زواج النبي بالسيدة عائشة عند العلماء والعقلاء والمنصفين

الخميس 8 ربيع الأول1438 الموافق 8 ديسمبر/ كانون الأول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”

د. محمد رمضان أبوبكر محمود – زكريا عثمان عباس

عند العلماء والعقلاء والمنصفين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

وبعد:

فإن ممَّا يُدمِي القلب، ويَبعث الأَسَى في النفس: أن يَنقلِب الحقُّ باطِلاً، والباطلُ حقًّا، وأن يُلتَمس لأشرفِ مخلوقٍ وأطهرِ نفسٍ على وجه الأرض ما يُعابُ به، فقد حاوَل بعض الناس أن يَنالوا من عظمة خير خلق الله سيدنا محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وذلك من خلال قصَّة زواجِه من السيدة عائشة – رضي الله عنها – فقد صَوَّروا هذا الزواج الشَّرِيف بصورة ما يحدث أحيانًا من زواج رجلٍ كبيرٍ في السنِّ من فتاة صغيرة لأجل المتعَة والشهوَة  فقط، بل صَوَّروا السيدة عائشة – رضي الله عنها – بصورة الطفلة الصغيرة التي زوَّجها أبوها لصَدِيقه إرضاءً له وطلبًا للحَظْوَة عنده، وجعلوا فارِق السنِّ تُكَأَةً للطعْن في أخلاق النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ومن العدْل عدمُ الحكْم على شخصيَّة – خاصَّة إذا كانت ذاتَ قيادة وريادة في مَسِيرة الإنسانية – من خِلال واقِعَة مُعيَّنة بدون الرُّجوع إلى معرفة كافِيَة عن هذه الشخصيَّة، وسِيرَتها الذاتيَّة، ثم المعرفة الحقيقيَّة لهذه الواقعة، وعدم الاكتِفاء بأقوال الحاقِدين المعانِدين، الذين يُرِيدون صرْف أنوار الحقِّ عن الخلق.

لهذا فإننا – قبل الحديث عن هذا الزواج – ندعو العُقَلاء والمنصِفين من البشَر لمُطالَعة طرفٍ يَسِير جدًّا من أقوال المستشرِقين المنصِفين من غير  المسلِمين الذين درسوا حياة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وخرجوا بحقائق مهمَّة، فقد وقف كثيرٌ من العُظَماء والمفكِّرين من غير المسلمين عَبْرَ التاريخ أمام سيدنا محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – موقف التعظيم لسيرته والإعجاب بشخصيَّته، والإشادة بمواقفه ومَبادِئه، فهذا هرقل عظيم الرُّوم يَطرَح كثيرًا من الأسئلة عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – على أبي سفيان – الذي كان وقتَها أشدَّ أعداء الإسلام – ليَنتهِي به المَطَاف بصدق دعوة محمدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بقوله: “لو كنت عنده لغسلت عن قدمه”.

♦ أمَّا النجاشي ملك الحبشة فقد أخضَلَ بُكاؤُه لحيتَه عندما سمع بعض ما جاء به محمدٌ قائلاً: “إن هذا الكلام والذي جاء به عيسى ليَخرُجان من مِشكاة واحدة”.

♦ يقول المفكِّر الفرنسي لا مارتين: محمد هو النبيُّ، الفيلسوف، الخطيب، المشرِّع، المحارِب، قاهِر الأهواء، وبالنظر لكلِّ مقاييس العظمة البشرية، أَوَدُّ أن أتساءَل: هل هناك مَن هو أعظم من النبي محمد؟!

♦ أمَّا الأديب الإنجليزي الشَّهِير برنارد شو فيقول: إن العالَم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي لو تولَّى أمرَ العالم اليوم، لوُفِّق في حلِّ مشكلاتنا بما يُؤمِّن السلام والسعادة التي يَرنُو البشر إليها.

♦ أمَّا مايكل هارت فيقول في كتابه “الخالدون مائة أعظمهم محمد”: إن اختِياري محمدًا ليكون الأوَّل في أهمِّ وأعظم رجال التاريخ، قد يُدهِش القُرَّاء، ولكنَّه الرجل الوَحِيد في التاريخ كلِّه الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.

♦ الزَّعِيم الهندي المهاتما غاندي الذي يقول: بعد انتِهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول محمد، وجدت نفسي بحاجة للتعرُّف أكثر على حياته العظيمة، إنه يملك بلا مُنازِع قلوب ملايين البشر.

♦ أمَّا الكاتب الإنجليزي توماس كارلاي فيقول: إني لأُحِبُّ محمدًا لبراءة طبعه من الرِّياء والتصنُّع… إنه يُخاطِب بقوله الحرِّ المُبِين قَياصِرَةَ الرُّوم وأَكاسِرة العجم، يُرشِدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة الدنيا والحياة الآخِرة.

♦ أمَّا الأديب البريطاني جورج ويلز فيرى في محمدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أعظم مَن أقام دولةً للعدل والتسامح.

♦ أمَّا الباحِث الإنجليزي لاينثر فيَقول: إنِّي لأجهر برَجائي أن يجيء اليومُ الذي يَحتَرِم فيه النصارى المسيحَ – عليه السلام – احتِرامًا عظيمًا باحترامهم محمدًا، ولا رَيْبَ في أنَّ المسيحيَّ المُعتَرِف برسالة محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وبالحق الذي جاء به هو المسيحي الصادق.

♦ ويري الأديب الروسي الشهير تولستوي: أنَّ شريعةَ محمدٍ ستَسُودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.

♦ ويقول المستشرِق ميشون: إن الإسلام الذي أمر بالجهاد قد تَسامَح مع أتباع الدِّيَانات الأخرى، وبفضل تعاليم محمد لم يمسَّ عمر بن الخطَّاب المسيحيين بسوء حين فتح القدس.

