الصدق في الإيمان سلسلة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم

الثلاثاء 25 ذو الحجة 1437/  27 سبتمبر/ أيلول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فقد أخرج مسلمٌ عن سفيان بن عبدالله الثقفي – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك – وفي حديث أبي أسامة: غيرك – قال: ((قل: آمنتُ بالله، فاستقم))[1]، وفي رواية: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)).

قلتُ: والمتأمل في الحديث لمقصوده صلى الله عليه وسلم عن الإيمان بالله تعالى يدرك أن صدقَ الإيمان بالله لا يكون قولًا باللسان فقط، بل وباليقين بالقلب، وبرهان صدق يقينه استقامتُه على الطريق؛ أي: الالتزام بتعاليم الكتاب والسنة، أو – كما عرَّفه أهل العلم – سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعلَ الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها، الظاهرة والباطنة[2].

وفي فتوى للجنة الدائمة عن صحة الإيمان وتعريفه قالت: “الصواب في ذلك قولُ أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وتصديق بالجَنان، ولا يكتفى في ذلك بالنطق باللسان إلا في إجراء أحكام الدنيا؛ مِن تغسيله إذا مات، وتكفينه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك من أحكام الدنيا إذا لم يعلم منه ما يقتضي كفره، وأما شهادة أن لا إله إلا الله، فمعناها (لا معبود حق إلا الله)، ولا يكفي مجرد القول، بل لا بد مِن الإيمان بالمعنى، والعمل بالمقتضى؛ كما قال الله سبحانه في سورة الحج: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ [الحج: 62]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]”[3]؛ اهـ.

وجديرٌ بالأمة أن يكون هديُ نبيِّها صلى الله عليه وسلم نبراسًا يضيء لهم طريقهم المليء بالشهوات المهلكة والفتن التي تعصف بهم في بحر لجي لا شاطئ له، إلا مَن رحم ربي منهم، وهداه – بالعمل بهديِ نبيه صلى الله عليه وسلم – إلى ما يحبه ويرضاه، ولم يجعل هواه يصدُّه عن الحق.

وبادئ ذي بدء نقول: الكثير منا يدعي الإيمان بالله تعالى قولًا باللسان، ولا ترى في حياته التزامًا بكتاب أو سنة، وهما الدليل والبرهان الساطع لاستقامته على طريق الرشاد حقًّا.

وإننا لا نشكُّ البتة أن المسلم منا قد آمن بالله ربًّا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، وبالإسلام دِينًا.

ولا نشكُّ البتة – وحاشا لله – أنه يؤمن بأن الله تعالى هو الربُّ الجليل، وهو العبد الذليل، وأن الله – جل في علاه – الخالق الباري، المحيي المميت، الحي القيوم، السميع البصير، الواحد الأحد، الفرد الصمد، له الأسماء الحسنى، وليس كمثله شيءٌ، ويؤمن بالكتب والرسل، والملائكة والجنة والنار، والقدر خيره وشره، فكل هذا وغيره لا شك في إدراك المسلم له، وينطق بها لسانه حقًّا، ولكن..

هل المسلمُ منا مؤمنٌ بالله تعالى بصدق؛ أي: عملًا بالجوارح والأركان، لا قولًا باللسان والكلمات فقط؟!

هل نحن مؤمنون حقًّا بالله تعالى ولا نخاف ولا نخشى إلا إياه – جل في علاه؟

أو بعبارة أخرى أكثر بيانًا وتوضيحًا: هل يستشعر المسلم منا عظمةَ الله في نفسه التي بين جنبَيْهِ ويستقيم على طريق الحق؟

وهل يستشعر حقيقةَ عبوديته لله – جل في علاه – في علاقته مع عباد الله؟

إن في هديِ نبينا صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًّا لحقيقة الإيمان الصادق بالقول والعمل دون تعارض بينهما، وحقيقة العبودية لله – جل في علاه – في أسمى صورها، وكما يحب ربُّنا ويرضى، فليتأمَّلِ المسلم بعقله وقلبه ما نطرحه هنا من هدي نبينا في صدق الإيمان بالله تعالى، بالقول باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، ثم يجيب عن نفسه بكل صراحة ووضوح: هل يؤمن بالله حقًّا وصدقًّا أو أنه قد حاد عن الطريق المستقيم؟

النبي يشهَد لجارية بالإيمان:

  • في حديث معاوية بن الحكم – رضي الله عنه – قال: وكانت لي جاريةٌ ترعى غنمًا لي قِبَل أُحدٍ والجوَّانية، فاطلعتُ ذات يومٍ فإذا الذئب قد ذهب بشاةٍ من غنمها، وأنا رجلٌ من بني آدم، آسَفُ كما يأسفون، لكني صككتها صكةً، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((مَن أنا؟))، قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها؛ فإنها مؤمنةٌ))[4].
اقرأ أيضا  الحديث النبوى الشريف

ومما لا يغيب عن فِطنة المسلم اللبيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أنها مؤمنة حقًّا وصدقًا، وليس مجرد قول باللسان، كما هو لسان حال أهل هذا الزمان، إلا مَن رحم ربي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].

