قد أفلح من زكاها

www.asr-entezar.ir
www.asr-entezar.ir

الثلاثاء 2 ربيع الثاني 1437//12 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
نورا عبدالغني عيتاني
قد أفلح من زكاها
الحمد لله، وبعد:
عجيبٌ غريبٌ؛ كيف تتغير حالة الأشياء وطبيعتها في هذه الحياة الغريبة؟ والأغرب من هذا كله كيف نتغير نحن؟! إنني لَجِدُّ متعجبةٍ في هذه الأيام من الحال التي وصلنا إليها مع الأيام، ولا زلت مع هذا كله أُواسي نفسي وأُلجمها وأَقمعها؛ لئلا تيئَس وتفقد الأمل، مع استمرار تعاقُب الأيام، وتقلُّب الأفهام!

أحاول جاهدةً كل يومٍ الانسلاخَ عن معاني التصارع والتناطح والتسابق بين الناس، فأراني لا أُجيد ذلك إلا بالابتعاد عنهم، وعن هوائهم الفاسد الذي تلوَّث بالمصالح والأهواء والمظاهر والمشاعر المصطنَعة الزائفة! أتأمَّل ملابسهم، تلك كانت بالأمس، وفي الأصل وسائلُ لستر الجسد، وللتخفيف من العوامل الطبيعية القاسية من بردٍ أو حرٍّ، وقد باتت اليوم مجردَ رُقعٍ مادية تُتَّخَذ للتفاخر، ومظاهرَ وقشورٍ بالية تُلبَس للاستعراض وللتباهي بالأجمل والأغلى، فغدَت الوسيلة عندهم هي الغايةَ الكبرى، بعد أن نُحِّيت الغاية الأساسية!

ولعل التنافس عند الناس لم يعد مقتصرًا على الملابس الظاهرية فقط، بل تعدى ذلك أيضًا إلى وسائلَ صُنعت خصِّيصَى لإبعاد الضرر وتحسين الرؤية؛ كالنظارات الشمسية مثلًا، فبِتْنا نَرى نساءَ هذا الزمن، بل وحتى رجالَه، يُنافس أحدُهم الآخرَ ويباهيه بالسَّبق في ارتداء أفضل الماركات العالمية المشهورة؛ من النظارات الشمسية الساطعة، حتى ولو كانت الشمس قد غربَت! فها هي الوسيلة تتحول إلى غايةٍ كبرى، وها هي الرؤية تنعدم بدلًا من أن تنجليَ لتوضح لنا الصورة أكثر!

وقد يصل التنافس بين الناس أيضًا – وقد وصل بالفعل – إلى التباهي والتسابق في وسائل صُنعت خِصِّيصى لجعلهم يتَواصلون أكثر؛ لكي يتلاقَوا بشكلٍ أكثر فاعليةً عند الضرورة، وعند انعدام طرق اللقاء، فوصَل هذا التنافس الفجُّ وتلك المباهاة الفارغة إلى الهواتف الخليوية، التي كانت بالأمس تقتصر على كونها وسيلةً للاتصال، وباتت هواتفُ اليوم وسيلةً ليفخَر بها ويتباهى على الناس مَن يملك الأفضلَ والأثمن، أو الأكبرَ والأحدث!

تُتبعني التأملات، فأُوقفها وأَدفعها عني، وأراني أقع في مطبٍّ عميق ومنزلقٍ دقيق، وتتجاذبني الحيرة بقُطبيها المتنافرين: أأعيش بين الناس وأحتكُّ بهم وأصبر على تناقضاتهم وتغيراتهم التي تزداد يومًا بعد يومٍ ميولًا نحو الأسوأ؟ وأقصد بهذا تغيُّر طبيعة التعامل وتلوُّن الطبائع، وانعدام الحس، وتقديم المصالح الشخصية والمظاهرِ الزائفة على كل الأمور الباقية، حتى ولو كانت تلك الأمور شرائعَ دينية، أو مبادئَ أخلاقية، أو مشاعر أخوية صادقةً، ومحبَّة قديمة في الله توطَّدت جذورها منذ أمدٍ بعيد، بل وحتى قرابة وصِلة رحمٍ أحيانًا، فحلَّت المصالح الدنيوية السبَّاقة، وضغائن الكُره والأحقاد السوداوية واقتلعَتها!

