معالم للمسلم في أوقات الفتن

الأربعاء،9ربيع الأول1436الموافق31ديسمبر/كانون الأول2014وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب – حفظه الله – خطبة الجمعة بعنوان: “معالم للمسلم في أوقات الفتن” ، والتي تحدَّث فيها عن الفتن وما ينبغي على المسلم من اجتنابها ، وبيّن بالأدلة من الكتاب والسنة عِظَم شأن الفتن وخطورة الوقوع فيها ، وإنه عند التباس الأمور يجب على المسلم اللجوء للكتاب والسنة وأهل العلم والخبرة.

الخطبـــــــــــــــــــــــــــــــــة الـــــــأولــــــــــــــــــــــــــــى

الحمد لله ، وله بعد الحمد التحايا الزاكيات ، وهو المُستعان فمن غيرُه يُرتجَى عند الكروب ودهْم المُلِمَّات ، وعليه التُّكلان فحسبُنا الله وهو حسبُ الكائنات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه ، وعلى آله وذرِّيَّته أكرم ذُرِّيَّة ، وعلى صحابتِه ذوي النفوس الوضِيَّة ، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى ، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) ﴾ .
من اتَّقى الله وقاه ، وكفاه وأسعدَه وآواه.

وَتَقْوَى اللهِ خَيرُ الزَّادِ ذُخرًا
وَعِنْدَ اللهِ لِلأتقَى مَزِيدٌ

عباد الله:
روى عبد الرحمن بن عبد ربِّ الكعبة قال: دخلتُ المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالسٌ في ظلِّ الكعبة والناسُ مُجتمعون عليه. فأتيتُهم فجلستُ إليه فقال: كُنَّا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفَر ، فنزَلْنا منزلاً ، فمنا من يُصلِح خِباءَه ، ومنا من ينتضِل ، ومنا من هو في جشَره؛ إذ نادى مُنادِي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: الصلاة جامعة.
فاجتمعنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ..وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ، فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ ، وَقَالَ : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي ، فَقُلْتُ لَهُ : هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا ، وَاللَّهُ يَقُولُ : يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا سورة النساء آية 29 ، قَالَ : فَسَكَتَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ”؛ رواه مسلم.

