صورة قطر التي بالحصار زادت تألقا !
محمد الجوادي
كاتب ومؤرخ وأستاذ طب مصري
صورة قطر التي بالحصار زادت تألقاً! كان أحد خبراء السياحة في عاصمة أوروبية كبيرة مغرما -في الأعوام الأخيرة- بمتابعة وتأمل التنافس المبهج بين شركات الطيران الخليجية الكبرى، التي سجلت لنفسها مكانة مرموقة في سوق الطيران العالمي وحركته.
وكان هذا الخبير يرمق النجاحات التي حققتها الشركات القطرية والإماراتية بإعجاب مشوب بالشفقة على هذه الشركات مما هو متوقع، من قبيل الضربات الأميركية الموجعة التي تعاني منها كل شركة غير أميركية إذا ما تفوقت على نظيراتها الأميركيات، مستحضرا ما يشاهده من الحرب الأميركية على شركات السيارات اليابانية والألمانية وعلى البنك الألماني.. إلخ.
ومع أن المناوشات القانونية والمعنوية للحرب الأميركية المراوغة على شركات الطيران الخليجية كانت قد بدأت بالفعل، فإنها لم تصل بعدُ إلى درجة النزال الذي يعبّر عن مواجهة ممتدة تكتنف الفعل ورد الفعل. وعلى حين فجأة من صاحبنا هذا ومن المراقبين لحركة التاريخ وبدون مقدمات؛ استيقظت الدنيا ذات صباح على وقائع الحصار المفاجئ -وربما المرتجل- لقطر.
وتوقع الخبير السياحي أن تكون أولى نتائج الحصار أن تتراجع حصة شركة الطيران القطرية (لمصلحة الشركتين الإماراتيتين) في سوق العاصمة الأوروبية التي يمارس فيها نشاطه، لكنه من خلال المتابعة اليومية الدؤوبة اكتشف أن هذا لم يحدث وإنما حدث ما هو أقرب إلى العكس، إذ زادت مؤشرات الثقة والإقبال على التعاون مع الشركة القطرية رغم ما توحي به إجراءات الحصار في العادة من دعوة صريحة إلى تقليل الثقة!!
تساءل الخبير السياحي -في جلسة جمعته ببعض الصحفيين والسياسيين- عما إن كانوا سيصدقونه فيما سيقوله أم إنهم سيميلون إلى ما يوحي به المنطق من أن الشركتين الإماراتيتين قد انتعشتا على حساب الشركة القطرية.
ودارت مناقشات مطولة ظلت تستدعي من تاريخ وآليات السوق أنماط ردود الفعل في الحالات المماثلة في قطاعات مختلفة وظروف متباينة، وتؤكد حقيقة أن ما حدث من انتعاش للقطرية كان طبيعيا وإن لم يكن متوقعا، وظهر بوضوح أن أبرز ملمحين مهمين في هذه المناقشات والتفسيرات كانا على النحو التالي:
– الأول: أن شركات السياحة في أوروبا والشرق الأقصى هي صاحبة القرار في مثل هذا الوضع، وليست القوى الاقتصادية الإقليمية في الخليج ولا الأفراد/السياح، نظرا لأن هؤلاء السياح يقومون بمثل هذه الرحلة مرة أو اثنتين في حياتهم، بينما تتصل عملية اختيار الناقل الجوي بشركات السياحة.
ومن الواضح أن التجربة الحديثة -في السنوات الخمس الماضية- قد ولّدت عند المتعاملين (من شركات وأفراد عابرين) مجموعة خبرات متكررة، راكمت انطباعات حاكمة أصبحت تؤكد أن التعامل مع الخطوط القطرية أكثر براغماتية، وأن المرور الترانزيتي عبر مطار الدوحة الجديد أصبح أكثر راحة، وأن ذكريات الجو وما قبل الصعود إليه مع القطرية أكثر أمانا وضمانا، من دون عصبية أو تعنت مع الركاب.
– الثاني: أن حاسة السوق التجارية قد رسّخت في نفسية رجال الأعمال اعتقادا مؤكدا، هو في الغالب صحيح بنسبة تكاد تقترب من مائة في المائة؛ بأن بإمكان طالب الخدمة (العميل/الزبون) أن يحصل أوتوماتيكياً على أسعار أقل وجودة أفضل وعناية أكثر من الشركات المتنافسة -التي تتعرض لقسوة السياسة- من تلك التي سيحصل عليها من الشركات التي تبدو أو تعتقد أنها قد أمّنت نفسها!! وبعبارة أخرى؛ فإنه سيفتقد “مثل هذه الميزات” عند الطرف المنتمي لدولة متغطرسة!!
في عموميات السياسة؛ فإن رؤية الشعوب في جميع أنحاء العالم لم تكن بعيدة عن مثل هذه الأفكار، التي دارت بين من كانوا يحللون ظاهرة محددة هي اتجاهات سوق النقل الجوي في منطقة الحصار.
لكن الآراء الشعبية والمجتمعية كانت تستدعي -من الذاكرة الحديثة والمعاصرة- بعض انطباعاتها عن الفروق الجوهرية بين الطرفين: قطر من ناحية والدولتين القائدتين لمحور الحصار من ناحية أخرى. ومن حسن حظ قطر أنها كسبت النقاط العشر في كل مرحلة من مراحل المقارنة السريعة للجماهير:
1- من قطر تبث قناة الجزيرة بكل ما تمثله من إبهار عقلي وعلمي ومعلوماتي وفكري واستقصائي وتوثيقي، فضلا عن تجلياتها الرياضية والسياسية الحية، وفضلا عن دورها الطليعي والجوهري في ثورات الربيع العربي.
