الزواج أحكام وعقبات

السبت،28 رجب 1436//16 مايو/أيار 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. خالد بن عبدالله بن عبدالعزيز القاسم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

حديثنا هذا يتناول تشريعاً ربانياً حكيماً، وسنةً من سنن المرسلين، وآيةً من آيات الحكيم الخبير.

إنه الزواج… وما أدراك ما الزواج.
إنّه من آيات الله – تعالى – الدالة عليه، فبه تحصل المودة والمحبة والرحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وبه دوام النسل واستمرار الحياة: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء: 1]، وهو سنة الأنبياء والمرسلين: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].

إنّ الزواج أمرٌ تقتضيه الفطرة، وتحُثُّ عليه الشرائع، فبه تكوينُ الأُسَر، وتربية الأبناء، وقضاء الأوطار في الحلال، وفيه راحةٌ وسكينةٌ للنفس، وفيه رحمة وألفة، وفيه تحصيل للأجر العظيم، وهو ضرورةٌ لدوام الحياة واستمراريتها، وهو من أسس إقامة أوثق العلاقات الاجتماعية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].

إضافةً إلى ما سبق من الآيات القرانية؛ فقد جاء الثناء على الزواج والأمر به في السنة النبوية، ففي الحديث الصحيح: عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ))؛ رواه البخاري رقم (4678)، ومسلم (4285).

كما أرشد النبي – صلى الله عليه وسلم- لمعايير اختيار الزوجين، وبيَّن أن الاعتبار والمقياس في المقام الأول إنما هو لمسألة الدين والخُلُق، فقد قال – عليه السلام -: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ))؛ رواه البخاري (4700)، ومسلم (2661).

إذن؛ فالدين والخُلُق مقدمان على الأنساب و الأموال و الجمال.

ومما أرشد – صلى الله عليه وسلم- وحثّ عليه: أن يتزوَّج المسلمُ من الودود الولود ففي الحديث: عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: ((لَا))، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: ((تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ))؛ روه أبو داود (1754).

وتُعرَف الولود بالنظر إلى أسرتها، وأمّا الودود فهو إشارةٌ إلى الحنان والعطف، وحسن العشرة.

وقال – صلى الله عليه وسلم-: ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ))؛ رواه مسلم (2668).

ومع حثّ الشرع على اختيار الزوجين وفقاً للمعايير المذكورة، فلا مانع من النظر إلى الاعتبارات الأخرى التي تعين على بناء الزوجية؛ كالجمال، وتقارب الطباع، وتقارب الأعمار، والأنساب.

لقد حثّ عليه الصلاة والسلام على اختيار الأسر الكريمة الصالحة، فقال – عليه السلام-: ((تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ)؛ ابن ماجة (1958).

إنّ على أولياء البنات اختيار الزوج الصالح، وقبوله إذا تقدَّم لخِطبَةِ إحدى كريماته، فإنّ أول اعتبار في الشرع إنما هو للدين والخلق، وقد قال – صلى الله عليه وسلم-: ((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ، قَالَ: ((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ رواه الترمذي (1005) واللفظ له، وابن ماجة (1957).

ومما يجدُرُ التنبيه إليه: أن مقصود الزواج في الإسلام هو إنشاء الأسرة الصالحة، وبقاء الزوجية، لذا حُرِّمَ زواج المتعة، وأمثاله.

اقرأ أيضا  نماذج المرأة المسلمة (2)

إنّ كثيراً من الزيجات المبنية على الشهوة فحسب لا يحالفها النجاح؛ بل يكتب لها الفشل، ومثال ذلك: الزواج مع تباعد الأعمار، أو الزواج من خارج الديار والأوطان من أجل معيار الجمال فحسب.

وليت الأمر يقتصر على فشل الزواج فحسب، لكن الأمر يتجاوز ذلك، فتزداد المصيبة إذا ما كان الزوج قد أنجب ذرية، ثم فشلت الحياة الزوجية، وهو ما يحصل غالباً، كما دلَّت عليه الإحصائيات نتيجة لتباين الطبائع، واختلاف العادات.

إنّ أمثال هذه الزيجات الفاشلة قد يترتب عليها أن ينشأ الأولاد بعيداً عن أحد والديهم، إذن فالأولى أن يتزوج المرء من نفس مجتمعه.

إن البعض – للأسف – لا يهتم بمعيار الدين والخلق عند تزويج بناته، وهذا يترتب عليه فساد كبير، وكذلك الحال بالنسبة للرجال ممن ينوي الزواج؛ فبعضهم لا يفكر إلا في الجمال متناسياً ما يجب أن تكون عليه أمُّ أولاده من استمساك بالدين وحسن الأخلاق.

وللأسف؛ فإن بعض الآباء يمنع الأكفاء ذوي الدين والخلق طمعاً في أصحاب الأموال، فربما زوَّجَ بعضَ بناته بكبار السن، وهو أمرٌ قد لا تحصل معه الألفة والمودة بين الزوجين.

إنّ هذا الصنف من أولياء الأمور – إضافةً لكونه أجحَفَ في حق ابنته – فإنه قد خان الأمانة؛ لأنه ردّ الأكفاء من أصحب الخلق والدين بسبب طمعه في المال.