♦ ويقول المؤرِّخ الفرنسي جوستاف لبون: إن محمدًا هو أعظم رجال التاريخ.

♦ أمَّا مؤلِّف موسوعة “قصة الحضارة” ول ديورانت فيقول: إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أَثَرٍ في الناس، قلنا: إن محمدًا هو أعظم عُظَماء التاريخ.

وصدَق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

وبعدُ، فهذه نُبْذَة يَسِيرة عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – آثَرتُ أن تكون من أقوال غير المسلمين؛ حتى لا نُتَّهم بالمُحابَاة لنبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأحبَبتُ أن أُقدِّمها بين يدي موضوعنا حتى يعلم الجميع عمَّن نتحدَّث، وحتى لا نفصل الواقعة التي لم يفهمها البعض عن الشخصية التي عَرَفها عقلاء وعلماء الشرق والغرب وشهدوا لها بالعظمة.

والآن هيَّا ننظُر إلى هذا الزواج المُبارَك بعين الحق والإنصاف، ولكي يتَّضح الأمر بجلاء لِمَن يسأل عن زواج النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بالسيِّدة  عائشة – رضِي الله عنها – سؤال استِيضَاح وبيان؛ ليعرف المُلابَسات التي صاحبَتْ هذا الزواج، والحكمة من ورائه – أوضِّح له ذلك في نِقاط مُحدَّدة، فأقول:

الحياة الزوجية لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قبل زَواجِه بالسيِّدة عائشة – رضِي الله عنها -:

أولاً: النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – تَزَوَّج في شبابِه، وهو في الخامسة  والعشرين من عمره لأوَّل مَرَّة بالسيدة الفاضلة خديجة – رضِي الله عنْها – وكان قد سبَق لها الزواج مَرَّتين، وكانت تَكبُرُه بخمس عشرة سنة؛ فقد  كانت في سنِّ الأربعين من عمرها، ولم يكن ذلك عن قِلَّة ذات يَدٍ، أو رغبة في رفعة النَّسَب، كلاَّ، بل كان – صلَّى الله عليه وسلَّم – تاجِرًا مَعرُوفًا بين أهل مكَّة بالأمانة يَتمنَّى كلُّ صاحب مالٍ أن يُتاجِر له – صلَّى الله عليه وسلَّم – في ماله، ولم يكن بين أهل مكة مَن هو أعلى نسَبًا ومكانَةً منه؛ فهو هاشميُّ الأب والجدِّ، وكان جدُّه عبدالمطَّلِب سيِّد مكة بلا مُنازِع، وأمُّه وأخواله من بني زهرة – قبيلة معروفة بمكة – ومن ثَمَّ كانت تَطمَع في مُصاهَرَتِه جميع بُيُوتات مكَّة؛ بل العرب كلها.

ثانيًا: قضى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فترةَ شبابِه كلَّها مع السيدة  خديجة – رضي الله عنها – ولم يَتزوَّج عليها حتى تُوُفِّيَت، وكان قد بلغ الخمسين من عمره، والمجتمع من حوله لا يَعِيب على الرجل أن يتزوَّج على امرأته مَرَّة أو مرَّتين أو مرَّات عَدِيدة، ولم يُعرَف عنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – لا قَبْلَ الزواج ولا بعدَه أنه تَطَلَّع إلى امرأةٍ، أو دنَّس عِرضه  بالسِّعْيِ وراء الجواري والغانِيَات – وما أكثَرَهنَّ بمكَّة في ذلك الوقت – ولو حدَثَ هذا لكان أعداؤه من أهل مكَّة أوَّلَ مَن يَنشُرون عنه ذلك ويتَّهمونه به، وهذه الفترة هي فترة اشتِداد الشهوة والرغبة عند الرجال.

ثالثًا: تزوَّج النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعد السيدة خديجة – رضِي الله عنها – بامرأةٍ مُسِنَّةٍ سبَقَ لها الزواج من قبله، وهي أكبر منه بكثيرٍ وهي  السيِّدة سَوْدَة بنت زَمْعَة – رضي الله عنها – ليُواسِيَها بعد وفاة زوجها بالحبشة، ويُنفِق عليها.

من هنا نظَرَ العلماء والعقلاء والمنصِفون إلى الخمسين سنةً الأولى في حياة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فوجدوها مُنِيرة خالِيَة من أيِّ شائبة، ووجَدُوها نموذجيَّة مِثالِيَّة لائقة بعظمة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مجال الحياة الزوجيَّة، وعلى الرغم من وجود الحريَّة التامَّة في الزواج بأجمل جميلات العرب وعدم إنكار مُجتمَعِه للتعدُّد، فإنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – لم يفعل ذلك؛ ممَّا جعل العقل يَحكُم باستِحالَة أن تتفجَّر الشهوة فجأة بعد هذه السن عند النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ليتزوَّج من أجلها؛ ومن ثَمَّ فلا بُدَّ من أن يكون زواجه – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعد ذلك لحِكَمٍ ومعانٍ أخري غير قضاء الوَطَر والشهوة فقط.

كان هذا الزواج بوحي من الله – تعالى -:

من المعلوم أنَّ رُؤيَا الأنبياء حقٌّ ووحيٌ كرُؤيَا إبراهيم – عليه السلام – حينما رأى أنه يَذبح ولده، ولقد رأى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – السيِّدة عائشة – رضِي الله عنها – في المنام، وأخبَرَه الملك أنها زوجته فاستَمِع معي إلى هذه الرواية عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة – رضِي الله عنها – أنها قالَتْ: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أُرِيتُك في المَنامِ ثلاثَ ليالٍ جاءَني بكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ – أي: قطعة جيِّدة – من حريرٍ فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنتِ هي، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمضِهِ))؛ (رواه مسلم).