2- من قطر -قبل غيرها- انطلقت حملات الإغاثة والتضامن في كل أزمة إنسانية أو طبيعية صادفها العالم كله في العقدين الأخيرين، وقد امتد هذا التضامن القطري الصادق إلى مناطق لم تصل إليها مساعدات وكالات الأمم المتحدة المتخصصة في الإغاثة نفسها.
وبالإضافة إلى هذا؛ حققت قطر نقلات واسعة في مبادرات رائعة كالحق في التعليم، وأنشطة خيرية شبيهة ودائبة نجحت خلال الأزماتفي أن توفر الأمان والطعام بصورة لائقة وشبه فورية، عبر شبكات رائدة للعمل الخيري المدعوم بأفضل لوجستيات متاحة في العالم كله.
3- فيما يتعلق بقضية العرب والمسلمين الأولى الفارضة لنفسها بحق وأحقية على جدول الأحداث -منذ سبعين عاما- ألا وهي قضية فلسطين؛ فإن قطر الآن -ورغم كل شيء- أصبحت هي دولة المواجهة الحقيقية الأولى، حتى إن الحصار نفسه قد أطّر لها الشهادة الكبرى بزعامة الحق والدفاع عنه؛ وإن كان الحصار قد استهدف بهذا التأطير تأليب أصحاب النفوذ الخفي في العالم ضد قطر.
4- منذ اتفاق الدوحة الشهير وحتى اتفاقات دارفور؛ فإن قطر وظفت بصدق وأمانة كل مواردها من أجل الإنسانية والوفاق والحق، وتسوية النزاعات الإقليمية من دون أية شبهة لاستغلال الصراعات لأية مصلحة قصيرة النظر.
5- فيما يتعلق بالتحالفات الدولية النازعة إلى مواجهة الإرهاب وتلك النازعة إلى مواجهة العدوان في العقود الثلاثة الأخيرة؛ فإن قطر لم تتغيب أبدا، بل إنها لم تتأخر إطلاقا، بل بدت على الدوام وكأنها الحصان الرابح في بناء التحالفات الفاعلة والمواجهات الحاسمة.
6- فيما يخص الصورة العفوية التاركة للأثر البعيد عن البشر في سلوكياتهم وعن الحكومات في رعايتها لمواطنيها؛ فإن حجاج بيت الله الحرام والمعتمرين يحتفظون بأبهى صورة للبعثة القطرية والرحلات القطرية.
وهي بالفعل صورة بهية بل شديدة البهاء، وتتوازى مع الصورة التركية وتتفوق على الصورة الماليزية التي ضربت المثل الأعلى طيلة عقدين. ويتصل بهذه الصورة ما تختزنه الجماهير المسلمة عن السلوكيات القطرية المحافظة والملتزمة، في مقابلة تلقائية الاستدعاء السريع لما عُرف عن الآخرين، وما شهروا به -ظلما أو حقا- على مدى سنوات طويلة قاربت الخمسين في بعض الحالات.
7- رغم أن مدنا عربية محيطة بقطر قد بنت لنفسها أمجادا حقيقية في فعاليات السياحة المرتبطة بالفن والإعلام والثقافة وفنون الاتصال والمعارض؛ فإن قطر قدمت نفسها بخطوات واثقة لم تستهدف الإبهار وإن لم تخلُ منه، لكنها بنت لها صورة مفعمة بالجدية واحترام القيمة والحرص على التجويد والتجديد معا.
وهو ما تجلى في قضايا الإبداع في التعليم والصحة، ومنتديات الدوحة، والجزيرة، وبروكيجنز، والأمم المتحدة، وحوار الحضارات، وحقوق الإنسان، والرقابة المالية والحكومية، والحوكمة.. إلخ، مع الانتظام الشديد في كل هذه المنتديات وانفتاحها غير المحدود.
8- في مجال لغة عالمية محببة للجميع كالرياضة فإن قطر أثبتت نجاحات مشرفة ومشرقة في كل دورة رياضية، كُلّفت بتنظيمها أو سعت هي نفسها باعتزاز إلى نيل مفخرة تنظيمها.
وقد تعددت وتوالت هذه الدورات، وكان من أبرزها الدورة الآسيوية المبهرة، والتي كانت إرهاصا بنجاح قطر في الحصول على شرف استضافة كأس العالم لكرة القدم ٢٠٢٢، وقد واكبت هذا نهضةٌ رياضية قطرية رفيعة المستوى ومتعددة الانتصارات.
9- حين يستنطق الباحثون والصحفيون والإعلاميون تقارير التنمية البشرية ليقيموا تجربة قطر الاقتصادية والاجتماعية؛ فإنهم يذهلون من تكرار وتعدد تقدم ترتيبها في معايير التنمية البشرية، وهو تقدم معقّد يعرف الخبراء أنه لا يتحقق بالمال وحده.
كما أنه لا يتحقق عبر استقدام (أو توظيف) كفاءات وخبرات أجنبية فحسب، بل يستدعي ويتطلب فعالية قصوى لتأسيس وتجديد وتوطيد بنية معرفية ذكية، لا بد من أن تباشرها الأسرة الحاكمة بنفسها في كثير من جزئياتها.
10- حين يستقصي الباحثون والمحققون والأكاديميون حقائق اللغط المعتاد الذي تبثه الجهات المعادية لقطر؛ فإنهم يندهشون من تمتع الأداء القطري في تعامله مع المخالفين والمختلفين بآصرة وثيقة المنبع بنسيج أخلاقي وقيمي رفيع، يرتبط بالإسلام بأقوى الوشائج المعبرة عن الإسلام دينا وحضارة وثقافة.
المصدر : الجزيرة.نت