الحياة في سبيل الله
الأربعاء،9ربيع الأول1436الموافق31ديسمبر/كانون الأول2014وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. سلمان بن فهد العودة
لا يستغرب أحدٌ أن يسمع كلمة: «الموت في سبيل الله»، أن يموت الإنسان صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، وهي الشهادة التي لا تحدث إلا باصطفاء من الله لعباده: {ويتخذ منكم شهداء}[آل عمران:140].
ولكن ليس بنفس القدر يسمع الناس كلمة: «الحياة في سبيل الله».
من الخطأ أن يقع التعاند بين المفهومات الشرعية، وكأنها بين طرفي نقيض!
وصناعة الحياة معنى رائع عظيم، وهو الأصل، وصناعة الموت حينما تكون ذودًا عن الحق والإيمان والأوطان، هي تضحية تفخر بها الشعوب كلها، وتقدِّس فاعليها الذين تجرَّدوا من الأنانية، وتفانوا في مصلحة أمتهم أو وطنهم.
الحديث عن الموت سيطر في ثقافتنا وقصائدنا ومحفوظاتنا وأدبياتنا، أينا لا يحفظ قصيدة النابغة:
يا بنتَ عمي كتابُ الله أخرجني *** كرها وهل أمنعنَّ اللهَ ما فعلا؟
فإن رجعتُ فربُّ الكون يرجعني *** وإن لحقت بربي فابتغي بدلا
ما كنتُ أعرجَ أو أعمى فيعذرني *** أو ضارعًا من ضنى لم يستطع حولا!
على أنني أجد في الأبيات معنى جميلًا حين يصرِّح بأن خروجه (كره)، وهكذا هو في القرآن: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} (216) سورة البقرة.
إذًا هو أمرٌ يلجأ إليه مضطر؛ حفاظًا على الذمم والأعراض، وعلى الحياة ذاتها، وعلى المشروع العظيم..
الشهادة ليست مقصودة لذاتها، بل هي لحفظ الحياة، تمامًا كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (179) سورة البقرة، ورُبَّ موت فرد كان سببًا في هبة الحياة لأمة من الناس.
– الأصل في معركة الحياة أنها للبناء والإصلاح والتشييد والصبر والمصابرة.
حين تجد شاعرًا فلسطينيًّا، مثل: عبد الرحمن بارود، أو هارون هاشم رشيد، أو محمود درويش، أو سميح القاسم أو.. أو.. أو تجد شاعرًا عربيًّا يتغنَّى ببطولة الفدائي، كما في شعراء مصر، من أمثال: علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، أو شاعرًا خليجيًا، كما في قصائد غازي القصيبي، أو عبد الرحمن العشماوي.. فلن تتلقى هذا البوح الرائع إلا بالإعجاب، لأنه يقدِّس الحق، ويتغنَّى بالمضحِّين في سبيله.
ولكن لن يكون معنى هذا أن مشاريع العروبة والإسلام انتهت وتوقفت عند هذا الحد، ولا أن التغنِي بمجد شهيد، يعني تجاهل تضحية العالم والمبدع والمجاهد في ميدان الحياة والإصلاح والنهضة والمعرفة والدعوة إلى الإيمان والحق والصبر.
– الحياة غالية عزيزة، وقد مات رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على فراشه، بعدما عاش حياته كلها في سبيل الله، وكذا أبو بكر رضي الله عنه.
الاستقالة من وظيفة العيش على ظهر هذا الكوكب ممنوعة، وهي هزيمة لا يقبلها الله، ولذا حرَّم الجنة على مَن مات منتحرًا، يبادر ربه بنفسه، بسبب ضيق العيش أو مرارة الألم..
في وصيته -صلى الله عليه وسلم- للمجاهدين وقادة الجيش كان يقول لهم: «لأَن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم» (أخرجه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما).
ويقول: «لا تتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، واسألوا اللهَ العافيةَ، فإذا لقيتموهم فاصبروا» (أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه).
الموت نهاية لا بد منها، وقد قال يوسف عليه السلام في آخر مشواره: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (101) سورة يوسف، لكن بعدما عمَّر الحياة، وضحَّى، وصبر، وصنع، وصار على خزائن الأرض، وحفظ، وعلَّم، وكان ذا نفس طويل في البناء والتأثير والقيادة السياسية والاجتماعية، وإدارة الأزمات بجدارة واقتدار، وبعدما أشاع قيم العدل والإنصاف والسلام، وإيصال البر والمعروف لأفراد شعبه ولغيرهم، وفعل ذلك كله بروح إيمانية عالية.
فالموت إذاً ليس نقيضًا للحياة، بل هو امتداد لها، ومَن عاش في سبيل الله، جدير أن يكون موته في سبيل الله أيضًا، وإن مات على فراشه، كما حدث لخالد بن الوليد رضي الله عنه.
– الموت ليس عملية خلاص سريع من تكاليف الحياة وتبعاتها، والجهاد الكبير هو في ميدان الحياة بالدعوة والصبر وطول النفس ومقاساة الشدائد، حتى في داخل النفس، وتلقِّي التهم، ومواصلة الطريق إلى الله، مستهديًا بدعائه: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (6) سورة الفاتحة.
حين يخاف الشاب من الإغراءات، أو يخشى من معاودة حياة الدَّعة والخمول واللذة والإثم، فإنه يريد أن يختصر الطريق على نفسه، ولكن قد يغفل عن أنّ هذا ربما يطيل الطريق على أمته!
المصدر:البشرى