أيها المؤمنون:
حين يثُورُ نقعُ غُبار الفتن ، وتدلهمُّ ظُلُماتُ المِحَن ، وتمُرُّ الأمةُ في بعض فتراتِها بما يضِلُّ فيه كثيرٌ من الناس ويزِلُّ ، والفتنةُ تُقبِلُ عمياءُ مُظلِمة ، يشتبِهُ فيها الحقُّ على كثيرٍ من الخلق ، فهناك لا بُدَّ للمسلم من معالِمَ يسترشِدُ بها ، ومناراتٍ يستدلُّ بها ، ونجومٍ تهدِيه السبيل.
ذلك أن أعزَّ ما على المؤمن سلامةُ دينِه ، قال – صلى الله عليه وسلم -: “يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ” ؛رواه البخاري.
والفِرارُ من الفتن يكونُ باللُّجوء إلى الله تعالى ، كما قال – سبحانه -: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ (50) ﴾ وهو – سبحانه – القائل: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (36) ﴾ .
قال ابن القيم – رحمه الله -: “الكفايةُ على قدر العبودية ، فكلما ازدادت طاعتُك لله ازدادَت كفايةُ الله لك”.
ومن هنا وجَّه النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى العبادة وقت الفتن ، فقال: “العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ”؛ رواه مسلم.
فهنيئًا لمؤمنٍ يركَنُ إلى الصلاة والعبادة بينما الناسُ يتهارَجون ، ويُهرَعون إلى تلقُّف الأخبار وتتبُّع الشائِعات. هنيئًا لمن يطمئنُّ بالله حين تقلقُ النفوسُ وتضطربُ القلوبُ.
استيقظَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ليلةً فزِعًا يقول: “سُبْحَانَ اللَّهِ ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْفِتَنِ ، وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ ، أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “؛ رواه البخاري.
ففي الحديث دليلٌ على أن قيام الليل من أعظم ما يُعينُ على النجاة من الفتن.
وقبل آيات الابتلاء قال الله – عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) ﴾ .
العبادةُ ذاتُ أسرار ، ومن أسرارها: أنها زادُ الطريق ، ومدَدُ الروح ، ونورُ القلب ، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا حزَبَه أمرٌ فزِعَ إلى الصلاة.
وحثَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – على الطاعات؛ لتكون حِرزًا من الفتن قبل وقوعها ، ونجاةً منها حين تقع ، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا” ؛ رواه مسلم.
ومن كان له زادٌ من تقوى وعملٍ صالحٍ كان حريًّا بالنجاة ، وسُنَّةُ الله ألا يُخيِّبَ عبدًا أقبلَ إليه.
وكان يُقال: ادفعوا الفتنَ بالتقوى. ومِصداقُ ذلك: قول الله – عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا (29) ﴾ .
أيها المسلمون:
ومن اللُّجوء إلى الله: دعاؤُه والتضرُّع إليه ، قال – سبحانه -: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) ﴾ وقال – سبحانه -: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا (43) ﴾ .
ومن الدعاء: التعوُّذ من الفتن ، كما في حديث زيد بن ثابت – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ “؛ رواه مسلم.
عباد الله:
ومن المعالِم التي يهتدِي بها المُسلم ويركَنُ إليها: الأخذُ بالمُحكَمات وسُنن الله الثابتات ، ومنها: التثبُّت وحُرمةُ الدماء ، ولُزومُ الكتاب والسنة ، والنظرُ في العواقب والمآلات ، ومعرفة المصالح والمفاسد ومراتبها على ضوء الشرع لا على الأهواء والمصالح الدنيوية ، قال الله – عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾ .
ومنه يُعلَم أن الحق هو ما وافقَ أمرَ الله وأمرَ رسوله ، وأن الفتنة بخلافِهما.
يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ . قَالُوا : فَكَيْفَ نَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الأَوَّلِ”؛ أخرجه الطبراني.
وفي حديث العِرباض بن سارية – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ “؛ حديثٌ صحيحٌ ، أخرجه أصحاب السنن.
إن الله يأمرُ بالصلاح ، وينهَى عن الفساد ، والرأيُ يُصيبُ تارةً ويُخطِئُ تارةً.
ومن المُحكَمات: حُرمةُ الدماء ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ ” ؛رواه البخاري.

اقرأ أيضا  رمضان والطاعات (خطبة)