وقد نبَّهَ النبي – صلى الله عليه وسلم- على هذا الاعتبار؛ فإنه لما خطب أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- فاطمة – رضي الله عنها، قال – عليه السلام-: إنّها صغيرة، فلما خطبها عمر – رضي الله عنه- قال: إنها صغيرة، فلما خطبها علي – رضي الله عنه- وكان مقارباً لها زوَّجَهُ إياها، ففي الخبر: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – فَاطِمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إِنَّهَا صَغِيرَةٌ))، فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ؛ رواه النسائي (3169).

إنّ ظاهرةَ العنوسة وتأخُّرُ الزواج وما ينتُجُ عنها من أخطار إنّما نتجت بفعل أسباب من صنع أنفسنا، فإننا نرى بعض الشباب يؤخر الزواج سنوات وسنوات وهي معدودة من عمره، وما ذاك إلا لأنه يواجه شروطاً تعجيزيةً عندما يهم باختيار الزوجة، أو أنه يؤخر هذا الأمر من أجل تجميع الأموال، مع قدرته على الزواج: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ))؛ رواه البخاري رقم (4678)، ومسلم (4285). إنها وصية سيد المرسلين.

تزوَّجُوا أيها الشباب، وأبشروا بعون الله تعالى، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ))؛ راوه الترمذي (1579).

ومن أسباب العنوسة: تأخيرُ زواج البنات بحُجَّة مواصلة الدراسة، ولهذا نرى بعض أولياء أمور البنات يكثر من رد الأكفاء، وهو لا يدري أنه بذلك يجني عليها.

إنّ الزواج أهم من الدراسة، وأضِف لهذا أنه لا يعيقها، و للأسف فإنّ البعض الآخر – وهم بحمد الله قلة – يرد الأكفاء طمعاً في راتب ابنته إذا كانت عاملة في وظيفة، وهذا – والله – لؤم في الطبع، وخيانة للأمانة.

ألم يسمع هؤلاء ما قالته أولئك الفتيات اللائي حُرِمنَ الزواج بفعل هذه التصرفات؟ ألم يروا ما سطَّرْنَه بدموعهن من جرَّاء خيانة آبائهن؟

وكل هذا يحدث بفعل الأخلاق الرديئة المتمثلة في الجشع والطمع، الذي يقود هؤلاء الآباء ليجعلوا بناتهم وسيلة للاتِّجار وسلعة للكسب.

إنّ العبرة من الولاية: مراعاة مصلحة المرأة لا مصلحة وليها، وإنّ العبرة في التزويج أن يتم برضاء المرأة، إذا تقدم لخطبتها كفءٌ من أصحاب الدين والخُلُق، وإنما كانت الولاية لمراعاة ذلك.

يقول – سبحانه وتعالى – محرماً عضل المرأة، وهو عدم تزويجها: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232].

اقرأ أيضا  طبيعة المرأة ونفسيتها في السنة المحمدية

فكما أنه يمنع حبسها ومنعها من الزواج ممن تريد فكذلك لا يجوز إجبارها على الزواج ممن لا تريد، فكيف وقد جاءت امرأة لرسول الله تشتكي أن أباها زوجها وهي كارهة فرد – عليه الصلاة و السلام- نكاحها، فعن عائشة أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ وَأَنَا كَارِهَةٌ، قَالَتْ: اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهَا، فَدَعَاهُ، فَجَعَلَ الْأَمْرَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ أَلِلنِّسَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ؛ رواه النسائي (3217).

أيها الآباء:
اعملوا بالنصيحة النبوية: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير))، ويقول – سبحانه وتعالى -:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].

تزوَّجُوا أيها الشباب؛ وزوِّجُوا أيها الآباء؛ واهتموا بأمر الدين والأخلاق، ولا تؤخِّرُوا هذا الأمر رغبةً في الكمال، والتعلُّق بالأوهام، فإنه لأمرٌ مؤسفٌ أن يصل سن الشباب إلى الثلاثين وأكثر دون زواج.

إنّ العنوسة وعزوف بعض الشباب عن الزواج له مضارُّهُ الخطيرة، وآثاره الوخيمة سواء من الناحية النفسية، أو الاجتماعية، أو الأخلاقية، فتأخير الزواج قد يفتح باباً عظيماً من الفتن والفساد، أمّا تعجيل الزواج ففيه حصول الراحة والاستقرار: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

الخطبة الثانية
الحمدلله ..

عباد الله:
إنّ هناك معوقات تقف في طريق الامتثال لهذا الأمر العظيم الذي أمر الله به ورسوله، مما صدّ كثيراً من الشباب عن الزواج، وحمَّل البعض الآخر جبالاً من الديون والهموم، فقد أصبح بعض الآباء والأمهات يشترطون شروطاً ثقيلة على من تقدم خاطباً لابنتهم، ومن أقرب الأمثلة على ذلك: المغالاة في المهور.

