الروهينغا.. المواطنة أو تقرير المصير

عبد الله علي إبراهيم

أستاذ التاريخ الإفريقي والإسلامي بجامعة ميزروي

لم يفت على المراقبين أن زيارة الرئيس دونالد ترمب لآسيا كانت تطبيقاً لعقيدته السياسية بكون “أميركا أولاً”؛ إذ لم ينبس ببنت شفة -خلال زيارته لكل من الصين والفلبين- عن خرقهما لحقوق الإنسان، وهو خرق كان لأميركا فضل إذاعته في الماضي. وكان غريباً أن يختم ترمب زيارته للقارة المُرَوَّعة بمحنة الروهينغا في ميانمار دون صدور عبارة عنه بشأنها.

وزاد الطين بلة أن ترافقت زيارة ترمب مع زيارة قصيرة لوزير خارجيته ركس تيلرسون إلى ميانمار لم تزد الصمت الأميركي على المحنة إلا كآبة. فقد قال الوزير إن أميركا بحاجة لمزيد من المعلومات عن الوضع في ميانمار، قبل أن تتفق مع الأمم المتحدة على أن مُصاب الروهينغا تطهير عرقي.

ودعا إلى تحقيق مستقل في أزمة الروهينغا لأن ما ترامى إليهم عنها فيه ملامح من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وسينتظرون استكمال التحري ليتبينوا ما إن كان تطهيراً عرقياً. وجاء إلى بيت القصيد، وهو عزوف أميركا عن فرض أي عقوبات على ميانمار لكبح جماح تعدياتها المزعجة، لأنها لن تجدي فتيلا في حل المشكلة.

غير خافٍ مع ذلك أن أميركا تراهن على أونغ سان سو تشي -مستشارة الدولة في ميانمار (وسنعرف طبيعة اللقب أدناه)، وزعيمة حزب التحالف الوطني من أجل الديمقراطية الحاكم، والحائزة لجائزة  نوبل عام  1991  لدورها في مقاومة النظام العسكري بميانمار مدة عقدين- للانتقال من حكم الجيش إلى رحاب الديمقراطية.

ولهذا وصف تلرسون من دعوا إلى فرض العقوبات على ميانمار لوقف اضطهاد الروهينغا بأنهم “حسنو النية”، لأنهم لم يعتبروا أن ما يريدونه من فرض العقوبات أدنى لأن يتحقق بالنقلة الديمقراطية في ميانمار. وعليه فإن أميركا لا تريد -في ظنها- أن تقلب بمقاطعة ميانمار المائدة على مثل سو تشي، ممن تدخرهم لمستقبل ديمقراطي قادم.

فأميركا بالأحرى ستكتفي -حتى ولو جاء ما يقنعها بأن ما يجري في ميانمار تطهير عرقي- بعقوبات مسددة إلى الأفراد المتورطين فيه لا بالجملة. وستعفي الدولة من العقوبة حتى تنضج الديمقراطية فيها على نار سو تشي. ولهذا أثنت سو تشي على تيلرسون -خلال زيارته- وزكّته لسعة عقله.

بدا لي أن محنة الروهينغا معلقة على سو تشي بوتيرة استحقت المراجعة؛ فهي موضع إدانة وعتاب ممن أرادوا نصرة الروهينغا، وهي -كما رأينا- أمل أميركا في إيجاد نظام ديمقراطي يستنقذهم في خاتمة الأمر. فأكثرَ نصراءُ الروهينغا من خطاب إخجالها بتقاعسها في المسألة، وهي العضو في نادي حمَلة جائزة نوبل بملزوماته من نصرة الداعي إذا دعا.

اقرأ أيضا  محمد نجيب: بوادر حلول أزمة الروهينغيا أخذت تظهر

وراحوا يعيدون عليها ما جاء على لسانها الطليق بالحرية خلال مقاومتها الدكتاتورية في بلدها، في حين بلعت ذلك اللسان السليط في محنة الروهينغا، وجعلوا مدار المسألة وازع الأخلاق وأن توفي الحرة بما وعدت. ونرى أميركا -من جهة أخرى- تسوّف في الضغط بالعقوبة على ميانمار، أملا في أن يسلُس زمام الحكم لسو تشي؛ فتجد محنة الروهينغا حلها على يديها في الديمقراطية المستعادة.