قلتُ: وهذه الجارية في حديث معاوية بن الحكم – رضي الله عنه – الذي ذكرناه آنفًا، لم تكن مؤمنة كرجال ونساء هذا العصر، إلا مَن رحم ربي، فجميعًا نقول: “الله في السماء، ولا إله إلا الله محمد رسول الله” جهارًا نهارًا، وغير ذلك مِن أركان الدين، قولًا باللسان دون بينة على صحة هذه المقولة بالعمل بالكتاب والسنَّة، وهي تشبِهُ عينَ ما قاله المرجئة قديمًا: إن الإيمان هو نطقُ اللسان بالتوحيد، مجردًا عن عقدِ قلب، وعملِ جوارح.

ولكن – قطعًا – الإيمانُ الحقيقي الصادق للجارية هو الذي جعل النبيَّ صلى الله عليه وسلم يشهد لها بالإيمان، كما لا يخفى.

ومِن ثم يصح أن يقال: إن مَن ينطق بلسانه بالتوحيد وغير ذلك مِن اعتقاد بالقلب بأركان الإيمان دون عمل يدلُّ على صحة قوله – إيمانٌ غير صادق وغير مكتمل، ويُخشَى على صاحبه مِن سوء الخاتمة، وينطبقُ عليه قولُ الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 104، 105].

يقول السعديُّ – رحمه الله – في تفسيرها: “أي: قل يا محمد للناس – على وجه التحذير والإنذار -: هل أخبركم بأخسرِ الناس أعمالًا على الإطلاق؟ ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 104]؛ أي: بطَل واضمحلَّ كلُّ ما عمِلوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه، فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة، وأنها محادَّة لله ورسله ومعاداة؟، فمَن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم؛ فـ: ﴿ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]؟

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ﴾ [الكهف: 105]؛ أي: جحَدوا الآيات القرآنية، والآيات العيانية، الدالة على وجوب الإيمان به، وملائكته، ورسلِه، وكتبه، واليوم الآخِر.

﴿ فَحَبِطَتْ ﴾ بسببِ ذلك ﴿ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]؛ لأن الوزنَ فائدته مقابلةُ الحسنات بالسيئات، والنظر في الراجح منها والمرجوح، وهؤلاء لا حسناتِ لهم؛ لعدم شرطِها، وهو الإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، لكن تُعَدُّ أعمالهم وتحصى، ويقرَّرون بها، ويُخْزَوْنَ بها على رؤوس الأشهاد، ثم يعذَّبون عليها”؛[5] اهـ.

وأكرِّر قولي لخطورة وأهمية هذه المسألة؛ ليهلِكَ مَن هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، إن المتأملَ في أقوال العلماء مِن أهل السنَّة والجماعة في هذه المسالة – أي حقيقة الإيمان والصدق فيه – يجدها محلَّ إجماع؛ لكثرة الأدلة، ولقد سُئل العلامة عبدالعزيز بن باز – رحمه الله -: هل يكفي المعتقدُ الصحيحُ عن العمل والاستقامةِ على شرع الله؟

فأجاب بقوله: لا يكفي الإيمانُ المعتقَد عن العمل، لا بد مِن العمل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [لقمان: 8]، لا بد من العمل؛ يؤمِن بالله ورسوله، وتوحيد الله، ويعمَل؛ يؤدي فرائض الله، وينتهي عن محارم الله، لا بد مِن هذا وهذا؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ﴾ [لقمان: 8]، لا بد مِن الإيمان والعمل؛[6] اهـ.

صورٌ مِن صدق الإيمان ومِن هَدْيِ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:

النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لنا جميعًا؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

ولتصحيحِ مفهومنا عن الإيمان، نطرح هنا هذه الأدلة الصحيحة مِن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم لنتأمَّلَها ونتعظَ بها؛ لندركَ حقيقة الإيمان الصادق في كل أعمالنا دينًا ودنيَا، والله المستعان.

1- مِن صور صدق الإيمان: قيام الليل:

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعبَّد لله تعالى، ويقوم الليل، ويُطيل القيام حتى انتفخت قدماه؛ كما في الصحيحينِ مِن حديث المغيرةِ بن شعبة: “أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أَتَكَلَّفُ هذا وقد غفَر اللهُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))[7].