أأصبر على الجفاء، وعلى مبادلة المعروف بالأذى، وأبقى معهم على تواصلٍ، مع أن التواصل معهم لم يعد يوصلني إلا إلى مزيدٍ من الإحساس بتوسُّع الفجوة والانفصال والتنافر والتهلهل في الوصال، وإلى مزيدٍ من الرغبة في الانسلاخ عنهم والابتعاد أكثر حدَّ العُزلة؟! نعم، حد العزلة، وأعني ما أقول؛ فكل ما جنَيتُه من الاقتراب من الناس كان ولا يزال يلوح لي بمزيدٍ من الصدمات والانتكاسات والتلوثات، ويَزيدني إيحاءً، بل ويؤكد لي صحِّية رغبتي، وسلامةَ ميولي وانجذابي نحو قطب الابتعاد! أأبقى إذًا قُربَهم، وأستقبلُ الأدران وأرحب بالتلوث، أم أبتعد بصمت؛ توخيًا للسلامة، وأهجرُهم ذاك الهجر الجميل؟!

اقرأ أيضا  منازل الرحمة والسكينة ..

مع هذا كله، أختار القرب أحيانًا ممن أحبهم، رغم أذاهم، وأجدد الصبر والنية، وأحاول أن أصفح وأمسح وأسامح، فتتوسَّع حيرتي، وأبقى ضائعةً بين الخيارين الجديدين المتجليَين في القرب من الناس: أأتكلم بالحقائق وأتألم، أم أصمت عنها ومنهم أتعلَّم؟ أأبقى بينهم كالفرخ العجيب، الآتي من فصيلةٍ أخرى عجيبة؛ لأنه لا يُخفي ذاته الحقيقية، بل يُبديها ويُعلنها، ويَسعى لكي تعمَّ الدنيا معاني الصدق والحقيقة، والتشبُّع بالحقائق؛ كلِّ الحقائق؟ أم أحاول التلوُّن قدر استطاعتي، كما يفعلون، والتأقلم مع المحيط الملوَّث الذي فيه يرتَعون، فأَبسِم وأنا أتجرَّع سموم النفاق، وأضحك وأنا أسمع كلمات المجاملة السَّمجة المتعارف عليها؟

ولكي أكون أكثر وضوحًا وصدقًا؛ سأحدد سبب ضياعي وحيرتي؛ فضياعي ليس وليدَ صعوبةِ الخيارين، أو تَوازي أهميتهما بالنسبة إليَّ، فالأقرب إلى قلبي كان ولا يزال وسيَبقى هو الانصياعَ للصدق وللحقيقة والحقِّ أينما كان، ومهما كانت ضريبتُه، ومُعاداةَ الكذب والأوهام والنفاق والأهواء والباطل، مهما كان منمقًا ومزخرفًا بشتى أنواع الجواهر البرَّاقة والحلي المزيفة، التي لا ولن تحلو لي!

فسبب ضياعي ليس الخيارَين السابقين في حدِّ ذاتهما، بل ما يترتب عليهما؛ فأما ما يترتب على كلامي والتألم، بسبب صد الناس واستهجانهم لصورة الحقيقة والبياض، فهو بلا شك موصلي إلى مزيدٍ من الرغبة بالانقطاع عن الناس، والهرب بالحقيقة، وبهذا أكون قد سلَّمت واستسلمت، وأسهمت بدوري في تكاثر السواد بتركه يسرح ويمرح، ويتوسع على هواه ومداه، وهذا جلُّ ما أرفضه وأخشاه وأتحاشاه! وأما ما يترتب على صمتي وانجرافي مع التيار الجارف، والتعلُّم منه، فهو بلا شك ليس موصلي فقط إلى اعتزال الناس وهجرانهم، بل وحتى إلى اعتزال نفسي وكُرهها، واحتقارها أشد الاحتقار!

