدٍ عربي عَرَف ما يسمَّى بالاتحاد النِّسائي.
المطلب الثاني: الحركة النسائية (الاتحاد النسائي):
قبل أن تتأسَّس جمعيَّة الاتحاد النِّسائي، خرجَت نساء مصر سنة 1919 م في مظاهرةٍ بقيادة هدى شعراوي يُنادِينَ فيها بالتحرُّر، فاجتمعوا في أحد مَيادين مصر وقمنَ بنَزع الحجاب وحَرْقِه أمام الجميع، ومن ذلك الوقت أصبح الميدان يسمَّى بميدان التحرير.
جاء في كتاب أعلام وأقزام: “وقد اشتدَّ الحماس لهذه الحركة في فترة عصيبة حرِجة (…)؛ ذلك أنَّه في سنة 1919 م هبَّت مصر في وَجه الاستعمار، ووقف الشعبُ بشجاعة مع عدَد من المخلِصين حقيقة يطالِب بحقِّه من الحريَّة والحياة، وفي تلك الظُّروف الصَّاخبة التي تميَّزَت بالغليان والاضطراب، وفي غمرة الثَّورة العارِمة نشطَت دعوتان مريبَتان متآخِيتان؛ إحداهما استغلَّت ظروفَ الثَّورة لِسلخ الأمَّة عن انتمائها؛ وهي الدعوة إلى اللادينية تحت ستار الشِّعار الذي رفعَته الزعامات المصطنعة: “الدين لله والوطن للجميع”، والأخرى دعَت إلى نَسف الفضائل الإسلاميَّة من خلال دَعوتها إلى تحرير المرأة”[12].
♦ الاتحاد النسائي:
تأسَّس الاتحاد النسائي بمصر سنة 1924 م بعد عودة مؤسِّسته هدى شعراوي [13] من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عُقد في روما عام 1922 م، ونادَت بجميع المبادئ التي نادى بها مرقص فهمي وقاسم أمين[14].
وقد كانت هدى شعراوي من المبهورات بالغرب والمعجبات بكلِّ ما فيه، حتى عيوب العامَّة وشراسَة أخلاقهم؛ إذ تقول في إحدى كلماتها: “وقد أعجبني في باريس كلُّ شيء حتى شراسة أخلاق الرعاع فيها؛ لأنَّها لا تَخلو من خفَّة الروح؛ فالفرنسيون أشخاص منفردون بعبقريَّتهم، مستقلُّون في أفكارهم وطِباعهم، وأعمالهم وصِفاتهم، وحتى في عيوبهم”[15].
ولم تكتفِ هدى شعراوي بالرَّفع من الحضارة الغربيَّة وتمجيد فرنسا فقط، وإنَّما كانت تَعتبر كمال أتاتورك الطَّاغية المثلَ الأعلى للبلاد الإسلاميَّة، إذ تقول في خطبة أمامه: “إذا كان الأتراك قد اعتبروك عن جدارة أباهم، وأسموك (أتاتورك)، فأنا أقول: إنَّ هذا لا يَكفي، بل أنت بالنسبة لنا (أتا الشرق)”[16].
ومن أبرز النساء اللاتي قُدن حركة السُّفور مع هدى شعراوي:
♦ أمينة السعيد: وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دَعا إلى تَغريب مصر، ترأَّسَت مجلَّة حواء، وهاجمَت الحجاب، وسخَّرَت مجلَّتَها حواء للهجوم على الآداب الإسلامية؛ حيث قالت مستهزئةً بالحجاب: “ما نراه اليوم شائعًا بين الفتيات والسيِّدات ممَّا يسمُّونه “الزِّي الإسلامي” فالإسلام منه بَراء؛ لأنَّه تقليد حرفي لزيِّ الرَّاهبات المسيحيات”[17].