فكما نرى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستشعر حقيقةَ عبوديته لله في الصلاةِ، وقِسْ على ذلك كلَّ عبادة لله تعالى؛ فنحن نفتقرُ إلى الله وهو الغنيُّ عن عباده.

اقرأ أيضا  إضاءات من الآداب النبوية والأخلاق المحمدية

وقد صحَّ عنه: أنه حثَّ عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما على القيام، فقال صلى الله عليه وسلم له: ((يا عبدَ الله، لا تكُنْ مِثل فلانٍ، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل))[8].

ومما ينبغي ذِكرُه هنا: أن اللهَ تعالى جعل مِن محاسن أهل الإيمان القيامَ له – جل في علاه – في الظُّلَمِ، فقال في كتابه الكريم: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17].

  • قال السعديُّ – رحمه الله -: “أي: المحسنون، ﴿قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17]؛ أي: كان هجوعُهم؛ أي: نومُهم بالليل، قليلًا، وأما أكثرُ الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاةٍ، وقراءةٍ، وذِكر، ودعاء، وتضرُّع”؛[9] اهـ.

قلت: وقيامُ الليل مِن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم وسنَّته، وبيان لعبودية الإنسان للخالق – جل في علاه – وفيه مِن الفوائد لتنشيطِ الجسم وسلامته ما لا يغيبُ عن العقلاء.

  • يقول ابنُ القيم – رحمه الله -: “كذلك قيام الليل مِن أنفع أسباب حِفظ الصحة، ومِن أمنع الأمور لكثيرٍ مِن الأمراض المزمنة، ومِن أنشط شيءٍ للبدن والرُّوح والقَلْب؛ كما في الصحيحينِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يعقِدُ الشيطان على قافيةِ رأسِ أحدكم إذا هو نام ثلاثَ عُقَدٍ، يضرب على كل عقدة: عليك ليلٌ طويلٌ، فارقُدْ، فإن هو استيقظ فذكَر الله، انحلَّتْ عقدة، فإن توضأ، انحلَّتْ عقدة ثانية، فإن صلى، انحلَّتْ عُقَدُه كلُّها، فأصبح نشيطًا طيِّبَ النفس، وإلا أصبَح خبيثَ النَّفْسِ كسلانَ))[10]“؛[11]اهـ.

فنحن إن أردنا استشعارَ حقيقةِ عبوديتنا لله تعالى، فليكُنِ القيامُ غايةً ووسيلة، والبُعد فيه وفي غيره من الأعمال عن الرياء والتفاخر والكِبْر؛ لأنه يحبط العمل.

وقد صحَّ عنه أنه قال لأصحابه: ((لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النصارى ابنَ مريم؛ إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه))[12].

2- مِن صور صدق الإيمان: الحرصُ على تطبيق شرع الله تعالى وحدوده:

تطبيق الشريعة الربانية وحدود الله تعالى، ولو كان على أحب الناس إليك وأقربهم إلى قلبك دون تردُّد ولا اعتراض بحجة اختلاف العصر، ووجود حدود زاجرة أرحم بالإنسان وآدميته؛ كالحبس في السجون أو ما أشبه – دليلٌ على قوة إيمانك، وصدق محبَّتِك لله تعالى ورسوله؛ ولهذا عندما أراد أسامةُ بن زيد – رضي الله عنه – أن يشفَعَ للمرأة المخزومية التي سرَقَتْ، ردَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بلا تردُّد، وهو الحِبُّ ابنُ الحِبِّ، وقال له: ((أتشفَعُ في حدٍّ مِن حدود الله؟!))، ثم قام فاختطب، ثم قال: ((إنما أهلَك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرَق فيهم الشريفُ ترَكوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقَتْ، لقطعتُ يدَها))[13].

ولا يَغيب عن فِطنة المسلم الموحد أن فاطمة – رضي الله عنها – أم الحسن والحسين سيِّدَيْ شباب أهل الجنة، وزوجة علي بن طالب ابن عم رسول الله، وهو الذي قال له صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلةِ هارون مِن موسى))[14]، وهي سيدةُ نساء أهل الجنة؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: ((يا فاطمة، أما ترضَيْنَ أن تكوني سيدةَ نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة))[15]، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم للناس ردًّا على شفاعة أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – في حدٍّ من حدود الله تعالى: (لو سرقت، لقطع يدها) وهو أبوها!

وتأمَّل كلامَ مَن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: ((لقطعتُ يدها))، ولم يقل: لأمرت بقطع يدها! فظاهره هو الذي يباشر قطعها بنفسه لو سرقت، فمَن منا يطيق هذا؟

وهذا ما يفعله صدقُ الإيمان في القلب، الذي يؤيده عمل الجوارح.