ماذا إذًا؟ ماذا أختار؟ أختار القرب عن بُعد، أختار الوصل الموزون، الذي لا يتصل ولا ينفصل؟ ولا أعني بذلك الوصلَ الرماديَّ الحيادي الذي يدمج بين الحق والباطل، بين البياض والسواد؛ على العكس، بل أعني به ذلك الوصلَ المحمود، الذي لا يوصل لي شيئًا من الأدران أو التلوث، والمنافسات غير الشريفة التي تُبعدني عن الغاية الكبرى، أو احتمالية تشرُّب أيٍّ منها، ويضمن لي سلامةَ إيصال الحقيقة، مع بقاء احتمالية استمرار الألم، وضرورة تحمله بالمجاهدة والصبر على الأذية والأضرار، وهذا هو الوصل المحمود، والمخالطة الإيمانية المحبَّبة التي أوصانا بها رسولنا الكريم، حين قال عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن الذي يُخالط الناس ويَصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)).

اقرأ أيضا  القوات الإسرائيلية تقتحم قرية جنود القدس

فكيف نخالط الناس إذًا؟ ولماذا نخالطهم؟ أما كيف؟ فبالإحسان وبالحسنى وبالتي هي أحسن، وأما لماذا؟ فلننصحَهم ولنفيدَهم، ولنتلقى منهم النصحَ والفوائد المتبادلة، التي تخلو من المصالح الأنانية والأطماع السوداوية الفاسدة؛ ليُثري بعضُنا بعضًا، وينفَع بعضنا بعضًا، ولنُبعد عنهم الضرر والأذى الذي يغفلون عنه، ويُبعدوا عنا بدورهم كلَّ ما غفلنا عنه من أضرارٍ أو أذًى تخفَّى خلف المضارِّ المقنَّعة بقناع المنفعة الزائفة، فنَتآزر ونتكامل ونتعاون؛ كما أمرنا الله جل وعلا في كتابه الكريم حين قال جلَّ من قائل: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].

فإن لم نستطع أن نتعاون، وإن لم يَستطع أحدنا أن ينفع الآخر، فعلى الأقل نخالط الناس مخالطةً لا نضرهم فيها ولا يضرُّوننا، مع أن هذا في الحقيقة ليس له واسعُ المجال؛ فنحن بشر، والكمال فينا أمرٌ مُحال! مع هذا، نبقى نسعى لكي نحسِّن الصورة من الداخل والخارج، فنُنقِّي السريرة قبل الظاهر، ونحب للناس ما نحب لأنفسنا، ونتمنى لهم الأفضل والأحسن والأصلح؛ لأنهم حين يختارون الأفضل والأصلح سنكون كلُّنا في أفضل حال، وسيُصلَح حالنا.

لننزع من جذور أفكارنا فكرةَ صراع البقاء التي تشرَّبناها من تعاليم الغرب وتعريفاته الفاسدة لمصطلحات الكون وغاية الوجود.. كلا، ليس البقاء للأقوى والأسبق؛ بل للأنفع والأصلح، وإن كان لا بد للقوة والسبق من دورٍ في توطيد البقاء وضمانه، فستكون تلك القوة في الإيمان، وذاك السبق في الخيرات وفي تمنِّي الرِّفعة والنفع والنجاة والفلاح لكل إنسان، وليس المفلح الذي يدوس على إخوانه وعلى المبادئ والمصالح الأخرى لكي يصل، بل المفلح بحقٍّ هو الذي يسعى ليصل ويوصل الكلَّ معه إلى بر الأمان، وهو الذي يدل الناس على الحق والحقيقة التي استيقَن منها إذا ما رآهم لا يزالون في شكٍّ منها، أو هم عنها في عمًى وغفلة، ويستدل منهم على ما غفل عنه هو الآخر من أجزاء الحقِّ والحقيقة التي لا تتجزأ، والتي لا تقبل أي زيادةٍ أو نقصان.

لقد خُلقنا للتآلف والتعارف، لا للتقاتل والتصارع، أُمِرنا بالتعاون على البر والتقوى، لا بالتسابق والتناطح على سراب الدنيا وزينتها الزائفة الزائلة، ونُهينا عن التقاذف باللمزات وبالضربات وبالأحقاد؛ فالحقد نارٌ موقدة، تأكل من فضائل الأنفس، ولا تحرق في البداية والنهاية إلا حاملها.