وتقول أيضًا: “إنَّ هذه الثياب الممجوجة قشرةٌ سَطحية، لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنَّة، أو اكتساب رضا الله، فتيات يَخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المَنظر، يزعمنَ أنَّها “زيٌّ إسلاميٌّ”، لم أجد ما يعطيني مبررًا منطقيًّا معقولًا لالتجاء فتيات على قَدرٍ مذكور من التعليم إلى لفِّ أجسادهنَّ من الرأس إلى القدمين، بزيٍّ هو والكفن سواء”[18].
وإذا ما راجعنا آراءها حول “تحرير المرأة” في مجلتها حواء، سنجدها تدور حول:
1 – الدَّعوة إلى السُّفور والقضاء على الحجاب الإسلامي.
2 – الدعوة إلى اختلاط الرجال بالنساء في كلِّ المجالات.
3 – تقييد الطلاق، والاكتفاء بزوج واحدة.
4 – المساواة في الميراث مع الرجل.
5 – ألا يتحكَّم رجال الدين بآرائهم في مجال الحياة الاجتماعية.
6 – أوربا والغرب هم القدوة في كلِّ الأمور التي تتعلَّق بالحياة الاجتماعية للمرأة.
♦ نوال السعداوي: رئيسة جمعيَّة تَضامن المرأة العربيَّة التي أنشِئت عام 1982 م، ولها نفس آراء زميلاتها فيما يخصُّ حقوقَ المرأة.
وبعد أن حقَّقَت الحركة النسائيَّة في مصر شيئًا من مساعيها – وهو إخراج المرأة المسلمة سافرة الوجه – انتشرَت فِكرة الاتحادات النسائيَّة في البلاد العربيَّة، وأصبح كلُّ بلد عربيٍّ لا يَخلو من جمعيَّة نسائيَّة تنادي بتحرير المرأة، وأي تحرير هذا؟!
المطلب الثالث: الحجاب والحكومات العلمانية (تركيا – تونس: أنموذجًا):
♦ الحجاب في تركيا:
تُعتبر تركيا وريثَة الدولَة العثمانيَّة، أكبر دَولة إسلاميَّة عرفها التاريخُ، التي يمثِّل الإسلام حاليًّا فيها نسبة 99 % من السكَّان، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ تركيا تعدُّ أكثر الدول التي شهدَت صراعات حول حِجاب المرأة المسلِمة[19]؛ فمِن جملة القرارات التي اتَّخذها أتاتورك بعد هَدمه الخلافةَ الإسلاميَّة مَنعُ الحجاب في سائر مؤسَّسات الدَّولة؛ من تعليمية وغيرها، وما كان الأمر عنده مقصورًا على مَنع الحجاب، وإنَّما كان يريد إشاعةَ الفساد والإلحاد، وكان قدوةً سيِّئة لِشعبه في ممارسة هذه المنكَرات، وتمكَّن خلال خمسة عشر عامًا من وضع المرأة التركيَّة الملتزمة بدِينها في المستوى الذي كانت عليه المرأة في أوربا[20].
وقد تمَّ فَرض قانون ارتداء القبَّعة، وفرض الزيِّ الأوربي على أفراد الشَّعب، واستتبع ذلك التعرُّض لنساء الدولة، اللاتي تمَّ حَظر ارتدائهنَّ الحجاب، وتوجيههنَّ إلى إعلان السفور؛ بحجَّة تقليد الغربيَّات، ومسايرة التقدُّم، والبعد عن التخلُّف[21].
وممَّا قاله في تسوِيغِ حَربه على الحجاب: “قد رأيتُ كثيراتٍ من أخواتنا يغطِّين وجوههنَّ إذا ما رأين غريبًا يتقدم نحوهنَّ، من المؤكَّد أنَّ هذا الغطاء يضايقهنَّ كثيرًا في الحرِّ”[22].
ومن أهم ما قام به عام 1925 إجبار تركيا بأكملها، وليس المرأة فقط على هَجر الإسلام كليَّة، حتى الحرف الذي تُكتب به اللُّغة التركيَّة متشابهًا مع لغة القرآن، أمَّا نَزع حجاب المرأة التركيَّة فقد تمَّ بالإرهاب والإهانة في الطُّرُقات حين كان البوليس يقوم بنَزع حجاب المرأة التركيَّة بالقوة[23].