وتأمَّل في قول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن يكُ هذا من عند الله يُمضِهِ))، وكأنَّ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يرى هؤلاء المُعتَرِضين والمُستَغرِبين من الحاقِدين ومن غير العالِمين بحقائق الأمور الذين استغرَبُوا هذا الزواج المُبارَك في هذا العصر فقط، فأخبَرَ – صلَّى الله عليه  وسلَّم – أنَّه ما دام هذا من أمر الله فسيُمضِيه الله؛ لأن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ما كان له أن يَحِيد عن وحي ربِّه طَرْفَة عينٍ، وتَلمَح فيه طاعَتَه لربِّه، وتوكُّله عليه، ويقِينه بأن لله حكمةً بالِغةً في كلِّ ما يقضيه – سبحانه وتعالى – ومع ذلك فقد كان من شريعته – صلَّى الله عليه وسلَّم – إثبات حقِّ المرأة في قبول النكاح أو رفضه، فقد أثبت النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – للفتاة الحقَّ في قبول النكاح أو رفضه؛ فعن عائشة – رضِي الله عنها -: “أن فتاةً دَخَلَتْ عليها فقالت: إن أبي زوَّجني من ابن أخيه، ليَرفَع بي خَسِيستَهُ، وأنا كارِهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فجاء رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فأخبرتْهُ فأرسل إِلى أبيها فدعاه، فجعل الأمرَ إليها – أي: الحق في القبول أو الرفض – فقالت: يا رسول الله، قد أَجَزْتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن أُعْلِمَ النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء”؛ (أخرجه النسائي).

اقرأ أيضا  عرض سيرة :من هم الصحابة ؟

وليس بأعجب من أن تروِي هذه الواقعة السيدة عائشة – رضي الله عنها – بنفسها لتَرُدَّ على كلِّ مُتَقوِّلٍ على زواجها من نبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – كيف تَمَّ الزواج المبارَك بعد الرؤيا التي رآها النبي – صلَّى الله  عليه وسلَّم – ثلاث ليالٍ وعلم أنه أمر الله – عزَّ وجلَّ – قدَّر الله أن تقترح امرأةٌ تُسمَّى خَوْلَة بنت حكيم على رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن يتزوَّج عائشة بنت أبي بكر – رضِي الله عنهما – وفي هذا العرض دليلٌ على طبيعة هذا الزواج، ورأَتْ أنه إنْ فَعَلَ هذا تمتَّنت هذه الصِّلَة بينه وبين أحبِّ الخلق إليه؛ إنه سيدنا الصدِّيق – رضِي الله عنه.

والحقيقة أن الزواج يُقرِّب، فالزواج أحد أكبر وسائل التقارُب بين الأُسَر؛ لأنَّ علاقة النسب وعلاقة الزواج هي من أقدس العلاقات على الإطلاق.

الآن ندع الحديث للسيِّدة خَوْلَة بنت حكيم تحدِّثنا عن هذه الخطبة:

تقول – رضِي الله عنها -: دخلتُ بيتَ أبي بكر فوجدت أمَّ رُومَان زوجته – أي: أم عائشة – فقلت لها: ماذا أدخَلَ الله عليكم من الخير والبركة؟! – تبشِّرها بخير عظيم – قالت: وما ذاك؟

فقالت: أرسلني رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأخطب له عائشة.

قالت: ودِدتُ – أي: أحب هذا وأتمناه – انتظِري أبا بكرٍ فإنه آتٍ – وهذا من الأدب مع الزوج – وجاء أبو بكر، فقلت له: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟! أرسلَنِي رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأخطُبَ له عائشة.

تصوَّروا ماذا قال؟ قال الصدِّيق – رضِي الله عنه -: وهل تصلح له؟! (رأى مقامه أكبر بكثيرٍ من أن تكون عائشة الصغيرة زوجته، وهل تصلح له؟) إنما هي بنت أخيه.

فرجعتُ إلى النبيِّ – عليه الصلاة والسلام – فقلت له ما قال أبو بكر، فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((ارجِعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي))، فرجعت”؛ (من “مسند أحمد”: عن “السيدة عائشة”).

وذلك لأن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – عَلِم أن الله سيُمضِي هذا الزواج ويُبارِك فيه، فأتيتُ أبا بكرٍ فذكرت له ذلك، فبرزت مشكلة – ترفع مقام سيدنا الصدِّيق للأَوْجِ.

قال: انتظريني حتى أرجع.

قالت أمُّ رُومان تُوضِّح الموقف لخَوْلَة: إن المُطعِم بن عدي كان قد ذكر عائشة على ابنه جُبَير، ولا والله ما وعد أبو بكرٍ شيئًا قطُّ فأخلف.

ذكر المُطعِم بن عدي أنه يَرْغَب في أن يزوِّج ابنه جُبَيرًا من عائشة، وسيدنا الصدِّيق ما أقرَّ ولا نفى، ولكن سكوته شبه وعد، فلا يقدر أن يبتَّ في الأمر، للوفاء بالوعد، الجبير بن المُطعم بن عدي هل يُوزَن مع رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أبدًا، لا، ولكن الوفاء بالعهد من الدين، فأنا أتصوَّر أن سيِّدنا الصدِّيق كاد يتمزَّق إنْ فاتَتْه فرصة زواج رسول الله – صلَّى  الله عليه وسلَّم – بعائشة، ولم يخطر في باله أبدًا أن يخطب النبيُّ – عليه الصلاة والسلام – ابنته عائشة، طبعًا كلُّ أبٍ إذا جاءَه شابٌّ جيِّدٌ وأعلَنَ عن رغبته فمن الممكن أن تُرَحِّب، وبالترحيب يَصِير شبهَ وعدٍ، لا يستطيع أن يقول: نعم للنبيِّ حتى يُنهِي هذه المشكلة، فذهب من تَوِّه إلى المُطعِم بن عدي.

دخل أبو بكر على مُطعِم وعنده امرأته أم جُبَير، وكانت مُشرِكةً، فقالت العجوز: يا ابن أبي قُحافة، لعلَّنا إن زوَّجنا ابننا من ابنتك أن تصبئه وتُدخِله في دينك الذي أنت عليه.

