مـذابـح حـلـب.. تـاريـخ يـتـجـدد (خطبة الجمعة)
د. إبرهايم بن محمد الحقيل
الأحد 1 شعبان 1437/ 8 ماي/آيار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
الحمد لله العليم الحكيم، اللطيف الخبير؛ يبتلي المؤمنين، ويملي للظالمين، ويمهل المستكبرين، ويمد للطاغين؛ امتحانا لقلوب المستضعفين، وكيدا ومكرا بالمجرمين {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] نحمده في السراء والضراء، والعافية والبلاء؛ فلو كُشف القدر لمؤمن لما اختار إلا ما قدره الله تعالى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له «إِذَا قَضَى الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ» وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بيَّن أن رباط الإيمان أمتن رباط، وأن الولاء في الإيمان أقوى ولاء، وأن طعم الإيمان لا يوجد إلا بذلك، فقال «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» فالمؤمن أخو المؤمن ولا يفصم عرى الأخوة إلا خروج من الإيمان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له وجوهكم، واستمسكوا بدينكم «فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيَّاماً الصَّبر فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ» كما أخبر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الناس: التاريخ مدرسة لمن يريد الاستفادة منه، ومن تأمل حوادثه وعبره فلن يغتر بدنيا زينت له؛ لعلمه بأنها قد تتغير عليه، ولن يتخذ عدوا بطانة له؛ لعلمه أنه في الشدة ينقلب عليه. ولن يكون العدو خلا وفيًا إذا كانت العداوة في الدين؛ فإن الله تعالى قال في المنافقين {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] وقال في الكفار {إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] والنصح في الدين هو أعظم النصح، كما أن الغش في الدين هو أعظم الغش، ومن عاداك في دينك فلن يدوم على وفائه معك في دنياك، والتاريخ ناطق بما تنزل به الوحي من خيانة الكفار والمنافقين، وعداوتهم للمؤمنين.
وبما أن حلب تحرق ويباد أهلها بأيدي الباطنيين، وبموافقة ومؤازرة الكافرين، فهذا حديث عن تاريخ من المذابح متجدد في حلب الشهباء، التي خرجت ألوفا من العظماء، واحتضنت جما غفيرا من العلماء، وحوت بيوتا مشهورة عرف أهلها بالفضل والعلم والقيادة والسيادة. جرت عليها خيانات الباطنيين في القديم فأبيدت على أيدي التتر، كما تباد الآن بأيدي الباطنيين وأعوانهم.
ذكر كاتب تاريخ النصيريين العلويين، وهو نصيري منهم مفاخرا بأفعال تيمور لنك، فعقد له فصلا، وقال ما نصه: ونحن نقول إن تيمور لنك كان علويا محضا من جهة العقيدة. وذكر أن له أشعارا دينية تدل على ذلك، وأن أحد شيوخ النصيرية رحل إليه من خراسان إلى بلخ فأقنعه بمذهبهم فالتزمه، وذكر أنه لما توجه التتر إلى حلب بقيادة تيمور لنك؛ أمدها أمراء مدن الشام بالقادة والجنود والسلاح للدفاع عنها، ورد عدوان التتر عليها. وذكر أن عساكر دمشق وطرابلس وحماة وصفد وغزة، وبقية الجيوش من كل بلدة، توافدوا لحماية حلب من السقوط في أيدي التتر، وكل نائب بلدة كان يرأس عساكرها.
ثم يذكر المؤرخ النصيري أن نائب حلب هو الأمير (تيمور طاش) وكان نصيريا، فلما اجتمع القادة للمشاورة في الدفاع عن حلب، ورد العدوان التتري عليها؛ كان نائبها النصيري يكاتب تيمور لنك خفية، ويتفق معه على الغدر بالجيوش الإسلامية التي أرادت إنقاذ حلب، ولم يكن ذلك غريبا على من يعرف عقائد الباطنية وتاريخهم، وما يحملونه من الضغائن ضد أهل السنة، ولكن الغريب أن يقرب الباطنية في بلاط سلطة أهل السنة مرة بعد مرة، ويتمكنوا من الأمر والنهي، والخيانة والغدر، ومكاتبة الأعداء سرا. وهذا الأمر يتكرر في التاريخ والدول.
خان الباطني النصيري (تيمور طاش) وكان نائب حلب، فمهد الطريق لأحفاد هولاكو التتري لوطئها بقيادة تيمور لنك، في أوائل القرن التاسع الهجري، يقول كاتب تاريخ العلويين في ذكر هذه المصيبة التي حلت بأهل حلب آنذاك: ودخل تيمور حلب عنوة، وكان أعاظم العلويين والأمراء والأشراف وخواص العلويين ملتجئين داخل القلعة… فأمعن في القتل والنهب والتعذيب والهدم مدة طويلة، حتى أنشأ من رؤوس البشر تلة عظيمة، وقد قتل جميع القواد، وانحصرت المصائب بالسنيين. انتهى كلام المؤرخ النصيري مثبتا أن التتر لم يتعرضوا لأبناء ملته ولا للنصارى، وإنما اقتصرت مذابحهم على أهل السنة فقط، كما هو الحال الآن في حلب.