وفي عهد عدنان مندريس – أي في أوائل الخمسينيات – ألغَت الحكومة عددًا من القرارات الظَّالِمة التي كان قد اتَّخذها أتاتورك وخليفته عصمت أنينو، وتنفَّس المسلمون الصعداءَ طول هذا العهد، غير أنَّ العسكريين الذين كان أتاتورك يَحكمهم وهو في قبره أدركوا أنَّ قرارات مندريس كانت سببًا من أسباب بزوغ فَجر الإسلام، فما كان من قادتهم إلَّا أن قادوا انقلابًا عسكريًّا، تولَّوا إثرَه شؤونَ الحكم وأعدموا مندريس، واتَّخذوا إجراءات صارِمة ضد التديُّن والمتدينين[24].
وهكذا نزعَت نساء تركيا الحجابَ ليكون نَزع الحجاب خطوةً ضمن خطَّة علمانيَّة لإزالة كل أثَر للإسلام في تركيا.
♦ الحجاب في تونس[25]:
كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة من أكثر الحكَّام العرب إعجابًا بأتاتورك وبالنُّخبة الحاكمة في فرنسا التي نَهل منها ثقافتَه، وعندما وصل إلى سدَّة الحكم سنة 1956م عقد العزمَ على أن يسلُك الطريقَ نفسَه الذي سلكه مَن أُعجب بهم في كلٍّ من باريس وأنقرة، بل كان أكثر منهم علمانيَّة وزَندَقةً، ونستعرض فيما يلي بعضَ الأمثلة على ذلك:
♦ أصدر قانون رقم (108) الذي يَمنع ما أسماه “اللباس الطائفي”، وعندما يُذكر هذا اللِّباس يتبادر إلى الذِّهن أنَّه لباس طائفة من الطوائف الشاذَّة المنحرفة الدَّخيلة على المجتمع التونسي.
♦ تَشدُّد الدولة في تطبيق قانون اللِّباس الطائفي؛ ومن مظاهر هذا التشدُّد أنَّ الحبيب بورقيبة كان قد ظهر على شاشة التلفاز في احتفالٍ شَعبيٍّ وهو يَنزع بيده الآثمة أغطيةَ النِّساء التونسيات قسرًا عن رؤوسهنَّ وهو يقول لإحداهنَّ: انظري إلى الدنيا من غير حجاب.
♦ لا تسمح دوائر الأَمن والجوازات بمَنح المرأة بطاقة هويَّة أو جواز سفر إذا كانت محجَّبة.
♦ في المدرسة يأخذون تعهدًا من وليِّ أمر الفتاة يقرُّ فيه بأنَّ ابنته تخلَّت عن ارتداء الزيِّ الطائفي إن كانت ترتديه من قبل، ثمَّ تتَّخذ المدرسة الإجراءَ المناسِب إذا عادَت الطالبةُ لارتداء الحجاب، وقد تكون العقوبة الرَّادعة تَمزيق حِجاب المرأة أمام مَشهد عام من الطلبة؛ لأنَّ التعليم مختلط.
♦ ومن مظاهر التشدُّد في تَطبيق قانون اللِّباس الطائفي أنَّ دوائر المستشفيات والمصحَّات تَمنع علاجَ أو إسعاف الحوامِل المحجَّبات عندما يأخذهنَّ المخاض، ومن باب أولى فإنَّهم لا يعالِجون المريضات بشكلٍ عام إذا اقترفنَ جريمة لِباس الزيِّ الطائفي.
وهذه الأمثلة غَيضٌ من فَيض، تكرِّس لفترةٍ عصيبة من تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة، أصبح فيها لبس الحجاب جريمة يعاقِب عليها القانون، وقد كان فَرض هذا القانون كبداية لطَمس الهويَّة الإسلاميَّة في تونس، وحَمل الشَّعب التونسي المسلِم على تبنِّي فِكر لا يتَّصل بثقافته ولا بتراثه، ولا حتى بتاريخه.