نحن عندنا مشكلة معك، نَخاف أن نُزوِّج ابننا من ابنتك فتصبئه معك وتُدخِله في دينك، هذا كلام الزوجة، سيدنا الصدِّيق لم يردَّ عليها إطلاقًا بل التفَتَ إلى زوجها المُطعِم فقال: ما تقول هذه؟ – أي: أنتَ موافق؟ هل حقًّا تخاف إن زوَّجْت ابنك ابنتي أن يدخل معي في الإسلام؟ – فقال: إنها تقول كذلك؛ أي: أيَّدَها، ووافَقَها، واعتَمَد قولها.

فخرج أبو بكرٍ – رضِي الله عنه – وقد شعر بارتياحٍ لِمَا أحلَّه الله من وعده، وعاد إلى بيته فقال لِخَوْلَة: ادعي لي رسول الله.

يبدو أن هناك تقليدًا في الحياة العربية أنَّ الخاطِب لا بُدَّ من أن يأتي إلى بيت المخطوبة هكذا، انظر إلى الموقف الأخلاقي: ((لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له، ولا دِين لِمَن لا عهدَ له))؛ (من “مسند أحمد”، عن “أنس بن مالك”).

سيدنا الصدِّيق، أنا أتصوَّر أنه قد دخَل على قلبه من الفرح ما لا يصفه  إنسانٌ، ومع ذلك مُرتَبِط بوعْد، قال لها: انتَظِري، الله – عزَّ وجلَّ – هيَّأ الجوَّ، وتكلَّمَتْ هذه المرأة المشرِكة فقالت: أنا أخشى إن زوَّجتُ ابني ابنتَك أن تُدخِله معك في دينك، تركها، ما تقول يا رجل؟ يعني: زوجها، قال كما قالت، إذًا انتهى الموضوع.

فقال لِخَوْلَة: ادعِي لي رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فمضَتْ خَوْلَة إلى الرسول الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – فدعَتْه، فجاء بيت صديقه أبي بكر، فأنكَحَه عائشة وهي يومئذٍ بنت ستِّ سنين أو سبع – طبعًا لم يقع زواجٌ لكن جرى عقدٌ – وكان صَداقُها خمسمائة درهم، (انظر: موسوعة دكتور راتب النابلسي).

إذًا؛ عقَدَ النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – على السيِّدة عائشة بمكَّة وهي بنت ستِّ سنين، ودخل بها في المدينة وهي بنت تسع سنين، فلماذا انتظر النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – هذه السنوات الثلاث؟ لأن السيِّدة عائشة لم تكن قد بلغت المحيض عند العقْد عليها، ثم بلغت بعد ذلك وصارت مُطِيقةً للزواج، وعندها بنى بها النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يعنى: كانت قد خرجت من طور الطفولة إلى طور الفتيات البالغات.

اعتبارات الزمان والمكان عند العلماء والعقلاء والمُنصِفون:

للفارِق الزمني واختلاف الأماكن أكبرُ اعتبارٍ في الحكم على مثل هذا الزواج، فقد كان ذلك معروفًا في ذلك الزمان عند العرب والأوربيِّين على السواء؛ فبنات نبيِّ الله داود كُنَّ يتزوَّجن في هذه السن، وكذلك أحبَّ (دانتي) (بياتريس) وشبب بها وكانت في السادسة، وكانت (جوليت) في رواية (شكسبير) أمُّها تُعَيِّرها أنها صارت في الثالثة عشرة من عمرها ولم تتزوَّج، بينما رَفِيقاتها تزوَّجن في التاسعة وقبل ذلك، وصار لهنَّ أولاد يذهبن للمدارس.

مَن يُمارِي ويُكابِر في بلوغ السيِّدة عائشة في سنِّ التاسعة، ويَقِيسها على بنات التاسعة اليوم – إنسانٌ لا علم له بالتطوُّر الجسدي للإنسان عبر التاريخ، ولا علم له بالفُرُوق الفرديَّة بين الناس في وقت بُلوغهم، ولا علم له – أيضًا – بأثر الظروف المناخية والبيئية في بلوغ الإنسان؛ فقد مرَّ بالإنسان فترات تاريخية قديمة كان جسده من حيث البنيَة والطُّول أضعاف ما عليه الآن، والناس ما زالوا يتناقَصُون في هذا جِيلاً بعد جيل حتى يومنا هذا، وقد تجد أخوين في أسرة واحدة بينهما فارق في وقت البلوغ يصل إلى عامٍ أو عامين، فضلاً عمَّا هو مُطَّرِد عند الكثير من الشعوب من بلوغ البنات قبل البَنِين، والظُّروف المناخية والبيئية؛ من الحرارة والبرودة، والجفاف والخصوبة، والحضارة والبداوَة، ووسائل الإعلام والاتِّصال ونحوها عوامِل مُؤثِّرة بدرجة كبيرة في سرعة وتأخُّر بلوغ الفتى والفتاة؛ والدليل على ذلك في عصرنا الحالي حيث انخفَضَ سنُّ البلوغ في أغلب أنحاء العالم مع النموِّ الجنسي المبكِّر للفِتيان والفَتيات، وكثرة المُثِيرات الشهوانيَّة التي أفرزَتْها التغيُّرات الاجتِماعية والصناعيَّة والثقافية والإعلامية التي طرَأَتْ على العالم في القرن العشرين.

شهادة العلم:

يقول د. محمد علي البار: “انخفَضَ سنُّ البُلوغ في الولايات المتَّحدة وأوروبا بمعدَّل ثلاثة أشهر لكلِّ عقد من الزمن، وأنه انخفَضَ بمعدَّل سنتين ونصف منذ بداية القرن العشرين”.