نعم؛ إنّ المهر دلالة على صدق النية في الاقتران، ودليل على الكفاءة لتحمل المسئولية، وهو برهان على صدق الرغبة في الزواج، وإضافةً لذلك فهو أمر أوجبه الإسلام: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4].

إنّ المهر بكل تأكيد ليس ثمناً للمرأة، ولا يمكن أن يمثل إهانة لها؛ إذ أنها ليست سلعة تباع وتشترى، فهو عطية افترضها الله – سبحانه وتعالى، و قد جعل حق التصرف فيها راجعاً للمرأة، وليس لوليها.

إنّ الإسلام لم يحدد قيمة للمهر، وإنّما ترك الأمر لاختلاف المستويات، والتفاوت في الاستطاعة بين الناس، ولما رأى عمر – رضي الله عنه – مبالغة الناس في هذه الأمر ومخالفتهم لسنة النبي – صلى الله عليه وسلم- القائمة على التيسير ورفع الحرج، أراد تحديد قيمة المهور، فأعلن ذلك في الخُطبة، ولكن عزمه توقف لما نبَّهَتْه إحدى النساء، وذكَّرَته بآية من كتاب الله العزيز.

فعن أبي عبد الرحمن السلمى قال: قال عمر بن الخطاب: “لا تُغالُوا في مهور النساء”، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر؛ إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً مِنْ ذَهَبٍ} قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}، فقال عمر: “إنّ امرأة خاصَمَت عمر فخَصَمَتْه”؛ أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) رقم ( 10420)، والبيهقي في (السنن الكبرى) رقم (14113)، (14114).

ومع أنّ هذا الدليل القرآني يدل على عدم تحديد حدّ معين للمهر، وأنّه أمر منوط بقدرة الرجل وما عنده من سعة أو ضيق، فإنّ كثرة المهر لا تُعدُّ كرامةً للمرأة، وكذلك فإنّ قلته لا تشكل إهانة لها، فالأمر ليس كما يظن بعض أصحاب الأفهام القاصرة.

اقرأ أيضا  هذه كلمة للأخت المسلمة

فمن كان ميسوراً فأعطى وأغدق في عطائه فهو مثابٌ، ومن كان معسراً فلا يجوز التشديد عليه، فإنّ الاتجاه العام في الشريعة يقضي بتيسير الأمور لا سيما على من لم يستطع.

فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ؟)) قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ: ((اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ))، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي، وَلَهَا نِصْفُهُ، قَالَ سَهْلٌ: وَمَا لَهُ رِدَاءٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ))، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَعَاهُ أَوْ دُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: ((مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟)) فَقَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ))؛ أخرجه البخاري (4727). وبهذا يكون النبي – صلى الله عليه وسلم- قد زوَّجَ هذا الرجل بما معه من العلم.

وعَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ – رَحِمَهُ اللَّهُ- فَقَالَ: “أَلَا لَا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً”؛ رواه أبوداود (1801)، والنسائي (3297).

إنّ على الآباء أنّ يُيسِّرُوا أمرَ المُهُور ولا يبالغوا فيها، فإنّ من يَسَّرَ يَسَّرَ الله عليه، ولنعلم أنّ البركة في التيسير وعدم الاشتراط، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مُؤْنَةً))؛ رواه أحمد (23388)، وقال – صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرَ رَحِمِهَا))؛ رواه أحمد (23338).

إنّ على الآباء أن يُيسِّروا أمر الزواج إذا أتاهم من يرضون دينه وخلقه، و عليهم ألا يبالغوا في اشتراط النفقات الإضافية على الزوج كالهدايا أو نحوها؛ لأن هذا مما يعيق الزواج، أو يُكلِّفُهُ ما لا يطيق.

وعلى الآباء أن يحذروا من الإسراف والتبذير في حفلات الزواج التي أحدثها الناس من باب التفاخر والمباهاة، وربما تحمل بعضهم ديوناً، أو تكلَّفَ ما لا يطيق إرضاءً للنساء، أو تقليداً للغير، وقد نهى – سبحانه وتعالى – عن ذلك وغلّظ النهي، فقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27].

إنّ كل هذه المخالفات سببها ضعف الإيمان، وقلة العلم، وذهاب هيبة الرجال، والاهتمام بالمظاهر الكاذبة.

ومن المخالفات التي أحدثها البعض في هذه المناسبات: أن يختلط الرجال بالنساء، وأن يدخل الزوج على النساء وهن بكامل زينتهن.

إنّ الزواج شريعة ربانية وسنة نبوية؛ فلا يجوز أن ترتكب باسمها أمثال هذه المنكرات والمخالفات التي تُغضب الله – جلّ وعلا، وتُفرِحُ الشيطانَ وحزبَهُ.

فعلى الأزواج أن يحرِصُوا على بداية هذه العلاقة الطيبة بتقوى الله تعالى ورضوانه، حتى يُوفِّقَهم، ويُبارِك لهم في مقبل حياتهم.

نسأل الله الكريم أن يجعل زيجاتنا موفقة، وأن يلهمنا رشدنا، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

وآخر الدعاء أن الحمد لله رب العالمين.
-الألوكة-

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.