الحقوق السياسية للمرأة في ظل الشريعة الإسلامية

الإثنين04 جمادى الأولى1436//23 فبراير/شباط 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
حسام العيسوي إبراهيم
تمثِّل قضية المرأة سؤالاً كبيرًا يطرحه النموذجُ الثقافي الغربي على النماذج الثقافية المغايرة في عالم اليوم، وفي مقدمتها النموذجُ الثقافي الإسلامي؛ وذلك في محاولة منه لإحراجها ودفْعها نحو الإحساس بالدونيَّة، ومن ثَمَّ الاستعداد للتنازُل عن خصوصيَّتها، وتقبُّل الطرح الغربي كما هو، دون أي تمحيصٍ أو تعديلٍ أو نقدٍ.
وقد حَظِي النموذج الثقافي الإسلامي باتهامات شتَّى، أقلُّها هضْم حقوق الإنسان بشكل عام، والاعتداء على حقوق المرأة وامتهان كرامتها بشكل خاص[1].
وسوف نناقش الحقوق السياسية للمرأة في ظل الشريعة الإسلامية من خلال النقاط التالية:
1- الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية:
إن معرفة الرؤية الإسلامية من قضية المرأة، يتطلَّب معرفة الأُسس المعرفية والمفاهيم الخاصة بها؛ لتقديم تصوُّر كلي يواجه التصورات الوضعية، دون أن يُهملها أو يتجاهلها، ولا سيما أن الإطار المعرفي الإسلامي يتضمَّن المطلق، ويَنطلق من عقيدة مرتبطة بوحي، وهو ما يُميزها عن الإطار المعرفي العلماني الذي يتأسَّس على النسبية، وإخضاع كل الظواهر للقياس، واستبعاد الدين من المنهج، واعتباره موضوعًا من موضوعات الدراسة، لا منطلقًا للعلم والمعرفة، وهذا الاختلاف بين الإطار المعرفي للنموذج الإسلامي والنموذج الغربي، أدَّى إلى اختلاف السلوكيات الإنسانية والقوانين التي تُنظمها.

وتقوم الرؤية الإسلامية على ثلاثة مفاهيمَ كُليَّة، هي[2]:
1- التوحيد:
يشكِّل جوهر العقيدة الإسلامية، ومنطلقَ بناء حضارتها، الأمرُ الذي يستوجب أن يكون تحديد المنهج والمفاهيم السياسية الإسلامية موصولاً بهذه القاعدة العقدية الأساسية، التي تحدِّد رؤية الكون، ومناهج التفكير، ومسالك التفاعل الاجتماعي.

2- الاستخلاف:
يرتبط الإقرار بالتوحيد بقيام الإنسان بعمارة الأرض، وبالتالي استحقاق المنزلة التي لا تَعلو عليها سوى منزلة الله، ودونها كل منزلة لغيره من المخلوقات، والإنسان مكلَّف، تَضبِط حركتَه شريعةٌ مصدرُها الوحيُ، ثم يُرَد إلى الله بعد الموت؛ ليسأله عن أدائه للأمانة وقيامه بالخلافة، وبذلك يَرتبط مفهوم الاستخلاف بالمفاهيم الإسلامية الأخرى، وأبرزها مفاهيمُ العبادة والعمارة والأمانة، التي تحدِّد رؤية الإنسان ووظيفته في هذا الكون.