لا أدري على أية حيثيات يعلق مناصرو الروهينغا خلاصهم بصحوة ضمير “نوبلية” من سو تشي، بضربهم على وتر إخجالها بعضويتها في نادي تلك الجائزة. فكم هي المرات التي ناضل قومي شديد القوى مثل سو تشي ضد محتل أجنبي أو مستبد محلي، ثم جاءه النصر ووجد نفسه ينحاز لخاصة قومه دون سواهم.

فقد ناضل عندنا القوميون السودانيون من شمال السودان العربي المسلم الاستعمارَ الإنجليزي باسم الوطن جميعه،  وما ظفروا بالحكم حتى انكمشوا في قوميتهم الصغرى دون القومية الكبرى. فليس بأيدي من يلوّحون لسو تشي بكرت جائزة نوبل دليل منير على أنها عدّت -خلال مقاومتها دكتاتورية الجيش- الروهينغا طرفاً مستحقاً في مجتمع ما بعد نهاية الدكتاتورية.

فاضطهاد الروهينغا للمسلمين بأيدي المنغوليين البوذيين سابق لحكم الجيش في 1962، وعائد إلى ثلاثة قرون منذ قضى الأخيرون على دولتهم المستقلة عام 1784، وما يجري اليوم من طرد للروهينغا إلى بنغلاديش وغيرها روتين  ميانماري مستتب في منعطفات التاريخ. فجملة الفارين من الروهينغا إلى بنغلاديش الحالية وغيرها أكثر من نصف مليون في سنوات الاحتداد الوطني في 1799، وخلال الحرب العالمية الثانية، وفي 1978 و1991.

فسو تشي ورثت من قومها هذا التاريخ في تطهير الأمة من عرق وثقافة “غريبين”، سيلوّثان نقاء الأمة المنغولية البوذية متى أذنا لهما بالمواطنة. وهذه سنّة معروفة في كل الصور الرعناء لبناء الدولة/الأمة، كما في إسبانيا خلال القرن الخامس عشر، وألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، وفي جنوب أفريقياعام 19488.

وقد وقف العالم على تراجيدية تخطيط ميانمار حدودها المنغولية البوذية، حين زرع الجنود المتفجرات على طول الحدود من وراء الروهينغا الفارين، حتى لا يحلموا بالعودة إلى وطنهم.

اقرأ أيضا  يستفيد من المنحة القطرية 100 ألف أسرة فقيرة، بواقع 100 دولار لكل أسرة

من الجهة الأخرى، فلعله من الخسران بمكان امتناع أميركا -برهانها على سو تشي وديمقراطيتها المنتظرة- عن الضغط الغليظ على ميانمار لاستنقاذ الروهينغا من براثن التطهير العرقي. فسو تشي -هي نفسها كأنثى- ضحية الظلم القومي الميانماري.

فقد حال دستور 2008 دون أن تكون رئيسة للجمهورية بعد فوز حزبها الكاسح في انتخابات 2015؛ فقضى الدستور بألا تكون كذلك لأنها أم لذرية من رجل أجنبي. وهذا مطلب في نقاء الأمة غاية في الغلو.

وبالنتيجة أخذ مكانَها في الرئاسة واحدٌ من أقرب مقربيها عالماً بأنه “متيّس” في لغتنا، وهو الرجل الذي يُستدعى لتحليل عودة الطالق ثلاثاً إلى زوجها. وقالت سو تشي -بصريح العبارة- إن أمر الرئاسة سيكون لها من وراء ستار.

من جانب ثان؛ واضح من تركيبة الديمقراطية الميانمارية الحالية فساد خطة أميركا لاستعادة الديمقراطية مراهنة على ثقل سو تشي الرمزي. فالجيش الميانماري متغلغل في هذه التركيبة تغلغل مقيم لا عابر. فله دستوريا ربع المقاعد في المجالس النيابية القومية والمحلية.

