الرحمة

الإثنين 5 جمادى الثانية 1437// 14 مارس/آذار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. خالد بن عبدالله بن عبدالعزيز القاسم
الرحمة
حديثنا في هذا المقال عن صفة من صفات الرحمن، وميزة فاضلة من مزايا الإسلام، وصفة كريمة من صفات المؤمنين، وهو أمر تكرر ذكره في القران وتواتر نقله عن سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.

إنها الرحمة، وما أدراك ما الرحمة.

إنّ الرحمة صفة كمال في الطبيعة البشرية وهي جمال يزين الخلق، إذ أنّها تحمل صاحبها على البر، وتجعله يرق لآلام الخلق، فيسعى لمواساتهم وإزالة أحزانهم، ويتجاوز عما يقع من أخطائهم وهفواتهم فيلتمس لهم الأعذار ويتمنى هدايتهم.

وقبل ذلك كله فالرحمة من صفات الكمال التي يتصف بها ربنا سبحانه وتعالى، فله جلّ وعلا رحمة تليق بذاته وجلاله، فلا تشابه صفات المخلوقين فهو سبحانه منزه عن ذلك، فهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وعمّ بها كل حي، وهذه ملائكة الرحمة تثني على ربنا جلّ وعلا: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7] وفي الحديث القدسي في الصحيح يقول سبحانه: (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي). رواه مسلم (4940)، وفي رواية: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي ). رواه البخاري (2955) ومسلم (4939) وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) رواه البخاري (5541)، وقال جلّ وعلا: ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 118] ويحكي سبحانه قول يعقوب عليه الصلاة و السلام في قصة يوسف: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64] وعن عمر رضي الله عنه قال: (قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا). رواه البخاري (5540).

ومن رحمته تعالى أنه خلق الخلق وأنعم عليهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وبرحمته أُرسلت الرسل للعباد، وأُنزلت عليهم الكتب، واهتدوا إلى الصراط المستقيم،.

إننا مطالبون أن نتعرض إلى رحمة الله تعالى، وأن نسعى للتعرف على أسبابها، حتى ننال منها حظاً وافراً، فهي والله المنحةُ القيمةُ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]

إن رحمة الله جل وعلا تُسْتَجْلَب بأسباب عدة:
أهمها: الإيمان بالله ورسوله، وامتثال طاعة الله ورسوله، والاستقامة على أمر الله جلّ وعلا، وتقواه والخوف منه، وتعظيم شرعه، يقول سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132] ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].

وتُسْتَجْلَبُ رحمةُ الله تعالى بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وموالاة المسلمين، وفي هذا يقول سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].

كما تحصل الرحمة باعتراف العبد بتقصيره وكثرة الاستغفار، وفي هذا يقول الرب سبحانه وتعالى: ﴿ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النمل: 46].

اقرأ أيضا  الإدارة الأمريكية ستتراجع عن المواجهة مع نتنياهو وستلجأ إلى الشقّ الاقتصادي من خطة كيري

ومن أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى: رحمةُ خلقه والرأفةُ بعباده، ففي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) رواه أبوداود (2490)، والترمذي (1847) واللفظ له.

إنّ الناس بحاجة إلى قلب رحيم، ورعاية حانية وبشاشة سمحة، وبحاجة إلى ود يسعهم، وحلمٍ أوسعُ وأعظمُ من جهلهم، بحاجة إلى قلب كبير يمنحهم ويعطيهم ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم، ولا يثقلهم بهمومه، والمؤمن القوي يتميز بهذا القلب الحي الرحيم، فهو يرق للضعيف، ويألم للحزين، ويحنو على المسكين، ويمد يده للملهوف، وقبل ذلك ينفر عن الإيذاء ويكره الجريمة، فهو مصدر بر وخير وسلام، وكيف لا يكون ذلك والرحمة من أخصّ صفات المؤمنين.