ولله دَر الشاعر حين قال:
الحقد داءٌدفينٌ ليس يحملُه
إلا جهولٌ مليءُ النفس بالعِللِ
مالي وللحقد يُشقيني وأحملُه
إني إذن لغبيٌّ فاقد الحيَلِ؟
سلامةالصدر أهْنَا لي وأرحبُ لي
ومركبُ المجد أحلى لي من الزَّللِ
إن نمتُنمت قريرَ العين ناعمَها
وإن صحوتُ فوجه السعد يَبسِمُ لي
وأمتطي لمراقي المجد مركبتي
لا حقدَ يوهِن من سعيي ومن عَملي
مُبرَّأ القلب من حقدٍ يبطِّئني
أما الحَقود ففي بؤسٍ وفي خطَلِ

اقرأ أيضا  الأمين العام للأمم المتحدة أعرب عن أمله في أن "يتم وقف القتال والعمل العسكري باليمن في أقرب وقت"

قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [الأعلى: 14]؛ أي: طهَّر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وقلبَه من الأدران والأحقاد والضغائن، فعاد كما ولدَته أمه؛ مُزدانًا بالفطرة السليمة، والقلب النقيِّ الطاهر البريء، وليس مَن زكى نفسه واستكثر رزق الله على الناس، أو استصغر قيمة الآخرين واستحقاقهم للنعم التي وزعها الله بالعدل، فلم يَظلِم أحدًا؛ قال تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النجم: 32]، وقال: ﴿ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 49].

فلنكن كما أرادنا الله أن نكون؛ لكي يُزكِّيَنا الله، ولنجتمع على محبته وطاعته وعبادته، فنكون حقًّا من المفلِحين في الدنيا والآخرة.

لنُسامِحْ ونصفَح، ونتخطَّ الأحقاد والضغائن والأطماع والصغائر، ولنحلِّقْ نحو عالمٍ أوسعَ وأجمل، وأكثرَ بياضًا وطُهرًا وشفافية، عالمٍ كعالم الأطفال الأبرياء، الأنقياء الأصفياء، عالم ممتلئٍ بالمحبة الحقيقية، والأخوة الصادقة.

ولنتذكر دائمًا هذه القاعدة:
سامح واصفَحْ
صافح وامسَحْ
اغفِرْ زلَّةْ
تَغفُ وترتَحْ

سامح؛ من أجلك، من أجل أن ترتاح أنت قبل غيرِك، حتى ولو أوذيت.

انسَ الأذية وقُل: سامحت، وحين تقول: “سامحت” قُلها من قلبك، لا من شفتيك، نظِّف موضع الألم، وحاول أن تغسل مكانه بالعطف واللطف، بالإعذار وبالرَّيحان وبالياسمين، وانظر بعدها إلى روعة التآخي والتصافح، تلمَحْ بريق النقاء فيه، وتعُدْ طفلًا!

هي همسةٌ أهمسها لكَ/ لكِ؛ فلا لمزٌ ولا ضغنٌ ولا بغضاء، همسةٌ من قلبٍ يحبكَ/ يحبكِ في الله، يحبكَ/ يحبكِ بصدقٍ لا تُغشِّيه المصالح الدنيوية، ولا المظاهر الزائفة الخداعة، فما أجملَ الأطفال حين يختلفون، ثم يتلاقَون على البياض والتآلف من جديد وكأنَّ شيئًا لم يكن! فلنَعُد إخوانًا متآلفين في الله، متحابِّين فيه، ولندَعِ النِّزاع والتفرق والخلاف، ونعتصِمْ بحبل الله؛ كي نكسب رضاه، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وقال أيضًا جلَّ من قائل: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].

اللهم ألف بين قلوبنا، واجعلنا إخوانًا متحابِّين فيك، غايتُهم أنت، ومقصودهم رِضاك، بالهداية مُجتمعين، على البرِّ والتقوى متعاونين متناصِحين، دعاؤهم دومًا: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

اللهم آتِ نفوسنا تَقْواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.

والحمد لله رب العالمين.

الألوكة