3- السُّنن:
وهي مجموعة القوانين التي سنَّها الله في الكون والأنفس، ولا يستطيع الإنسان القيام بأمانة الاستخلاف إلا بالتعرُّف عليها، وتسخيرها في عمارة الكون، وهذه السنن تنقسم إلى سُنن كونية تَحكم نواميس الطبيعة، وسنن فطرية تحكم الإنسان بكونه فردًا، كما تحكم الاجتماع الإنساني وحركة المجتمعات، وسنن ثالثة تُدعى سنن التكليف التي تنسجم مع ناموس الكون والفطرة الإنسانية، وتُبيِّنها أحكام الشريعة الإسلامية أمرًا ونهيًا وتوجيهًا، وتتَّضح أهمية المفاهيم الكلية الثلاثة في فَهم الرؤية الإسلامية لعمل المرأة السياسي عند مقارنتها مع الرؤية الغربية العلمانية؛ إذ إنها قامت في جذورها النصرانية على فكرة التجسيد؛ أي: تجسُّد الرب في المسيح الابن، وفكرة الثنائية؛ أي: انقسام العالم إلى دنيا وآخرة، والإنسان إلى جسد ورُوح، والواقع إلى دين ودولة، مع تقديم أحد الطرفين على الآخر؛ مما أدَّى إلى ظهور حركات تنطلق من هذه المفاهيم الغربية العلمانية، تُعلي من شأن المرأة، وتحطُّ من شأن الرجل، باعتباره عدوًّا لدودًا لها، لا تربطه بينه وبينها إلا علاقات الصراع والعداء والمبارزة.

تاريخ مشاركة المرأة في العمل السياسي في الإسلام:
في معظم الأحيان نقصر العمل السياسي على الترشيح والترشح في البلديات، وفي مجالس الأمة، وتولي الوزارات، ونحو ذلك، في حين أن الرؤية الإسلامية للعمل السياسي أشملُ وأوسع وأعمق من هذا بكثيرٍ، وربما استنكر البعض أن يكون العمل السياسي مجالاً تصلح له المرأة ويَصلح لها، ولن نستطيع أن نتقدَّم في الحديث حول هذا المجال، إلا إذا تكلَّمنا عن تاريخ مشاركة المرأة في العمل السياسي بمفهومه الواسع على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم[3].

فها هي النساء تهاجر إلى المدينة بنص القرآن الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ [الأحزاب: 50].

وروى البخاري بسنده عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سمِع مروان والمِسْوَر بن مَخرمة – رضي الله عنهما – يُخبران عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: لَمَّا كاتَب سهيل بن عمرو يومئذٍ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنه لا يأتيك منَّا أحد وإن كان على دينك، إلا ردَدتَه إلينا، وخلَّيت بيننا وبينه، فكَرِه المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه، وأبَى سهيل إلا ذلك، فكاتَبه النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك، فردَّ يومئذٍ أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردَّه في هذه المدة، وإن كان مسلمًا، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط ممن خرج إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومئذٍ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يُرجعها إليهم، فلم يُرجِعْها إليهم؛ لِمَا أنزل الله فيهنَّ: ﴿ إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10]”؛ أخرجه البخاري، كتاب الشروط.

اقرأ أيضا  نداء إلى الأخت المسلمة

وها هي المرأة تُبايع النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو إمام الأمة، وقد ذكر القرآن الكريم هذه البيعة – والبيعة في صُلب السياسة – فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 12].

وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “شهِدتُ الفطر مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وعمرَ وعثمان – رضي الله عنهم – يصلُّونها قبل الخُطبة، ثم يُخطب بعدُ، خرَج النبي – صلى الله عليه وسلم – كأني أنظر إليه حين يُجَلِّسُ بيده، ثم أقبل يَشقُّهم حتى جاء النساءَ معه بلال، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ﴾ الآية، ثم قال حين فرَغ منها: ((آنتُنَّ على ذلك؟))، قالت امرأة منهنَّ لم يُجبْه غيرها: نعم، لا يدري حسنٌ مَن هي، قال: ((فتصدَّقْنَ))، فبسَط بلال ثوبه، ثم قال: هَلُمَّ لكُنَّ فداءٌ أبي وأمي، فيُلقين الفَتَحَ والخواتيم في ثوب بلال”؛ أخرجه البخاري، كتاب العيدين.

يعلق الأستاذ أبو شقة في كتابه القيِّم: “تحرير المرأة في عصر الرسالة”، فيقول: “إن مبايعة النبي – صلى الله عليه وسلم – لها عدة دَلالات:
الدلالة الأولى:
استقلال شخصية المرأة، وأنها ليستْ مجرَّد تابعٍ للرجل، بل هي تُبايع كما يُبايع الرجل.