عباد الله:
وفي زمن الفتن تتكاثرَ على المسلم الأخبارُ والشائعات ، ويختلطُ الصدقُ بالكذب ، خاصَّةً مع قوة تأثير وسائل الإعلام من القنوات والمطبوعات ، والمواقع والشبكات ، وسهولة التواصُل وسُرعة نقل الخبر ، وانتشار الكذب ، وجُرأة الناس عليه بلا حياءٍ ولا ورع.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ “؛ رواه مسلم.
قال عمر – رضي الله عنه -: “إياكم والفتن؛ فإن وقعَ اللسان فيها مثلُ وقع السيف”. ورُوي مرفوعًا بلفظ: «تكونُ فتنةٌ وقعُ اللسان فيها أشدُّ من السيف»؛ أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
إن المنهجَ الحقَّ هو التثبُّت والتأنِّي ، والرفقُ والحِلم عند الفتن وتغيُّر الأحوال ، ومُشاورة أهل العلم والعقل والتجربة ، وعدمُ الانفراد بالرأي ، والمُعافَى من كُفِي.
فلا يلزمُ أن يكون لك رأيٌ في كل نازلة ، أو قولٌ في كل واقِعة ، قال الله – عز وجل -: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83) ﴾ .
كما يجبُ التزامُ العدل والإنصاف ، قال الله – عز وجل -: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا (152) ﴾ وقال – سبحانه -: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (8) ﴾ .
وعلى النقيضِ ترى في زمن الفتن من لا يتورَّعُ في الولوغ في أعراض المؤمنين ، وسَنِّ لسانه وقلَمه للنَّيل من الصالحين ، والتلبيس على عامَّة المُسلمين ، وقَلب الحقائق ، والتأليب بما يُوقِع الفتنةَ والفُرقة ، وأعظمُها الفتنةُ في الدين ، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) ﴾ .
فليحذَر المسلمُ أن يكون ممن ذمَّهم الله بقوله: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(23) ﴾ أو قوله: ﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) ﴾ .
وعند خفاء الأمور والتِباسها فعلى المؤمن أن يجتنِبَ ما اشتبَهَ عليه ، أما إذا استبانَت له وجَبَ عليه أن يكون مع الحق؛ بل يجبُ بذلُ الجُهد في معرفة الحق واستِبانة الصواب ، فلا يجوزُ خُذلانُ المظلوم صاحب الحقِّ المبغِيِّ عليه بدعوَى اتِّقاء الفتن ، قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) ﴾ .
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة ، أقولُ قولي هذا ، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

اقرأ أيضا  خطبة المسجد النبوي : نعمة الصلاة وأثرها على العبد المسلم

الخطبــــــــــــــــــــــة الثانيــــــــــــــــــــــــــــــــة

الحمد لله وليِّ المؤمنين ، ولا عُدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
ففي خِضَمِّ الخلافات السياسية الدائرَة في بلاد المسلمين ، وفي ضَباب شبكات التواصُل الاجتماعيِّ التي لا يُعرف من يكتبُ فيها لا مقصوده ولا حقيقتُه قد يغيبُ سُلطانُ العدل ، وينجرِفُ الناسُ إلى التهارُج بلا ضابطٍ من شرعٍ أو قِيَم ، فلا بُدَّ من التثبُّت ، لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) ﴾ .
وقد حذَّر النبي – صلى الله عليه وسلم – من التعرُّض للفتن ، فقال: «ستكونُ فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم ، والقائمُ خيرٌ من الماشِي ، والماشي فيها خيرٌ من الساعِي ، من تشرَّف لها تستشرِفه ، فمن وجدَ ملجأً أو معاذًا فليعُذ به»؛ رواه البخاري ومسلم.
قال بعضُ السلف: “إذا وقعت الفتنُ عُرِج بالعقول ونُكِّسَت القلوب”.
والفتنةُ إذا أقبلَت اشتبَهَت ، وإذا أدبَرَت تبيَّنَت.
قال ابن تيمية – رحمه الله -: “إذا وقعت الفتنةُ عجزَ العقلاءُ فيها عن دفع السُّفهاء ، ولم يسلَم من التلوُّث بها إلا من عصمَه الله”.

أيها المسلمون:
والصبرُ عُدَّةٌ للمؤمن من الفتن ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ وَزَادَنِي غَيْرُهُ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ : أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ” ؛ أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وعن أبي الشَّعثاء قال: خرجنا مع أبي مسعود الأنصاري – رضي الله عنه – فقلنا له: اعهَد إلينا. فقال: “عليكم بتقوى الله ، ولُزوم جماعة محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الله تعالى لن يجمعَ جماعةَ مُحمدٍ على ضلالة ، وإن دينَ الله واحد ، وإياكم والتلوُّن في دين الله ، وعليكم بتقوى الله ، واصبِروا حتى يستريحَ برٌّ ويُستراحَ من فاجِرٍ”؛ أخرجه الحاكم في “مستدركه” ، وقال: “هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم”.