ولِمَ نذهب بعيدًا، وهذا البيان المشتَرَك بين مُنَظَّمة الصحَّة العالمية و(اليونيسف) حول صحَّة التوالُد في سنِّ المُراهَقة يُقَرِّر هذا فيقول: “مع انخِفاض سنِّ بَدْءِ الإحاضة (الحيض) والاتِّجاه المُتزايِد نحو تأخير سنِّ الزواج، أصبحَتْ هذه الفترة أكثر طولاً، وبدأت الاتِّجاهات التقليدية تتغيَّر، وفى نفس الوقت أخذَتْ سلطة العائلة تضعف، وأصبح التحوُّل الحضري والهجرة أكثر شيوعًا، كما أن شباب اليوم يَزداد تعرُّضًا للسياحة ووسائل الإعلام، وهذه كلها عوامل تُؤَدِّي إلى إحداث تغيُّرات كبرى في السلوكيات الاجتماعية والجنسية”.

وأتوقَّع أنه لو استمرَّ هذا الوصف على ما هو مذكور ستَعُود بداية الحيض عند المرأة في أغلب شعوب العالم إلى التاسعة أو ما دونها.

العمر الزمني والعمر العقلي:

اقرأ أيضا  السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب

إنَّ النموَّ الجسدي يختلِف في بعض الأحايين عن النموِّ العقلي والنفسي؛ فقد نجد في بعض الفتيات صَغِيرات السن من الحكمة والعقل وحسن التصرُّف والاستيعاب والفهم ما لا نجده عند كبيرات السنِّ، وهذه هي الفُرُوق الفرديَّة التي لا يستَطِيع أحدٌ إنكارها.

والتاريخ والسيرة يُثبِتان أن السيدة عائشة كانت تَفُوق أَتْرابَها في صفات عقلية ونفسية كثيرة؛ منها: حِدَّة الذكاء، وقوَّة الحافِظَة، وسرعة البَدِيهة،  والجُرْأَة في قول الحق، وغيرها، فقد كانت عالِمة بالحديث والفقه، وتحفظ الشِّعر وتروِيه، وكانت عالِمة بالطبِّ أيضًا، بحيث يُمكِن أن نعدَّها معجزة بين أقرانها، ونضعها في مَصافِّ أعظم النساء عقلاً وحكمة.

لعلَّ قائلاً يقول: نُسلِّم بأن السيدة عائشة بلغت سن الزواج، لكن لِمَ التعجُّل في زواجها من رجلٍ يَكبُرها بكلِّ هذه الأعوام؟

أقول: وأين هذه العجَلَة وقد كانت الجَدَّات منذ عهد قريب – وما زال هذا في  بعض البلاد – يَتزوَّجن بمجرَّد بلوغهن مُباشَرة، ولم يكن في هذا عيبٌ أو ضررٌ يقع على الفتاة، بل على العكس تُثبِت الدراسات الطبيَّة أن الفتاة عند البلوغ تكون مُهَيَّئة تمامًا للزواج من الناحية الفسيولوجية عكس الفتي  “ذلك أن الانقِسام الاختزالي في الخلايا الجرثومية التناسلية عند الرجل لا يبدأ إلا عند البلوغ، ويحتاج إتمامه إلى ثلاثة أسابيع على الأكثر، بينما الانقسام الاختزالي للمرأة يبدأ وهى بعدُ جنين في بطن أمِّها ولا يكتمل إلا بعد الزواج، وعند وجود الحيوان المنوي الذي سيلقح البويضة، وآخِر البُوَيضات خروجًا؛ أي: قبل سنِّ اليأس مُباشَرة يكون قد مضى عليها خمسون عامًا منذ ابتداء انقسامها الاختزالي”.

ومعنى هذا: أن المرأة تُولَد ولدَيْها استعدادٌ للحمل والولادة، إلاَّ أن هذا الاستعداد لا يتحوَّل إلى واقِعٍ إلا عند البلوغ.

فارِقُ السنِّ أمرٌ طبيعي في ذلك المجتمع:

أمَّا فارِق السنِّ بين النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فلم يكن المجتمع العربي في ذلك الوقت يَستنكِر أن يكون الزوج أكبر من الزوجة بكثير، أو الزوجة أكبر من الزوج بكثير، كحال المجتمعات المعاصِرة، بل كان هذا شيئًا طبيعيًّا؛ بدليل أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – نفسه تزوَّج بعددٍ من النساء أكبر منه سِنًّا كالسيدة خديجة والسيدة سَوْدَة والسيدة زينب بنت خُزَيمة، وبعض الصحابة تزوَّجن ممَّن يصغرن عنهم بأعوامٍ كثيرة؛ كسيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين تزوَّج بالسيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب – رضِي الله عنها – وكان هو أمير المؤمنين، وكانت هي فتاة صغيرة قد بلغت الحلم.

وفي الكتاب المقدَّس أن السيدة مريم كانت وهي بنت الثانية عشرة من عمرها كانت مخطوبة ليوسف النجَّار وله تسعٌ وثمانون سنة؛ أي: إن فارِق السن بينهما سبع وسبعون سنة، في حين أن فارِق السنِّ بين نبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – وبين السيدة عائشة – رضي الله عنها – واحد وأربعون سنة، فلِمَ التعجُّب إذًا؟!

إقرار الأعداء المتربِّصين:

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّه لو كان زواج النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بالسيدة  عائشة – رضِي الله عنها – ممَّا يمكن أن يكون مَطْعَنًا في شخصيَّة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أو سيدنا أبي بكر أو السيدة عائشة – رضي الله عنهما – لكان المشركون من قريش وأعداؤه من اليهود وغيرهم – وما أكثرهم في ذلك الوقت في مكَّة والمدينة – أوَّل مَن يستنكِرون عليه ذلك، ويعدُّونه مَنْقَصَة وعيبًا كبيرًا يُشِيعونه، ويَتندَّرون به في المجالس ليَصُدُّوا الناس به عن الإيمان بالنبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ورسالته، أمَا وإن ذلك لم يحدث، فهذا من أكبر الأدِلَّة على أن فارِق السنِّ لم يكن له أدنى تأثير في الزواج في المجتمع العربي في ذلك الوقت.