خلاصة:
إنَّ ما يمكن أن نَخرج به من هذا العَرض التاريخي لأزمَة الحجاب في البلاد الإسلاميَّة والعربية – أنَّ الغرب كان له الدَّور الجوهري في حَملته على الحجاب؛ ففي مصر مثلًا كان دُعاة التحرُّر أو المستغربون متأثِّرين بالثَّقافة الغربيَّة أشد التأثُّر، ولعلَّ ذلك يتَّضح من خلال كتابات قاسم أمين وما نادت به هدى شعراوي وزميلاتها في الحركة النسائيَّة، غير أنَّ التجربة المصريَّة في تحرير المرأة ظلَّت محصورة ولم تلقَ تقبلًا واسعًا في المجتمع المصري مقارنةً بتركيا وتونس؛ لكون مَن حمل رايةَ هذه الدعوة هم القادَة في كِلا البلدين، وهم صنَّاع القرار، فحملوا المسلِمات على نَزع حجابهنَّ بقوة القانون.
________________________________________
[1] ينظر: عودة الحجاب؛ محمد أحمد إسماعيل المقدم، الطبعة العاشرة (1427 هـ – 2006م)، ص (1 / 33 – 34).
[2] الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر: عبدالله الشارف، الطبعة الأولى (2003م)، ص (167).
[3] معركة السفور والحجاب: محمد أحمد إسماعيل المقدم، الطبعة الأولى (1411هـ)، ص (12).
[4] نفس المرجع، نفس الصفحة.
[5] “تحرير المرأة”؛ قاسم أمين، بدون طبعة، ص (39).
[6] ينظر: “معركة السفور والحجاب”؛ محمد أحمد إسماعيل المقدم، ص (13 – 12).
[7] نفس المرجع، ص (13).
[8] “عودة الحجاب”؛ محمد أحمد إسماعيل المقدم، ص (62).
[9] “المرأة الجديدة”؛ قاسم أمين، بدون طبعة، ص (5).
[10] نفس المرجع، ص (69).
[11] “أعلام وأقزام في ميزان الإسلام”؛ سيد بن حسين العفاني، الطبعة الأولى (1424هـ – 2004 م)، ص (97).
[12] نفس المرجع، ( 1 / 104 – 105).
[13] هدى شعراوي: ولدت سنة 1879م، وهي ابنة محمد سلطان باشا، رئيس أول مجلس نيابي بمصر، توفيت سنة 1947م.
[14] ينظر: “المؤامرة الكبرى على المرأة المسلمة”؛ محمد بن عبدالله الإمام، الطبعة الأولى (1422هـ – 2002م)، (1 / 72).
[15] مجلة الوعي، أم مروة: “حقيقة الحركات النسوية المعاصرة”، العدد (238)، (ذو القعدة 1426م، كانون الأول 2006 م).
[16] “مذكرات هدى شعراوي”؛ هدى شعراوي، ص (325).
[17] أبو محمد هيثم الدرويش: “أمينة السعيد داعية التحلل”، (1 محرم 1429هـ)، ar.islamway.net
[18] “عودة الحجاب”؛ محمد أحمد إسماعيل المقدم، ص (126).
[19] ينظر: “حجاب المرأة بين الأديان والعلمانية”؛ هدى درويش، الطبعة الأولى (2005)، ص (91).
[20] “أزمة أخلاق”؛ محمد سرور، بدون طبعة، ص (130).
[21] ينظر: “حجاب المرأة بين الأديان والعلمانية”؛ هدى درويش، ص (93).
[22] “عودة الحجاب”؛ محمد أحمد إسماعيل المقدم، (1 / 205).
[23] ينظر: نفس المرجع، نفس الصفحة.
[24] ينظر: “أزمة أخلاق”؛ محمد سرور، ص (130).
[25] ينظر: نفس المرجع، ص (131 – 133).
الألوكة