والدلالة الثانية:
بيعة النساء هي بيعة الإسلام والطاعة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذه يستوي فيها الرجال والنساء.

والدلالة الثالثة:
مبايعة النساء النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – تقوم على أساسين: الأول: باعتباره – صلى الله عليه وسلم – المُبلِّغ عن الله، والثاني: باعتباره إمام المسلمين، ومما يؤكد وجود الاعتبار الثاني قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ [الممتحنة: 12]”[4].

بالإضافة إلى مشاركة المرأة في الجهاد، وهو من السياسة الشرعية، وإجارة المرأة للرجال والرسولُ – صلى الله عليه وسلم – يقرُّ إجارتها كما سبق القول، ومشورة أُمِّ سلَمة على النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم الحديبية، كل هذا – وغيره كثير – يؤكِّد وجود وقائع وأحداث جرَت في عهد الرسالة تؤصِّل لهذا العمل، وتُبيِّن أهمية وجود المرأة في المشهد السياسي على مسرح الأحداث.

يقول الأستاذ محمد سليم العوا في كتابه:
“الفقه الإسلامي في طريق التجديد”: “والحق أن المرأة – من حيث تمتُّعها بحقوقها وحريَّاتها العامة، ومشاركتها في العمل السياسي العام – كالرجل سواء بسواء، وأنه لا تعارُض بين قيامها بواجبها السياسي، وبين قيامها بواجباتها الأخرى، إلا بقدر ما يقع مثل هذا التعارُض بين واجبات الرجل السياسية وواجباته الأخرى كذلك، وهو تعارُض يُزال – حين يقع – بصورة فردية في كل حالة على حِدَة، وليس من بين وسائل إزالته أو رفْعِه وضْعُ قواعد مانعة للمرأة من العمل العام، أو قَبول هذه القواعد حين يضعها الآخرون”[5].

حتى المفهوم الضيِّق للعمل السياسي الذي يحصره البعض في الترشيح والترشُّح:
يقول عنه الدكتور مصطفى السباعي في كتابه: “المرأة بين الفقه والقانون”: “الإسلام لا يمنع من إعطائها هذا الحق، فالانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء يَنوبون عنها في التشريع ومراقبة الحكومة، فعملية الانتخاب عملية توكيل، يذهب الشخص إلى مراكز الاقتراع، فيُدلي بصوته فيمَن يختارهم وكيلاً عنه في المجلس النيابي، يتكلمون باسمه ويدافعون عن حقوقه، والمرأة في الإسلام ليستْ ممنوعة من أن توكِّل إنسانًا بالدفاع عن حقوقها والتعبير عن إرادتها كمواطنة في المجتمع”[6].

وتتمثَّل أهم مظاهر العمل السياسي التي يمكن أن تُزاولها المرأة في الواقع المعاصر:
• الاشتراك في النشاط الحزبي السياسي مع القُوَى والأحزاب.

• إبداء الرأي في شؤون السياسة وممارسة السلطات المختلفة في الدولة.

• المشاركة في اختيار مُمثل الأمة في المجالس المختلفة.

• المشاركة في اختيار الحاكم.

• الترشيح لعضوية المجالس المحليَّة والتشريعية والرئاسية؛ كما أجازه بعض العلماء[7].

مشاركة المرأة السياسية شُبهات – وردود:
مع ما أثبته تاريخ الإسلام، وما تَقتضيه نصوصه ومقاصده، وما تَشهده البشرية من تقدُّم وازدهار ارتقى بعقل الإنسان بعيدًا عن عصور الظلام، مع كل ذلك ما زالت هناك أصوات في العالم الإسلامي تدْعو إلى منْع المرأة من المشاركة في العمل السياسي والوظيفي، إلا في إطار ضيِّق جدًّا، مستشهدة على ذلك بجملة أدلة لا تَثبُت لدى النظر الفاحص الدقيق.

منها:
1- قوله – سبحانه وتعالى -:
﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [الأحزاب: 33]، فلا يجوز الخروج إلا لضرورة.