إنّ أولى الناس بالرحمة وأحقهم بها الوالدين، فببرهما تستجلب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ [الاسراء: 24] ثم يأتي الصغار فلذات الأكباد، والأولاد عموماً، فهم ضعفاء في حاجة للعطف والرحمة والبر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا) رواه أحمد (6643)، والأقارب والأرحام كذلك في حاجة لمعاملة تشوبها الرحمة والبر وتقوم على الإحسان، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ) رواه البخاري (5529)، وفي رواية (الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقُولُ يَا رَبِّ قُطِعْتُ يَا رَبِّ ظُلِمْتُ يَا رَبِّ أُسِيءَ إِلَيَّ) رواه أحمد (7590 ).

ومن مواطن الرحمة الإحسان إلى الضعفاء، وإحسان معاملة الخدم والترفق بهم، فقد جاءوا مغتربين من أماكن بعيدة، مفارقين لأهلهم وأوطانهم، جاءت بهم الحاجة ودفعتهم الفاقة، فيحسن الترفق بهم والتجاوز عنهم وعدم السخرية أو الاستهزاء بهم، وقد قال عليه السلام:( إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ) رواه البخاري (29).

إننا مخاطبون بالإحسان إلى من تحت ولايتنا، وهذا عامٌ لكل من ولي أمراً من أمور المسلمين أن يرحمهم ويرفق بهم لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) رواه مسلم (3407).

ولنتأمل في هذا الموقف العظيم الوارد في الحديث الصحيح عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا) رواه مسلم (3135) وفي رواية: (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ) رواه مسلم (3136).

أمّا ذوي العاهات والإعاقات، والأرامل والأيتام فإنّ الرحمة تتأكد في حقهم، فهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة تعوق مسيرتهم، وتحول دون تحقيق مقاصدهم، ولذا فقد تضيق صدورهم، وتتحرج نفوسهم، فلقد قيدتهم عللهم، واجتمع عليهم حر الداء مع مرِّ الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلباتهم، فإن القسوة معهم جرمٌ عظيم، يقول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [النور: 61].

اقرأ أيضا  الأمم المتحدة: عدد كبير من نازحي غزة ينامون في العراء

ويقول عليه الصلاة والسلام:( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ) رواه مسلم (4934).

وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ) (4674)

إنّ الإسلام هو دين الرحمة والأمان حتى في معاملة البهائم، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) رواه مسلم (3615)، وقد دخلت امرأة النار لأنها أجرمت في حق هرة كما في الحديث: (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ: فَقَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) رواه البخاري (2192)، وغفر سبحانه ذنب أخرى عاصية تحترف البغاء، لأجل أنها رحمت كلباً فسقته، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ) رواه البخاري (3208).

إذن فالرحمة بالخلق من أعظم الأمور التي تنزاح بها الغموم، وتنفرِجُ بها الكربات، وتُغفر بها الذنوب، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

إن حديثنا هذا يدعونا لنتذكر إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، فهؤلاء إخواننا في فلسطين، يعانون ظلم الكافرين، فيبيتون ويقيلون تحت هدير المدافع، و أصوات الرصاص، وتمر عليهم اللحظات ثقيلة في خوف وجوع، وظلم واضطهاد، وتسفك دماؤهم، وفي كل يوم يُفجعون بقتيل أو جريح، فهم في أَمَسِّ الحاجةِ إلى دعائنا وشفقتنا ومساعدتنا، وهم في أشد الحاجة لوقوفنا معهم، فلنهب لنجدتهم، خاصّة وأنّ السبل قد تيسرت عبر الجمعيات والمؤسسات المأمونة.

إنّ أرحم الخلق وأكثرهم عطفاً هو قدوتنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وسيرته شاهدة على ذلك؛ تقول أم المؤمنين: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ خَادِمًا لَهُ قَطُّ وَلَا امْرَأَةً لَهُ قَطُّ وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَهُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ انْتَقَمَ…) رواه أحمد (24734)، ويقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ) رواه البخاري (5578).

وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سمع بكاء الطفل تجوَّز في صلاته خشية أن تفتن أمه، ولقد ثبت في الصحيح: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) رواه البخاري (666) وكان يأخذ الحسن وأسامة بن زيد فيضعهما على فخذيه فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا) رواه البخاري (5544).

وفي مرة كان عنده الأقرع بن حابس من وجوه العرب، فأنّبه رسول الله وعاتبه لما علم أنه لم يسبق له تقبيل أحد من أولاده، فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) رواه البخاري (5538).

اقرأ أيضا  من أسباب محبة الله تعالى عبدا ( الاعتصام بحبل الله ولزوم الجماعة والنصح لولاة الأمر )

ولما بال أعربي في المسجد فقام الرجال لتوبيخه نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَصَلَّى فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) رواه الترمذي (137)، وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه وعلَّمه برفق وحلم وفيها: (فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ: فَقَامَ إِلَيَّ بِأَبِي وَأُمِّي فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ، فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُبَالُ فِيهِ، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلصَّلَاةِ ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْلٍ مِنْ مَاءٍ فَأُفْرِغَ عَلَى بَوْلِهِ) رواه ابن ماجة (522)، وأمّا قوله – صلى الله عليه وسلم -: (لقد تحجرت واسعاً) ففيه إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156].

ولأنه صلى الله عليه وسلم استجمع مكارم الأخلاق، ومن جملتها بل وعلى رأسها العطف والرحمة والشفقة، فقد وصفه شاعره حسان بن ثابت بذلك وهو يرثيه صلى الله عليه وسلم فكان كما قال.

فها هو يصف الصحابة وهم يدفنونه عليه الصلاة والسلام:
لَقَدْ غَيّبُوا حُلْمًا وَعِلْمًا وَرَحْمَةً
عَشِيّةَ عَلَوْهُ الثّرَى لَا يُوَسّدُ
وَرَاحُوا بِحُزْنِ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيّهُمْ
وَقَدْ وَهَنَتْ مِنْهُمْ ظُهُورٌ وَأَعْضُدُ
يَبْكُونَ مَنْ تَبْكِي السّمَاوَاتُ يَوْمَهُ
وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الْأَرْضُ فَالنّاسُ أَكْمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيّةُ هَالِكٍ
رَزِيّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمّدُ
تَقَطّعَ فِيهِ مَنْزِلُ الْوَحْيِ عَنْهُمْ
وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيَنْجَدُ
يَدُلّ عَلَى الرّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ
وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشَدُ
إمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهِمْ الْحَقّ جَاهِدًا
مُعَلّمُ صِدْقٍ إنْ يُطِيعُوهُ يُسْعَدُوا
عَفُوّ عَنْ الزّلّاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ
وَإِنْ يُحْسِنُوا فَاَللّهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ
و َإِنْ نَابَ أَمْرٌ لَمْ يَقُومُوا بِحَمْلِهِ
فَمِنْ عِنْدَهُ تَيْسِيرُ مَا يَتَشَدّدُ
فَبَيْنَا هُمْ فِي نِعْمَةِ اللّهِ بَيْنَهُمْ
دَلِيلٌ بِهِ نَهْجُ الطّرِيقَةِ يُقْصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجُورُوا عَنْ الْهُدَى
حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا
عُطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثْنَى جَنَاحُهُ
إلَى كَنَفٍ يَحْنُو عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ

إلى آخر ما قال رضي الله عنه.

وأعظم من ذلك وأولى ما وصفه به الرب سبحانه وتعالى إذ قال: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159] وقوله سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الانبياء: 107]. ويقول سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].

فعلينا أن نتق الله وأن نتواصى بالصبر وأن نتواصى بالمرحمة.

وصلى الله على بينا محمد و آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين.
-الألوكة-