ماذا جنى الفكر القومي العربي على الأمة خلال قرن؟
غازي التوبة
أكاديمي وكاتب فلسطيني
دعا ساطع الحصري -وهو رائد القومية العربية- إلى أن يكون القرن العشرين قرن القوميات في آسيا وأفريقيا، من أجل أن تقوم نهضة وأن تنعم الشعوب العربية بحياة عزيزة كريمة، كما كان القرن التاسع عشر قرن القوميات في أوروبا، فقد تبلورت في هذه القرن القوميات الألمانية والفرنسية والإيطالية… إلخ.
وبالفعل كان القرن العشرين قرن القوميات في العالمين العربي والإسلامي، فقد وقعت الثورة العربية الكبرى في يونيو/حزيران عام 1916، ثم أقام الملك فيصل الأول دولة العراق القومية عام 1920، وكان ساطع الحصري مستشاره لكل الشؤون السياسية والتربوية والثقافية… إلخ.
كما أقام سعد زغلول عام 1919 دولة مصر القومية ذات التوجه الفرعوني، ثم جاء جمال عبد الناصر عام 1952 فحوّل مصر إلى دولة ذات توجّه قومي عربي، وانتصرت الثورة الجزائرية عام 1962 فأقام هواري بومدين دولة ذات توجه قومي عربي في الجزائر عام 1965، ثم قام معمر القذافي بانقلاب عام 1969 في ليبيا وأقام دولة ذات توجه قومي عربي.
ثم قام جعفر النميري بانقلاب عام 1969 في السودان فأقام دولة ذات توجه قومي عربي، وقبل ذلك أقام البعث في العراق وسوريا عام 1963 دولتين ذواتيْ توجه قومي عربي، وقام عبد الله السلال بانقلاب في اليمن عام 1962 وأقام دولة في اليمن ذات توجه قومي عربي. ولكن ماذا كانت النتيجة؟
لقد كان القرن العشرين بالفعل قرن القومية العربية، فقد حكمت أيديولوجيا القومية العربية معظم دول العالم العربي لكن لم تقم نهضة، بل قامت -على العكس من ذلك- نظم استبدادية روّعت الشعوب بأجهزتها الاستخباراتية.
واستأثرت هذه الأنظمة بالسلطة، وقمعت حرية الرأي، ومنعت الشعب من المشاركة في القرار السياسي، كما حصل في مصر وسوريا والعراق وتونس والجزائر والسودان واليمن وليبيا، فجاءت ثورات الربيع العربي عام 2011 رداً على هذا الاستبداد. ولم تقم نهضة اقتصادية أو صناعية في أية دولة عربية بل عمّ الفقر، وبلغت الأمية نسبة كبيرة في العالم العربي.
ولم تقم نهضة علمية في العالم العربي، بل أصبحت الدول العربية في آخر الركب بالنسبة للعلم، وعند المقارنة بين كوريا الجنوبية والعالم العربي -للبرهنة على هذه الحقيقة- نجد أن براءات الاختراع في كوريا الجنوبية بلغ عددها (20201) عام 2015، مقارنة بثلاثين براءة اختراع فقط في مصر التي يقترب عدد سكانها من ضعف عدد سكان كوريا الجنوبية.
وحصلت الهزيمة العربية العسكرية أمام الصهيونية مرتين:
– الأولى عام 1948: حين قامت إسرائيل، وكان القتال قد بدأ بين أهل فلسطين واليهود في فلسطين منذ أن صدر قرار التقسيم في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، ثم دخلت الجيوش العربية غداة انسحاب الإنجليز من فلسطين في 15 مايو/أيار 1948، وكانت القيادة للجنرال غلوب قائد الجيش الأردني، لكن النتيجة كانت انهزام سبعة جيوش عربية أمام العصابات الصهيونية.
لقد كان قيام إسرائيل عام 1948 زلزالاً هزّ المنطقة، وأشعر الأمة بأن وجودها مهدد من عدوّ خارجي، وأن كل الخطوات السابقة من سقوط الخلافة، وقيام الانتداب البريطاني والفرنسي، وتقسيم البلاد، كان من أجل جعل اليهود يحتلون فلسطين ويقيمون دولتهم فيها.
وكان المفروض أن يكون الفكر القومي العربي محل إدانة ومراجعة من قبل القيادات الفكرية والسياسية، لأنه الفكر الذي قاد المرحلة السابقة منذ سقوط الخلافة إلى قيام إسرائيل، لكن ذلك لم يحدث، وهذا جانب من جوانب الخطأ والقصور في مسيرة الأمة.
– الثانية عام 1967: أرادت إسرائيل أن تحوّل نبع الدان -وهو النبع الأساسي الذي يغذّي نهر الأردن- في بداية ستينيات القرن العشرين، لكي تستفيد من مياهه في سقاية أرض النقب الصحراوية وتحرم منه الأردن وسوريا، فدعا عبد الناصر إلى عقد مؤتمر قمة عربية عام 1964 لمواجهة هذه الخطوة.
وانعقد المؤتمر الأول بالفعل في يناير/كانون الثاني 1964، وكانت الأيديولوجيا القومية العربية قد سادت معظم الدول العربية بعد انقلاب عبد الناصر عام 1952، فأصبحت كل من الجزائر وسوريا والعراق والأردن واليمن ذات توجه قومي عربي أيديولوجي مشابه لتوجه عبد الناصر.