2- سد الذرائع:
وبناءً عليها يقولون: إن مشاركة المرأة في العمل العام تُعرِّضها للاختلاط بالرجال، وربما الخَلوة، وهذا حرام، وما أدَّى إلى الحرام، فهو حرام.

اقرأ أيضا  المرأة في تاريخنا ليست مجرد "عفة"

3- مشاركة المرأة سياسيًّا ربما تجعل لها ولاية على الرجل، وهذا ممنوع شرعًا ومخالف للأصل الذي أثبته القرآن الكريم: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34].

والجواب عن ذلك كما عبَّر الشيخ العلاَّمة د. يوسف القرضاوي:
1- آية ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ لا تنهض دليلاً لمنْع مشاركة المرأة في العمل العام؛ وذلك لأسباب، منها:
أ – الآية تخاطب نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – كما هو واضح من السياق، ونساء النبي – صلى الله عليه وسلم – لهنَّ من الحُرمة وعليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولهذا كان أجر الواحدة منهنَّ إذا عمِلت صالحًا مضاعفًا، كما جعل عذابها إذا أساءت مضاعفًا أيضًا.

ب – أن أُمَّ المؤمنين عائشة مع هذه الآية خرَجت من بيتها، وشهِدت معركة الجمل؛ استجابة لما تراه واجبًا دينيًّا عليها، وهو القِصاص من قتَلة عثمان، وإن أخطأت التقدير فيما صنَعت؛ كما ورد عنها – رضي الله عنها.

ج- أن المرأة قد خرَجت من بيتها بالفعل، وذهبت إلى المدرسة والجامعة، وعمِلت في مجالات الحياة المختلفة – طبيبة ومعلِّمة، ومُشرفة وإدارية وغيرها – دون نكيرٍ من أحد يُعتد به، مما يعتبره الكثيرون إجماعًا على مشروعيَّة العمل خارج البيت للمرأة، بشروطه الشرعية المعروفة من احتشامٍ وغيره.

د- أنَّ الحاجة تقتضي من المسلمات الملتزمات أن يَدخُلْنَ معركة العمل العام في مواجهة المتحلِّلات والعلمانيات اللائي يتزعَّمْنَ قيادة العمل النسائي، والحاجة الاجتماعية والسياسية قد تكون أهمَّ وأكبر من الحاجة الفردية التي تُجيز للمرأة الخروج إلى الحياة العامة.

سد الذرائع وفتْحها سواء:
1- سد الذرائع:
لا شكَّ أنَّ سد الذرائع مطلوب، ولكن العلماء قرَّروا أنَّ المبالغة في سدِّ الذرائع كالمبالغة في فتْحها، وقد يترتَّب عليها ضياع مصالح كثيرة، أكبر بكثيرٍ من المفاسد المخوفة، وهو من المسائل التي تُقدَّر بقدرها من غير ما شططٍ ولا غُلوٍّ.

وقد وقف بعض العلماء يومًا في وجه تعليم المرأة ودخولها المدارس والجامعات من باب سد الذرائع، حتى قال بعضهم: تتعلَّم القراءة لا الكتابة؛ حتى لا تستخدم القلم في كتابة الرسائل الغرامية ونحوها! ولكن غلَب التيار الآخر، ووجد أن التعلُّم في ذاته ليس شرًّا، بل ربما قادها إلى خير كثيرٍ، وغالى بعض المنكرين لحقِّ المرأة في تعلُّم القراءة والكتابة، فدعا إلى حِرمانها حتى من قراءة بعض السور الطوال.فقال:

عَلِّمُوهنَّ الغزْلَ والنَّسْجَ والرُّدنَ
وخَلُّوا قراءةً وكتابةْ
فصَلاةُ الفتاةِ بالحمْدِ والإخْلاصِ
تُغنِي عن يونسٍ وبراءةْ
2- المرأة والولاية على الرجل:
إنَّ الآية الكريمة التي ذكرتْ قوامةَ الرجال على النساء، إنما قرَّرت ذلك في الحياة الزوجية، فالرجل هو ربُّ الأسرة، وهو المسؤول عنها؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34].