من فوائد ومَنافِع هذا الزواج المبارَك:

أولاً: علمها – رضِي الله عنها -: لقد انتفعت الأمَّة بما تميَّزت به السيدة  عائشة – رضي الله عنها – من قدرات علمية وذهنية فائِقة لم تتوفَّر في العادة لمثلها.

فقد قال بعض العلماء: “إن ربع الأحكام الشرعيَّة عُلِم منها”.

إنَّ ربع الأحكام الشرعيَّة التي عرَفناها من رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إنما عُرِفَت من أحاديث روَتْها السيِّدة عائشة – رضِي الله عنها – فامرأة النبي، زوجة النبي، أم المؤمنين لها دورٌ خطيرٌ جدًّا في الدعوة؛ لأنها يمكن أن تختصَّ بالنساء، فمن المعلوم أن النساء كُنَّ يسألن النبي – عليه الصلاة والسلام – عن موضوعاتٍ تَخُصُّ حالَهنَّ، وأفضَلُ إنسان تُعَبِّر عن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذًا لها دورٌ في الدعوة كبيرٌ، وفي هذا دليلٌ على رفْع الإسلام لقدر المرأة.

ويقول العلماء أيضًا: “ما رأَوْا أحدًا أعلم بمعاني القرآن وأحكام الحلال والحرام من السيِّدة عائشة، وما رأى العلماء أحدًا أعلم بالفرائض (أي: علم المواريث) والطب والشِّعر والنسب من السيدة عائشة”.

مع أنها صغيرةٌ إلا أنها كانت شيئًا نادِرًا في الذكاء، وشيئًا نادرًا في الحفظ، وشيئًا نادرًا في الوفاء للنبي – عليه الصلاة والسلام.

من هنا أَيْقَنَ العلماء والعقلاء والمنصِفون أن زوجات النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قد اختارهنَّ الله – جلَّ جلاله – له لما سيكون لهن من دورٍ في الدعوة مُستَقبَلاً.

وهذه السيدة الجليلة – السيدة عائشة – روَتْ عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ألفَيْ حديث ومائتين وعشرة أحاديث، وحفِظَت القرآن الكريم كلَّه في حياة النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم.

إذًا؛ هناك حكمةٌ إلهيَّةٌ بالغة من أن الله – سبحانه وتعالى – هيَّأ لرسوله الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – هذه الزوجة العاقلة، المتَّقِدة في الذهن والذكاء والفِطنَة، كثيرة الملاحَظة، ذات النفسيَّة الطيِّبة.

يقولون: “ولو لم تكن السيِّدة عائشة – رضِي الله عنها – في تلك السن التي صحبت بها رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهي السن التي يكون فيه الإنسان أفرغَ بالاً، وأشدَّ استِعدادًا لتلقِّي العلم، لما تهيَّأ لها ذلك”.

فالعلم شيءٌ أساسٌ في حياة المؤمن، والنبي – عليه الصلاة والسلام – كلُّ شيءٍ يقوله ينبغي أن يُنقَل عنه، وأفضل امرأةٍ تنقل عنه زوجته؛ إذًا فلنطمئن أنَّ الله – سبحانه وتعالى – اختارَها على علمٍ لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.

قال الإمام الزُّهري: “لو جُمِع علم عائشة إلى علم جميع أمَّهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل”.

والحقيقة أن الشيء الذي يُدهِش العقول، أو الشيء الذي يلفِت النظر أن تكون المرأة على درجة عالِيَة جدًّا من الفهْم والعلم والفقه، فالمرأة عند الناس امرأة، لكن المرأة التي تتمتَّع بعقلٍ راجح، وإدراكٍ عمِيق، وفهمٍ دقيق، وحفظٍ شديد، هذه امرأةٌ نادرةٌ جدًّا، وامرأةٌ مُؤَهَّلةٌ لأن تكون زوجة لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.

عَطاء بن أبي رَباح يقول: “كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن  الناس رأيًا في العامَّة”.

وقال أبو موسى الأشعري: “ما أَشكَل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة، إلا  وجدنا عندها فيه علمًا”.

وقال مَسرُوق: “رأيت مَشْيَخَة أصحاب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم –  الأكابر يسألونها عن الفرائض”.

وقال عروة: “ما رأيت أحدًا أعلم بفقهٍ ولا طبٍّ ولا شِعرٍ من عائشة”.

وقال أبو الزِّناد: “ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعرًا”.

لقد فاقت السيِّدة عائشة الأقمار الصناعِيَّة في تسجيل حركات وسكنات وأقوال نبيِّنا بالفهم والوعي.

ثانيًا: تقديم النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – القدوة من نفسه للناس  جميعًا في مُعامَلة المرأة صغيرة السن؛ لذا كان يتحمَّل منها النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ما لا يتحمَّله من غيرها لصِغَر سنِّها، وفي هذا قدوة لِمَن تزوَّج امرأة صغيرة في السن تحتاج إلى التدليل والصبر عليها أكثر من غيرها، وكذلك جانب البكارة حيث كانت زوجات النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – من الأرامِل والمطلَّقات، فكان لا بُدَّ أن يتزوَّج النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بامرأةٍ لم يَسبِق لها الزواج؛ ليعطي الرجال القدوة من نفسه في كيفيَّة مُعامَلتِها والعِشرة معها.