اقرأ أيضا  الصحابة والقرآن

عباد الله:
قد بقِيَ في الدنيا بلاءٌ وفتنةٌ ، فأعِدُّوا للبلاء صبرًا ، وإن الصبرَ لا يعنِي الرِّضا بالنقص والاستسلام للضَّياع ، وإنما يعنِي الصبرَ على التمسُّك بالدين ، وعلى فعل ما يُوجِبُه الشرعُ ، فهذا هو المحمود.
وإن من المعالِم المهمَّة في هذا الزمن: التفاؤُل والأملُ وعدمُ اليأس ، والإيمانُ بأن العاقبةَ للمتقين ، ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (216) ﴾ واستحضارُ حكمة الله ورحمته في سُنَّة الابتلاء.
لا بُدَّ من أحداثٍ لها لهيبٌ تسُوقُ المؤمنين إلى دينِهم بقدر ما ابتعَدوا ، وسياطُ مقادير تُلجِئُهم لخالقهم بقدر ما غفَلوا ، وفجائعُ دهرٍ تُنادِيهم أن هلُمُّوا لما عزَّ به سلَفُكم ، واستقوَى به أوائِلُكم ، وإن بعد العُسر يُسرًا.
وبشائرُ النصر في الأُفق تلُوح ، وأسبابُ التمكين تغدُو وتروح ، والأملُ في الله عظيم لا يحُدُّه شيءٌ.
ثم إنه يجدرُ التنبيهُ على أن أحاديث الفتن والملاحِم تُورَدُ للاعتبار والتحذير ، كأحاديث الدجال والخسف والحروب ، ولا يُجزَم بانطباقِ أخبارٍ مُعيَّنةٍ على وقائع حادِثة؛ فإن ذلك من علمِ الغيب ، ولا يجوزُ القولُ على الله بغير علمٍ.
اللهم أجِرنا من مُضلاَّت الفتن ، اللهم أجِرنا من مُضلاَّت الفتن ، اللهم جنِّبنا الفواحِش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
ثم صلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة ، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ.
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحابته الغُرِّ الميامين ، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ والمفسدين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهل طاعتك ، ويُهدَى في أهلُ معصيتك ، ويُؤمر فيه بالمعروف ، ويُنهَى عن المنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسِه ، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك ، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في فلسطين وفي كل مكان ، اللهم فُكَّ حِصارَهم ، وأصلِح أحوالَهم ، واكبِت عدوَّهم.
اللهم الطُف بإخواننا في سوريا ، اللهم ارفع عنهم البلاء وعجِّل لهم بالفرَج ، اللهم ارحَم ضعفَهم ، واجبُر كسرَهم ، وتولَّ أمرَهم ، يا راحِم المُستضعفين ، ويا ناصر المظلومين ، اللهم احقِن دماءَهم ، وآمِن روعاتهم ، واحفَظ أعراضَهم ، وسُدَّ خلَّتَهم ، وأطعِم جائِعَهم ، واربِط على قلوبِهم ، وثبِّت أقدامَهم ، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم أصلِح أحوالَهم ، واجمعهم على الهُدى ، واكفِهم شِرارَهم ، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن عاونَهم.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيِّك وعبادك المؤمنين.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظلم الظالمين ، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في مصر وفي كل مكان ، اللهم اجمَعهم على الحق والهُدى ، وأصلِح أحوالَهم ، واكفِهم شِرارَهم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى ، وخُذ به للبرِّ والتقوى ، اللهم وفِّقه ونائِبَيه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاح العباد والبلاد.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك ، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – ، واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين ، واكفِنا شرَّ الأشرار ، وكيدَ الفُجَّار.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) ﴾ ، ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) ﴾ .
اللهم اغفر ذنوبَنا ، واستُر عيوبَنا ، ويسِّر أمورنا ، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.
اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُرِّيَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا ، إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم ، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.
المصدر:منبر الجمعـــــــــــــــــة من الحــــــــــــــرم المكـــــــــــي

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.