3- مِن صور صدق الإيمان: الإحسان إلى الجار:

  • وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذِ جارَه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرِمْ ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقُلْ خيرًا أو ليصمُتْ))[16].

ثلاثُ صُوَرٍ مِن صور صدق الإيمان في القلب لِمَن عمل بها حقًّا، ونكتفي – كمثال – ببيان الصورة الأولى، وهي: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر، فلا يؤذِ جارَه)).

فأذى الجار حاصلٌ في زماننا هذا بين الكثير ممن يدَّعي الإيمان؛ فالغالبُ بين الجار المسلم وجاره – إلا من رحم ربي – إن رأى منه حسنةً كتَمها، وإن رأى منه سيئة أذاعها؛ ليفضَحَه بها بين الناس شماتةً فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر في حديث آخر نافيًا صحة الإيمان عمن يؤذي جاره، فيقول: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمَنُ جارُه بوائقَه)) [17].

اقرأ أيضا  خواطر في فن التربية

فهل بعد كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلامٌ يقال، وكيف يتبع مَن يدَّعي الإيمانَ الهوى وهو يصدُّ عن الحق ويؤذي جاره والحق أحقُّ أن يتبع؟! وأين مَن يتركون هذه الوصية وغيرها مِن قول الله تعالى وتحذيره لهم في آيات بينات: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 20 – 22].

وبعد أن أدركنا هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان الصادق بما طرحنا من أمثلة على سبيل المثال، وعلِمنا حقيقة الداء، وهو الاكتفاء بالنطق باللسان دون يقين وصدق في الإيمان الذي يدل عليه الاستقامة على الطريق المستقيم والالتزام بتعاليم الشريعة الربانية، وفي يقيني أن العبد منا لن يستشعر حقيقة عبوديته لله تعالى إلا إذا صدق في عزمه على المضي قدمًا في طريق الترقي والسمو في الإيمان الذي يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو قطعًا ليس طريقًا هينًا مفروشًا بالورود، بل طريق شاق ومرهق يخالف الهوى والنفس الأمَّارة بالسوء.

وإن شاء اللهُ تعالى نواصل بيان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو خير الهدي، لِمَن أراد خير الدنيا والآخرة، واللهُ مِن وراء القصد، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمين.

[1] أخرجه مسلم برقم/ 38 – باب جامع أوصاف الإسلام.

[2] انظر جامع العلوم والحكم، شرح الحديث الحادي والعشرين، لابن رجب الحنبلي.

[3] انظر فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 248) – المجموعة الأولى – جمع وترتيب: أحمد بن عبدالرزاق الدويش – نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء – الإدارة العامة للطبع – الرياض.

[4] أخرجه مسلم برقم/ 537 – باب تحريم الكلام في الصلاة.

[5] انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي (ص/ 487) – تحقيق: عبدالرحمن بن معلا اللويحق – الناشر: مؤسسة الرسالة – الطبعة: الأولى 1420هـ – 2000 م.

[6] انظر مجموع فتاوى العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله – سؤال رقم/ 19 – جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر.

[7] أخرجاه في الصحيحين، البخاري برقم/ 4836 – باب: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [الفتح: 2]؛ ومسلم برقم/ 2819 – باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.

[8] أخرجه البخاري برقم/ 1152 – باب ما يكره مِن ترك قيام الليل لِمَن كان يقومه.

[9] أخرجه البخاري برقم/ 3445 – باب قول الله: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [مريم: 16].

[10] أخرجاه في الصحيحين، البخاري برقم/ 1142 – باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يُصَلِّ بالليل، ومسلم برقم/ 776 – باب ما رُوِيَ فيمن نام الليل أجمعَ حتى أصبَح.

[11] – انظر زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (4/ 227) – الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت – مكتبة المنار الإسلامية، الكويت – الطبعة: السابعة والعشرون، 1415هـ / 1994م.

[12] أخرجه البخاري برقم/ 3445 – باب قول الله: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [مريم: 16].

[13] أخرجه البخاري برقم/ 3475 – باب حديث الغار.

[14] أخرجه البخاري برقم/ 3706 – باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه.

[15] أخرجه البخاري برقم/ 6285 – باب مَن ناجى بين يدي الناس، ومن لم يخبر بسر صاحبه، فإذا مات أخبر به.

[16] أخرجه البخاري برقم/ 6138 – باب إكرام الضيف، وخدمته إياه بنفسه.

[17] أخرجه البخاري برقم/ 6016 – باب إثم مَن لا يأمن جارُه بوائقَه.

الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.