ومن الأمثلة على ذلك هذه الواقعة الطَّرِيفة التي تُعطِي أروع الأمثلة في حسن مُعاشَرة الزوجة الشابَّة مهما كانت الظروف وكثرة الأعباء؛ قالت السيدة عائشة – رضِي الله عنها -: خرجت مع النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في بعض أسفاره وأنا جاريَة لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: ((تقدَّموا))، فتقدَّموا ثم قال لي: ((تعالَيْ حتى أسابقك))، فسابَقتُه فسبقتُه فسكَتَ عَنِّي حتى إذا حمَلتُ اللحم وبَدُنت ونَسِيت، خرجت معه فى بعض أسفاره فقال للناس: ((تقدَّموا))، فتقدَّموا، ثم قال: ((تعالَيْ حتى أسابقك))، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: ((هذه بتلك))؛ (“مجمع الزوائد”).

ثالثًا: تقديم القدوة في جانبٍ آخر وهو حبُّ الرجل لزوجته عندما يكون  متزوِّجًا بأكثر من امرأة، فقد رزق الله – تعالي – النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – حبَّها، ومع ذلك لم يدفعه هذا الحبُّ إلى ظلم الزوجات الأُخرَيات، بل كان يَعدِل بينهن جميعًا، حتى في مرض موته كان يتنقَّل بين بيوتهن حتى أُذِن له أن يُمرَّض في بيت السيدة عائشة – رضِي الله عنها.

رابعًا: بيان مكانة ومنزلة سيدنا أبي بكر – رضِي الله عنه – عند الله – تعالى  – وعند النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – حيث وجَّه الله – عزَّ وجلَّ – نبيَّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – للزواج من ابنته، وهذا شرف ما بعده شرف.

اقرأ أيضا  فضائل بيت المقدس

هذه بعض الحِكَم التي لاحَتْ من زواج النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – من  السيدة عائشة – رضِي الله عنها – وإن كان الأمر كما سبق أن ذكرت لا يحتاج إلى التِماس العِلَل والحِكَم من ورائه؛ لأنه كان زَواجًا عاديًّا لم يُثِر أيَّ اتِّهام أو غَضاضة عند أعداء النبيِّ – عليه الصلاة والسلام – في حِينِه، بل لم يسترعِ انتباههم أصلاً، وهم الذين كانوا يبحثون في أخلاق النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن شيءٍ يتَّهمونه به، بل كانوا يُلصِقون به ما هو منه بَراء من قولهم: ساحر ومجنون، ونحوهما، فلمَّا سكتوا عن هذا دلَّ ذلك على أن الأمر طبيعيٌّ لم يخرج عن المألوف في المجتمع آنذاك، فكيف يأتي اليوم مَن يتَّخذ من هذا الأمر ذريعةً للطعن في أخلاق النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم؟!

السيدة عائشة – رضِي الله عنها – خُيِّرت فاختارَتْ:

واقعة التخيِير من الوقائع الشهيرة في بيت النبوَّة والتي ثبتَتْ بالقرآن والسنَّة؛ وذلك أن نساء النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – سألنَ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن يُوسع عليهن في النفَقَة، وأغضب ذلك رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأنه مسؤول عن الأمَّة كلِّها، وفيهم الفقير والضعيف وذو الحاجة، وهو لهم جميعًا كالأب، وحاجَة بيوتهم قدَّمها – صلَّى الله عليه وسلَّم – على حاجة بيته، فقد كانت تأتيه الأموال الكثيرة فيضعها في مصالح المسلمين وحاجاتهم.

ومن ثَمَّ نزل القرآن الكريم يأمُر النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن يُخَيِّر نساءه بين البقاء معه وتحمُّل أعباء قِيادة الأمَّة، وبين الفِراق بعد أخْذ حقوقهنَّ كاملة، فانظر معي إلى مُجرَيات هذه الواقعة.

فعن جابر بن عبدالله – رضِي الله عنه – قال: دخل أبو بكر يستأذِن على رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فوجد الناس جلوسًا ببابه لم يُؤذَن لأحدٍ منهم – قال: – فأَذِن لأبي بكر فدخل، ثم أقبَلَ عمر فاستأذن فأَذِن له، فوجد النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – جالسًا حولَه نساؤه واجِمًا ساكِتًا، قال: فقال: لأقولنَّ شيئًا أُضحِك النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة – يعني: زوجته – سألتْني النفَقَة فقمت إليها فوَجَأْت عنقها!

فضحك رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقال: ((هنَّ حولي كما ترى يسألنني النفَقَة))، فقام أبو بكر إلى عائشة – ابنته – يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة – ابنته – يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – شيئًا أبدًا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28- 299].

قال: فبدأ بعائشة فقال: ((يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحبُّ ألا تَعجَلِي فيه حتى تَستَشِيري أبوَيْك))، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية قالت: أفيكَ يا رسول الله أستشير أبويَّ؟! بل أختار اللهَ ورسولهَ والدارَ الآخرة، وأسألك ألاَّ تخبر امرأةً من نسائك بالذي قلت، قال: ((لا تسألني امرأةٌ منهن إلاَّ أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتًا ولا مُتعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا مُيَسِّرًا))؛ (رواه مسلم).

لا يخفى ما في هذا الحديث من فوائد، منها:

♦ عدم استجابة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأيِّ رغبةٍ تُنافِي مصلحة  المسلمين.

♦ لم يرضَ لنفسه وأهل بيته أن يعيشوا عيشة الملوك المُتْرَفِين، وينسى  آلامَ المحرومين.

♦ غضب وحزن المسلمين جميعًا لغضب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم  – والرغبة في التسرِيَة عنه.

♦ اعتِزَال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لنسائه شهرًا تأديبٌ وطريقة  تربوية تتناسَب مع حجم الخطأ، وتقوِيَةٌ لهمَّة التحمُّل في مستقبل الأيَّام، وفيه ردٌّ على مَن زعَم أن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – تزوَّج للشهوة؛ لأن مَن يفعل ذلك إنما يكون في قمَّة قيادة الضبْط لأحوالهم وأفعالهم.