فقوله: ﴿ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ يدلُّنا على أنَّ المراد القوامة على الأسرة، وهي الدرجة التي منحت للرجال في قوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228].

ومع قوامة الرجل على الأسرة، ينبغي أن يكون للمرأة دورها، وأن يؤخَذ رأيها فيما يهمُّ الأسرة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في مسألة فطام الرضيع؛ ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ [البقرة: 233]، وكما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: ((أمِّروا النساء في بناتهنَّ))؛ أي: استشيروهنَّ في أمْر زواجهنَّ.

أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال خارج نطاق الأسرة، فلم يَرد ما يمنعه، بل الممنوع هو الولاية العامة على الرجال.

والحديث الذي رواه البخاري عن أبي بَكرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: ((لن يُفلح قوم ولَّوا أمرَهم امرأةً))، إنما يعني الولاية العامة على الأمة كلها؛ أي: رئاسة الدولة، كما تدل عليه كلمة (أمرهم)، فإنها تعني أمر قيادتهم ورِياستهم العامة.

أما بعض الأمر، فلا مانع أن يكون للمرأة ولاية فيه؛ مثل: ولاية الفتوى، أو الاجتهاد، أو التعليم، أو الرواية والتحديث، أو الإدارة ونحوها، فهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع.

وقد مارَسته على توالي العصور، فظهر في النساء نوابغُ كأُمهات المؤمنين، وعَمرة بنت عبدالرحمن الأنصارية التي أخَذ عنها ابن شهاب الزُّهْري، فوجدها بحرًا لا ينزح، وفاطمة السمرقنديَّة، وكريمة التي روَت البخاري، وأم الخير التي روَت مسلم، وغيرهنَّ كثير.

حتى القضاء أجازه أبو حنيفة فيما تَشهد فيه؛ أي: في غير الحدود والقصاص، مع أن من فقهاء السلف مَن أجاز شهادتها في الحدود والقصاص؛ كما ذكر ابن القيِّم في “الطرق الحكمية”.

وأجازه الطبري بصفة عامة، وأجازه ابن حزم مع ظاهريَّته، وهذا يدل على عدم وجود دليل شرعي صريح يَمنع من تولِّيها القضاء، وإلا لتمسَّك به ابن حزم، وجَمَد عليه، وقاتَل دونه كعادته.

وسبب وردود الحديث المذكور يؤيِّد تخصيصه بالولاية العامة، فقد بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّ الفُرس بعد وفاة إمبراطورهم، ولَّوا عليهم ابنته بوران بنت كسرى، فقال: ((لن يفلح قوم….)) الحديث[8].

اقرأ أيضا  اعتداء على سياسية مسلمة في هولندا خلال حملتها الانتخابية

ضوابط مشاركة المرأة:
ولعل من المناسب في هذا الموضعِ إيرادَ جملة الضوابط الشرعية لمشاركة المرأة في الحياة العامة: وظيفيًّا، أو مهنيًّا، أو سياسيًّا:
1 – الزي الشرعي:
قال تعالى: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، وقال: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]، فينبغي على المرأة أن تَلبس اللباس المُحتشم الساتر الفضفاض، الذي لا يكون زينة في نفسه، على نحو ما هو مُبيَّن في كتب الفقه.

2-غضُّ البصر:
قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُن ﴾ [النور: 30 – 31].

قال ابن عبدالبر:
“وجائز أن ينظر إلى ذلك منها – الوجه والكفين – كلُّ من نظر إليها بغير رِيبة ولا مكروه، وأما النظر للشهوة، فحرام”.

3- التمايز عن الرجال واجتناب المزاحمة:
عن أمِّ سلمة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا سلَّم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكَث يسيرًا قبل أن يقوم.

قال ابن شهاب: “فأرى – والله أعلم – أنَّ مُكثه لكي يَنفذ النساء قبل أن يُدركهنَّ من انصرَف من القوم”، ويؤكِّد هذا قولُه – صلى الله عليه وسلم -: ((لو ترَكنا هذا الباب للنساء)).

