“الحج والتزكية”: تزكية النفس في يوم عرفة

السبت 8 ذو الحجة 1437/  10 سبتمبر/ أيلول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

أ. د. سليمان بن قاسم بن محمد العيد

تزكية النفس في يوم عرفة
أيها المستمعون الكرام، حجاج بيت الله الحرام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا بكم مع هذه الحلقة من برنامجكم (الحج وتزكية النفس). نتأمل من خلالها فرصة الحاج في تزكية نفسه في هذا اليوم العظيم، يوم عرفة، يوم العتق من النار، يوم يباهي الله – سبحانه وتعالى – بأهل الموقف ملائكته، لما في “صحيح مسلم” من حديث عَائِشَةُ – رضي الله عنه – أنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ))[1]. وفي رواية للإمام أحمد: ((انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا))[2].
أخي الحاج:
تذكر أن نعمة الله – سبحانه وتعالى – عليك عظيمة بإدراك هذا الموقف العظيم، وأن تكون من جملة عباد الله – سبحانه وتعالى – الذين يباهي بهم ملائكته، وإن من تمام الله نعمة الله – سبحانه وتعالى – عليك أن يكتب لك عتقه من النار من جملة العتقاء، في هذا اليوم العظيم، كما ورد في الحديث السابق: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)).

أخي الحاج:
إذا كان الأمر كذلك فلتعلم أن هذا الموقف العظيم، وهذا النسك من مناسك حج هو فرصة لزكاة النفس وطهارتها، فعليك أن تحرص على هذا الفضل العظيم الذي جعله الله – سبحانه وتعالى – للواقفين بصعيد عرفات من حجاج بيت الله الحرام، ولتعلم أن هذا يحصل لك من وجوه كثيرة في هذا اليوم العظيم، ومن ذلك على سبيل المثال:

1- إن من زكـاة النفس في هذا اليوم الحرص على هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيه: فخير الهدي هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقد صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الفجر يوم عرفة في منى ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة[3]، فسار رسول الله حتى نزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء[4]فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس خطبة بليغة، ثم صلى الظهر والعصر ولم يصل بينهما شيئاً، فركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً بعرفة حتى غربت الشمس، وبدت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك الرحل، ويقول بيده اليمنى ((السكينة السكينة ))[5].

اقرأ أيضا  من الشمائل والصفات المحمدية .. العفو والرحمة

والأمر الذي يجب التنبه له هو على الإنسان يجب ألا يشق على نفسه للنزول حيث نزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والوقوف حيث وقف – صلى الله عليه وسلم -، لأن ذلك لا يتيسر خاصة في هذا الزمان مع كثرة الحجاج وشدة الزحام، بل عليه أن ينزل حيث تيسر له النزول من صعيد عرفات. ويكون موقفه داخل حدود عرفات وأن لا يدفع منه إلا بعد أن يتحقق غروب الشمس.

2- استشعار عظمة هذا اليوم: الذي يجتمع الناس فيه على صعيد واحد بلباس واحد يدعون رباً واحداً، لا فرق بين الرئيس والمرؤوس، ولا بين الأمير والمأمور، تلهج الألسن بالتضرع إلى الله، وترفع الأكف طلباً لما عند الله، وتذرف الدموع خشية وخوفاً من الله.

يتذكر بهذا اليوم يوماً آخر أعظم منه، وأشد خوفاً، يوم يجمع الأولين والآخرين في صعيد المحشر يوم القيامة، لما في “صحيح البخاري” من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أُتِيَ بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُه، فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً، ثُمَّ قَالَ: ((أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأولينَ والآخرينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ.

اقرأ أيضا  من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.

فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا.

فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ…فينتقلون من نبي إلى نبي.

حتى يأتونَ مُحَمَّدًا – صلى الله عليه وسلم – فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأنبياءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ سَـلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ… الحديث))[6]. إن تذكر هذا الموقف العظيم يجعل الإنسان يستعد له طلباً للنجاة فيه.

3- إن من تزكية النفس في هذا اليوم العظيم: الاجتهاد في الدعاء والتضرع لله – سبحانه وتعالى – والانكسار بين يديه. مع الحرص على الخلوة بالنفس، فهو أفرغ للقلب.

فيدعو الحاج بخيري الدنيا والآخرة لنفسه وإخوانه بظهر الغيب فهي دعوة مستجابة بخبر الصادق المصدوق رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لما في الصحيح عَنْ صَفْوَانَ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ الدَّرْدَاءُ، قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ فَأَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ، فَقَالَتْ: أَتُرِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ يَقُولُ: ((دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ))[7].

اقرأ أيضا  رمضان هو شهر القرآن والإطعام

4- الحرص على الدعاء الوارد في هذا الموقف العظيم: وهو قول: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) لما في “سنن الترمذي” أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[8].

أخي الحاج:
احرص في هذا اليوم العظيم على تزكية نفسك وفلاحها. لعلك تكون من العتقاء من النار في هذا اليوم العظيم.

ـــــــــــــــــــــ

[1] كتاب: الحج، حديث رقم (1348).

[2] حديث رقم (7049).

[3] يسن النزول بها قبل الزوال، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم دخل الموقف. انظر: “شرح النووي على صحيح مسلم” (8 / 180).

[4] اسم لناقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

[5] انظر: “صحيح مسلم”، كتاب: الحج، باب: حجة النبي – صلى الله عليه وسلم -.

[6] كتاب: تفسير القرآن، حديث (4712).

[7] كتاب: الذكر والدعاء، حديث رقم (2733).

[8] وهو من دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا اليوم، أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع” برقم (3269).

الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.