♦ بَدْءُ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بالسيِّدة عائشة دليلٌ على فضلها،  ولو بدأ بغيرها لأمكن أن يُقال بأنها قلَّدت مَن قبلها.

♦ طلب النبي منها عدم التعجُّل ومشاوَرَة أبوَيْها ترغيبًا في التريُّث عند  القرارات المصيريَّة، وإعطاء حق التفكير والمشاورة.

♦ في قولها بيانٌ لرَجاحة عقلها، وعلمها بخصوصيَّتها والأمور التي لا تُشرِك  فيها حتى أباها وأمها.

♦ في قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله لم يبعثني مُعنِّتًا)) بيانٌ  لأدبٍ من آداب النبوَّة وهو الصدق والوضوح والرِّفق بالعِباد، وعدم الاستجابة لطلب مَن يخالف ذلك.

وأخيرًا:

تعالَوْا لنأخذ لَمْحَةً يَسِيرة عن بعض المشاعر التي ظهرت في هذا الزواج الميمون من خلال الحبِّ والفخْر والغَيْرَة عند السيِّدة الفاضلة، إن الحب الجمَّ والفخر والغيرة شواهد ودلائل صدق على مثاليَّة هذا الزواج المبارَك؛  فقد ثبَتَ أن السيدة عائشة – رضي الله عنها – المبارَكة الطاهِرَة الواعِيَة العالِمَة كانت تحبُّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – حبًّا جمًّا، وتفتَخِر على نساء النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بمكانتها عنده؛ لأنه لم يتزوَّج بكرًا غيرها، وتَغار على رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – غَيْرَةً شديدة، وهذه دلائل وشواهد صدْق على مِثالِيَّة هذا الزواج؛ لأن المرأة لا تفعل ذلك مع الرجل إلا لِمَا له من قيمة ومكانة سامِيَة، ومنزلة في قومه عالِيَة، ولما فيه من أخلاق وصفات وعظمة، ويَنتَفِي مع هذا أن تكون تألَّمت في هذا الزوج لحظةً من زمن، أو شعرت فيه بأدنى ندَم وألَم، وكأنَّ الطاهِرَة تردُّ بهذا على كلِّ مستغرب أو مُعتَرِضٍ على هذا الزواج قائلة: ما لكم ورسول الله الحبيب؟! ما لكم ورسول الله صاحب الخلق العظيم؟! وما لكم لا تشعرون بفرحتي وسعادتي، وفخري وعِزِّي، وطمأنينة قلبي بزواجه مِنِّي؟! وما لكم أقحمتم أنفسكم فيما لا تفهمون، وقلتم ما لا تعرفون؟!

وممَّا ورد في غَيْرَتِها أَنَّها – رضِي الله عنها – حدثت أَنَّ رسولَ اللَّهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – خرج من عندها ليلاً، قالت: فغِرْتُ عليه – أي: فجاءتني الغَيْرَة على خروجه من عندي فاضطربت أفعالي وتغيَّرت أحوالي – فجاء فرأى ما أصنع فقال: ((ما لكِ يا عائشة؟ أغِرتِ؟))، فقلت: وما لي لا يَغار مثلي على مثلك؛ أخرجه مسلم؛ والمعنى: أي: كيف لا يَغار مَن هو على صفتي من المحبَّة ولها ضرائر على مَن هو على صفتك من النبوَّة والمنزلة من الله تعالى؟!

وإلى العلماء والعقلاء والمنصِفين أَسُوق هذه الرواية الشاهِدَة لعظمة هذا الزواج، والمُبيِّنة لبعض مَشاعِر الحبِّ الفيَّاض من السيِّدة الصدِّيقة الطاهِرة النقيَّة لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقد روى ابن عمير أنه قال: يا أُمَّه، أخبِرينا بأعجب شيءٍ رأيتِه من رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: فسكتَتْ ثم قالت: لَمَّا كان ليلة من الليالي، قال: ((يا عائشة، ذريني أتعبَّد الليلة لربي))، قلت: والله إني لَأُحِبُّ قرْبك، وأحبُّ ما سرَّك، قالت: فقام فتطهَّر، ثم قام يُصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ لحيَتَه، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلمَّا رآه يبكي، قال: يا رسول الله، لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: ((أفَلاَ أكون عبدًا شَكُورًا، لقد نزلَتْ عليَّ الليلة آيةٌ، ويل لِمَن قرأها ولم يتفكَّر فيها: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 190]))، الآية كلها؛ (“صحيح ابن حبان”).

وعند التأمُّل في هذه الرواية نرى الحب والإيثار والتقدير من الزوجة الكريمة الفاضلة، ونري المودَّة والتلطُّف واستئذان شريكة الحياة في الخلوة مع الله من النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – صاحب الخلق العظيم، ونرى الإقبال على القيام بحق الشكر لله بما لا مَثِيل له في عالم البشر.

وأقول: إن ما ذُكِر عن نموذجيَّة ومثاليَّة وبركات ومنافع هذا الزواج المبارك،  وما تَخَلَّله من مشاعر المحبَّة والمودَّة والرحمة غَيْض من فَيْض، وفي القليل ما يُغنِي عن الكثير لدى أرباب الحكم القويم والرأي الرشيد، من العلماء والعقلاء والمنصفين.

أمَّا غيرهم من المُعانِدين والحاقِدين والمُغرِضين والجاهِلين، ففي أمثالهم قال الشاعر:

قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ

وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ

فما العيب في الشمس، ولا العيب في الماء، وستَبْقَى سيرة وأخلاق وآداب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – نورًا للخلق، ما بقيت الشمس مُطِلَّة بضِيائها على الدنيا، وستبقى – بفضل الله – شريعته وتعاليمه حياةً للأرواح وحادِيَة لها إلى عالم الأفراح في جنَّة القرب والرضوان ما بقي الماءُ سِرًّا وأساسًا للحياة.

وصلّى اللهم وسلّم وبارِك على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.