قوة انجذاب الإنسان إلى الأرض (الآثار الروحية للعبادة)

السبت 6 ذو الحجة 1436//19 سبتنبر/أيلول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.

د. سمير مثنى علي الأبارة
قوة انجذاب الإنسان إلى الأرض
“الآثار الروحية للعبادة”
الإنسان جسد وروح، الجسد يشده إلى الأرض لأنه من طينها، والروح نور لطيف، وعنصر خفيف يشتاق إلى السمو والارتفاع والصفاء.

وقوة انجذاب الإنسان إلى الأرض أكبر، لأن الله الذي خلقه منها غرز فيه غرائز ودوافع حيوية لحكمة أرادها، وقدرته على الانفلات من هذه الجاذبية ضعيفة لا تكفي وحدها ليحافظ الإنسان على التوازن المطلوب، فأنزل الله إليه رسالاته، ورسم له منهجاً قويماً، ووضع له نظاماً للتربية الروحية، كل ذلك من أجل الارتقاء به إلى المستوى اللائق بإنسانيته.

إن مطالب الجسد القوية المندفعة، غالباً ما تطغى على المطالب الروحية فتحجبها وتحتل مركز الاهتمام. والتأثير السيء لهذا الطغيان المادي، وإن كان في ما يبدو غير ملحوظ، يتراكم ويؤدي إلى تدنيس النفس، وتكدير صفاء الروح، وذلك ما أشار إليه قول الله عزو وجل: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [1] أي غلب على قلوبهم وغَمَرها وأحاطت بها الذنوب فغطتها، يقال منه: رانت الخمر على عقله، فهي تَرِين عليه رَيْنا، وذلك إذا سكر، فغلبت على عقله[2].

والتوازن بين العناصـر الطينية المادية، والعناصـر الروحية في الإنسان، هو الأفق الأعلى الذي يدعى لأجل بلوغه، فليس مطلوباً منه أن يتخلى عن مطالبه الروحية ليكون حيواناً، ولا عن مطالبه الجسدية ليكون ملاكاً، فالذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية ويحرم نفسه من رغباتها، ويقتل فيها شهواتها كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية، كلاهما يخرج عن سواء فطرته، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير جزء من كيانها الأصيل.

اقرأ أيضا  من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

ومن أجل إيجاد هذا التوازن والحفاظ عليه، يحث الإسلام على مجاهدة النفس، ويدعو إلى تزكيتها، يقول الله عز وجل ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [3] وأمَّا مَنْ خاف القيام بين يدي الله للحساب، ونهى النفس عن الأهواء الفاسدة، فإن الجنة هي مسكنه[4].

ويقول تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [5] فجوهر الإنسان هو الروح، وعلى قدر ما يهتم بمطالبه الروحية ومجاهدة مطالبه الجسدية، يكون قريباً من حقيقة الإنسانية. قال الإمام الغزالي: ” فالروح حقيقة جوهرك، وغيرها غريب منك، وعارية عندك، فالواجب عليك أن تعرف هذا، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة.. فإن كنت من جوهر الملائكة، فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب” [6].

وحدة بين المادة والروح:
من المزايا الحسنة التي انفرد بها الإسلام عن المذاهب المادية، أنه يوحد في حياة الإنسان بين المادة والروح، إنه منهج حكيم ينظر إلى الحياة الإنسانية باعتبارها وحدة ملتحمة. فالإسلام لا يؤمن بالرهبانية ولا يفرض على الإنسان أن يتجنب الحاجات المادية الضرورية في حياته، بل يرشده إلى أن السمو الروحي المطلوب ينبغي أن يتم عن طريق ممارسة حياته العادية باستقامة وطهارة، في معترك الحياة، وليس عن طريق التخلي عن مطالبه المادية والانعزال عن العالم.

اقرأ أيضا  القرة داغي يحذر ترامب من تداعيات تصريحاته العنصرية

إن الإسلام يحث الإنسان على أن يسخر كل طاقاته لبناء الحياة وتنميتها على أسس سليمة، ويعلمه أن الطاقتين المادية والروحية ينبغي أن تلتحما معاً في سلوكه اليومي، وأن السلامة الروحية المنشودة يمكن أن تتحقق عن طريق ممارسة الطاقة المادية لصالح الإنسان.

وقد شقي الإنسان على يد الديانات والمذاهب الإيديولوجية ذات النظرة الأحادية، فقد ذهب بعضها إلى الغلو في الرفع من قيمة الجانب الروحي لحياة الإنسان، وتجاهل الجانب المادي منها، وذهب بعضها إلى الاهتمام بالجانب المادي وتجاهل الجانب الروحي تماماً، واعتبره شيئاً مختلقاً أو متخيلاً، وهذان الموقفان جلبا الشقاء والاضطراب للإنسان، وحرماه من الراحة والطمأنينة، حتى صار فقدان التوازن واضحاً في حياته.

________________________________________
[1] سورة المطففين:14.
[2] جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (ج 24 – ص 286).
[3] سورة النازعات:40-41.
[4] التفسير الميسر ( ج1 – ص584).
[5] سورة الأعلى:14.
[6] كتاب المنقذ من الضلال، ص 75.
للإمام الغزاليوهو محمد بن محمد بن أحمد الملقب (بأبي حامد، والمعروف لعلو مكانته (بحجة الإسلام). وقد ولد بطوس من أعمال خراسان عام 450هـ (وقيل451هـ). ويذكر السبكي أنه تربى تربية صوفية، وقد تتلمذ الغزالي في صباه وجدّ واجتهد حتى برع المذهب، والخلاف، والجدل، والأصلين – علم الكلام وأصول الفقه -، والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وأحكم كل ذلك، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدى للرد عليهم وإبطال دعاويهم، وصنف في كل فن من هذه العلوم كتبًا أحسن تأليفها »، وصار من الأعيان المشار إليهم في أقبل الغزالي بعد ذلك على حياة من نوع جديد، وهي حياة الزهد والعبادة، والتكمل الروحي والأخلاقي، والتقرب إلى الله. إلى أن انتقل إلى ربه، وكان ذلك في يوم الاثنين رابع عشـر من جمادى الآخرة سنة 505هـ ». (البداية والنهاية (12/ 185 – 186).
الألوكة

اقرأ أيضا  منظمتان أمميتان تدعوان إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات لدعم وحماية النازحات السوريات
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.