4- اجتناب الخلوة:
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يَخلوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي مَحرم)).
قال الحافظ ابن حجر: “فيه منع الخَلوة بالأجنبية، وهو إجماع، لكن اختلفوا هل يقوم غير المَحرم مقامه في هذا كالنِّسوة الثِّقات؟ والصحيح الجواز؛ لضَعف التُّهمة به”.

5- جدية مجال اللقاء:
قال تعالى: ﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]، وتشير هذه الآية إلى أن موضوع الحديث بين الرجال والنساء ينبغي أن يكون في حدود المعروف، ولا يتضمَّن منكرًا، كما ينبغي أن تكون للقاء أسباب جادَّة تدعو إليه.

6- وجوب إذن الزوج للدخول إن كان مقيمًا غير مسافر:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: “لا يحل للمرأة أن تصومَ وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأْذَن في بيته إلا بإذنه”.

7- ألا يكون خروج المرأة للعمل العام على حساب زوجها وبيتها وأولادها:
بمعنى ألا تَمنعها المشاركة في العمل العام من الوفاء بكلِّ واجباتها – زوجةً، وأُمًّا – و((خير نساءٍ رَكِبْنَ الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره، وأرعاه لزوجٍ في ذات يده))، ولا بدَّ من محاولة التوفيق والتوازن بين العمل داخل البيت وخارجه[9].

أهم الآليَّات التي تُفعِّل طاقات المرأة ومشاركتها السياسية في المجتمع:
أن نُعيد للخطاب الديني بشأن قضاياها توازُنَه واعتداله، فلا نميل مع المُفَرِّطين، ولا مع المُفْرِطين، بل نبتغي سبيلاً معتدلاً وخطابًا وسطًا بين ذلك، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ينشد من بين فرثٍ ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.

• دور الإعلام في دعْم مشاركة المرأة سياسيًّا، وذلك من خلال تقديم الصورة المنضبطة للمرأة العاملة، التي تُوازن بين واجباتها، وتَخدم مجتمعها ودينها، ويكون ذلك من خلال تقديم أعمال فنيَّة تاريخية وواقعية، تبيِّن النماذج الملتزمة، وتُحذِّر من الأمثلة المنغلقة والمُنفلتة.

• دور الحركات والمنظَّمات الإسلامية؛ وذلك عبر استلهام النماذج التطبيقية لمشاركة المرأة في عصر الرسالة بكلِّ أبعادها، وما تلاها من عصور سارت على نفس الدرب، مما يُبرز جليًّا اهتمام الإسلام بالمرأة في كل المشاركات، وخصوصًا السياسية.

• دور الأسرة والمجتمع والمدرسة؛ وذلك من خلال تربية المرأة على النموذج الأمثل لطبيعة المرأة، والحفاظ عليها وإبراز مكانتها، من خلال المناهج التربوية، ومن خلال التوجيه والنُّصح والإرشاد.

• دور الزوج: وهو من أهم الأدوار الداعمة للمرأة في مسيرتها، وعليه يقع العِبء الأكبر في توجيه وتشجيع وتنمية زوجته؛ شرعيًّا وسياسيًّا، وواقعيًّا ومعرفيًّا[10].

________________________________________
[1] الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام: رؤية تأصيلية تجديدية؛ محمد يعقوب عبدالله.
[2] الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام؛ عبدالحميد الأنصاري.
[3] مشاركة المرأة في العمل العام؛ وصفي عاشور أبو زيد.
[4] تحرير المرأة في عصر الرسالة؛ محمد عبدالحليم أبو شقة.
[5] الفقه الإسلامي في طريق التجديد؛ الدكتور محمد سليم العوا.
[6] المرأة بين الفقه والقانون؛ د. مصطفى السباعي.
[7] تحرير المرأة في عصر الرسالة؛ محمد عبدالحليم أبو شقة.
[8] المشاركة السياسية للمرأة: شبهات وردود؛ مقال للدكتور: عصام البشير.
[9] المرجع السابق.
[10] مشاركة المرأة في العمل العام؛ وصفي عاشور أبو زيد.
المصدرالألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.