فهو يحتل -مثلاً وبنص الدستور- 110 مقاعد في مجلس النواب الذي لحزب سو تشي فيه 255 نائباً. علاوة على احتكار الجيش لوزارات ثلاث هي الدفاع والداخلية والحدود. فالصبر حتى تنضج هذه الديمقراطية المغشوشة على نار رمزية سو تشي، ورهان الأميركان عليها، طريق مسدود سيزيد معاناة الروهينغا.

ولا أدل على مظاهر انسداد هذا الطريق من فشل قيام حكومة سو تشي بتحقيق صريح في محنة الروهينغا. وبلغ من عتوها أن منعت منظمات حقوق الإنسان من دخول إقليم أراكان لتستقل بتحقيق عن الحقيقة على الأرض. وصار  تحقيق ميانمار لنفسها بنفسها لعبتها المفضلة.

فقامت حتى يومنا أربع لجان للتحقيق برئاسة سو تشي، ولا جدوى. وتكونت لجنة خامسة لهذا الغرض -بقيادتها أيضاً- إكراماً لضيفهم تيلرسون. فتيلرسون لم يجد -وقد استبعد فرض عقوبة سياسية واقتصادية على النظام لاستهتاره بالروهينغا- سوى أن يطلب بالتحقيق في المحنة؛ فزادت ردوم لجان التحقيق كوماً، وهي لجان لذر الرماد في العيون.

أما الجيش فقد سبقنا جميعاً بالتحقيق في المحنة، وبرّأ نفسَه من كل عيب كما هو متوقع، وصرف المآخذ على فظاظته مع الروهينغا بأنها مما اضطُر إليه في حرب إرهابهم.

اقرأ أيضا  المشروع الفلسطيني.. أزمة الخيارات وآفاق الحل

سينتفع الروهينغا من الديمقراطية كما انتفعوا منها في سنوات ما بعد الاستقلال عام 1848، التي كان لهم فيها وحدها تمثيل مستحق في الوظيفة السياسية. ولن ينجح مسعى أميركا لاستتباب الديمقراطية في ميانمار بالتسويف.

فعليها أن تسمي ملاحقة الروهينغا في ميانمار باسمها، فهي ما تزال تنتظر تحقيقاً تطمئن به على أن ما يجري للروهينغا استئصال عرقي وليس مجرد جرائم ضد الإنسانية. ولم تأخذ بما اتفق للأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان من أنه تطهير عرقي. ونقول عرَضاً إن موقف أميركا من الروهينغا عكس ما جرى لها في السودان سنوات 2004 و2005.

فأميركا وحدها قررت أن ما حدث لـ”أفارقة” دارفور استئصال عرقي، في حين قالت الأمم المتحدة إنه جرائم ضد الإنسانية. ومتى سمت أميركا الجريمة باسمها، والتزمت بملزوم هذا الإعلان من فرض العقوبات السياسية والاقتصادية، فإنها ستوطن ميانمار في مأزقها توطيناً تكف به عن التعذر والتعلل.

وهذا ما فعلته بقانون سلام دارفور وحساب مرتكبي الجرائم فيها (2006)، الذي لا تزال مفردات عقوباته قائمة حتى بعد رفع أميركا لعقوبات أخرى عن السودان. وربما كانت هذه العقوبات هي المساعدة الوحيدة الممكنة لترجع ميانمار عما هي فيه من التوحش إلى الإنسية.

إن سبيل استتباب ميانمار على نهج الديمقراطية واضح، إلا أن أميركا غير راغبة في طرقه؛ فحكومة ميانمار كوّنت -تحت الضغط العالمي- لجنة في 2016 بقيادة السيد كوفي عنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، لتوصي بما ينبغي فعله في أزمة الروهينغا.

ووصّت اللجنة بإضفاء المواطنة على الروهينغا، وهذا مبتدأ الديمقراطية وخبرها. وانتهت إلى وجوب منح الروهينغا حق تقرير المصير -كما طلبوا- متى امتنعت ميانمار عن منحهم صفة المواطنة في الدستور وما يترتب عليها.

المصدر : الجزيرة.نت

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.