وكانت الدول العربية الأخرى -التي حضرت المؤتمر- ذات توجه عربي غير معادٍ للتوجه الأيديولوجي القومي العربي مثل: السعودية، المغرب ،تونس، ليبيا… إلخ. وقد أسس مؤتمر القمة العربي الأول منظمة التحرير الفلسطينية التي أخذت على عاتقها عبء تنظيم الفلسطينيين ليكونوا رأس الحربة في مواجهة العدو الصهيوني.
واستمرت لقاءات القمة بعد ذلك، واستمرت الترتيبات العسكرية والسياسية والتنظيمية لمواجهة العدو الإسرائيلي، ثم وقعت الحرب عام 1967 فكانت الفاجعة بانهزام الجيوش العربية وخسارتها أمام إسرائيل، واحتلال الأخيرة لكل من سيناء في مصر، والضفة الغربية بالأردن،والجولان في سوريا.
لقد كانت حرب 1967 نكسة كبرى في تاريخ المنطقة ومحطة أخرى في تدمير الأمة، فما هو السبب الرئيسي؟
أعتقد أن السبب الرئيسي في وقوع هذه النكسة عام 1967 -وقبلها النكبة عام 1948- وعدم تحقيق النهضة هو أيديولوجية الفكر القومي العربي التي تبنّتها أغلبية الدول العربية، وقام عليها المجتمع والدولة والفرد والسياسة والإعلام والاقتصاد… إلخ. فكيف كان ذلك؟ وكيف حصل الدمار؟
لقد جاء الدمار من أنّ أيديولوجيا القومية العربية قامت بخطوتين كانت نتائجهما سلبية على مستوى الأمة والفرد، وهما:
– الأولى: تنكّر الفكر القومي العربي للروابط الجماعية السابقة على مجيئه في العهد العثماني، والتي كانت قائمة بين العرب والأتراك والأكراد والشركس وغيرهم، والتي كانت الأخوة الإيمانية لحمتها وأساسها، ولم يستطع تقديم بديل لتلك الرابطة.
ولذلك تفكك المجتمع ولم تقم رابطة وطنية قومية جامعة، وعندما سقطت الدولة في بعض الأماكن -كالعراق عام 2003 بعد احتلال أميركا له- عاد الأفراد إلى روابط ما قبل الوطنية: كالعشيرة والقبيلة والعائلة والمذهب… إلخ.
– الثانية: تنكّر الفكر القومي العربي لدور الدين في بناء الفرد، لأنه اعتبر أن الأمة تقوم على عامليْ اللغة والتاريخ، ورأى أن دور الدين سلبي في حياة الفرد ويجب اقتلاعه من قلبه وعقله حتى يبعد الفرد عن الخرافة والأوهام. ولذلك اقتلع ما هو قائم بناءً على قياس خاطئ، حيث قاس الدين الإسلامي على كنائس العصور الوسطى، ولم يستطع أن يملأ العقول والقلوب ببديل سليم.
لقد تركت محاولة انتزاع الدين من عقل الفرد العربي آثاراً سلبية على وجوده وكيانه، فتركته يعيش في صراع أثّر على توازنه من جهة، ثم عاش غربة وجودية دون أن يستطيع الفكر القومي العربي سد تلك الغربة بمفاهيم اللغة والتاريخ وغيرها.
إن هذا الاختلال في حياة الفرد جعله سلبياً وغير قادر على مواصلة البناء الحضاري، كما جعل الأمة متفككة، فعادت في روابطها إلى روابط جزئية كالعشيرة والقبيلة والمذهب… إلخ. وهذا ما يفسّر عدم قيام النهضة لأن النهضة تحتاج إلى جماعة مترابطة، وإلى فرد يمتلك حيوية كبيرة، وهو ما افتقدته الأمة. فقد خرّبت الأيديولوجيا العقل والروابط الموجودة، وأفقدت الفرد توازنه، وجعلته يعيش أزمة وجودية.
الخلاصة: كان القرن العشرين قرن القومية العربية، فقد عمّت الأيديولوجيا القومية كافة أرجاء العالم العربي بعد مجيء جمال عبد الناصر إلى حكم مصر عام 1952.
لم تقم النهضة التي تطلّع إليها العرب في مطلع القرن العشرين، ولم تتحقق وحدة العرب، ولم يصبحوا أمة مستقلة ذات اقتصاد زاهر ومستقل، تساهم مساهمة فعالة في مسيرة البناء الحضاري للبشرية. لم يحدث هذا فحسب؛ بل حدث عكسه، وهو وقوع الهزائم العسكرية أمام المحتلين وأبرزهم: إسرائيل وأميركا.
وقد حللنا ذلك الوضع فوجدنا أن السبب في ذلك هو أيديولوجيا القومية العربية التي فككت الروابط السابقة التي كانت قائمة على مستوى الأمة، ولم تستطع أن تقيم رابطة بديلة مكانها، وأفرغت الفرد العربي من الدين فجعلته يفقد توازنه، ويخسر حيويته وفاعليته.
المصدر : الجزيرة.نت