المذابح القديمة في حلب فضيعة جدا، والعذاب الذي لحق بأهل السنة فيها آنذاك فوق الخيال، ذكر شيئا منه المؤرخ المصري جمال الدين ابن تَغْرِي بِرْدِي، وهو من أبناء أمراء المماليك، ولد بعد مذابح تيمور لنك في حلب بعشر سنوات فقط، وعاصر من حضروها وشهدوا عليها، وكلامه عنها مؤلم جدا، لكنني سأذكره؛ لأننا نرى الفجائع كل حين عبر الشاشات، ورأيناها في حلب هذه الأيام، ولا نزال نراها، فألم الحاضر ما هو إلا امتداد لألم الماضي في أهل السنة، وما يعانونه من الغدر والخيانات والتآمر، وتيمور اليوم ليس أرحم بأهل حلب من تيمور الأمس، فكلهم تتر باطنية لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. ولذا سأنقل ما قال هذا المؤرخ عن أفعال تيمور لنك في حلب في أوائل القرن التاسع الهجري، يقول: «اقتحم عساكر تيمور مدينة حلب في الحال، وأشعلوا فيها النّيران، وأخذوا في الأسر والنهب والقتل، فهرب سائر نساء البلد والأطفال إلى جامع حلب وبقية المساجد، فمال أصحاب تيمور عليهن، وربطوهن بالحبال أسرى، ثم وضعوا السيف في الأطفال، فقتلوهم بأسرهم، وشرعوا في تلك الأفعال القبيحة على عادتهم، وصار الأبكار تفتضّ من غير تستّر، والمخدّرات يفسق فيهنّ من غير احتشام، بل يأخذ التّترى الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع بحضرة الجمّ الغفير من أصحابه ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها وزوجها وولدها ولا يقدر أن يدفع عنها لقلّة مقدرته، ولشغله بنفسه بما هو فيه من العقوبة والعذاب، ثم ينزل عنها الواحد فيقوم لها آخر وهى مكشوفة العورة. ثم بذلوا السيف في عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامع والطرقات بالقتلى، وجافت حلب -أي أنتنت من كثرة الجيف- واستمر هذا من ضحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل….ثم سيقت إلى تيمور لنك نساء حلب سبايا، وأحضرت إليه الأموال والجواهر والآلات الفاخرة، ففرّقها على أمرائه وأخصّائه، واستمرّ النهب والسبي والقتل بحلب في كل يوم، مع قطع الأشجار، وهدم البيوت، وإحراق المساجد، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشا، لا يجد الشخص مكانا يمشى عليه إلّا وتحت رجليه رمّة قتيل. وعمل تيمور من رؤوس المسلمين منائر عدّة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعا، حُسِبَ ما فيها من رؤوس بني آدم، فكان زيادة على عشرين ألف رأس، ولمّا بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمرّ بها. ثم رحل تيمور من حلب بعد أن أقام بها شهرا، وتركها خاوية على عروشها، خالية من سكّانها وأنيسها، قد خربت وتعطّلت من الأذان والصلوات، وأصبحت خرابا يبابا، مظلمة بالحريق، موحشة قفرا، لا يأويها إلّا البوم والرّخم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. ورحم قتلى حلب الأمس وحلب اليوم، وكشف كربهم وكرب المستضعفين في كل مكان، وانتقم من أعداء الإسلام والمسلمين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم…
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] .
أيها المسلمون: الفارق بين مذابح الأمس واليوم في حلب أن مذابح اليوم تنقل بالصور الحية وقت وقوعها إلى العالم أجمع، فلا تتحرك دوله العظمى، ومنظماته الدولية لنجدتهم؛ لأن العالم الحر المتحضر بحرياته وإعلاناته في حقوق الإنسان شريك أساسي في هذه الجرائم التي ارتكبت في حق الحلبيين، حتى دكت المستشفيات على المرضى، والمساجد على المصلين، والأسواق على الباعة والمتسوقين، والمدارس على الأطفال والمدرسين. ومن صفاقة الإعلام النصيري أنه يبث مراسليه ليصور بعضهم بعضا وهم يبتسمون أمام البيوت المهدمة، والجثث الممددة، وويل للظالمين من يوم تشخص فيه الأبصار.
شيخ مسن عمره سبعون سنة يخرج من تحت الأنقاض قد غطاه الغبار وهو يدعو على الظالمين. ومسنة تدعو عليهم أن ييتم الله تعالى أطفالهم كما يتموا أطفال الحلبيين، وطفل يبكي إخوته الذين قضوا وهم في فرشهم نائمين، والدماء تغطي الأحجار، وموتورون يبكون ذويهم بعد كل غارة. وطفلة تصرخ: ما ذنبنا؟
ورغم فداحة مصاب المسلمين في حلب وحزن إخوانهم عليهم؛ فإن الحلبيين كانوا متعلقين بالله تعالى، واثقين بوعده ونصره، معلنين رضاهم بقدره سبحانه، يلهجون بحمده عز وجل في هذا المصاب الجلل وقد فقدوا فيه أحبتهم وذويهم، وسويت بالأرض مساكنهم، والرضا عن الله تعالى من موجبات النصر وأسبابه. وتالله لن يضيعهم الله تعالى وقد ضيعهم أراذل البشر، ولن يتخلى عنهم رب لجئوا إليه وقد تخلى عنهم العجم والعرب. لن تذهب دماؤهم، ولن يضيع ثوابهم عند ربهم سبحانه.
إنه امتحان القلوب في المصائب والكروب، قد قابله الحلبيون بالإيمان واليقين، وبالصبر والرضا {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] .
فألحوا -عباد الله- بالدعاء لهم، وخصوهم به؛ فإن الدعاء نصرة لهم، وإن الله تعالى إذا رأى صدق العباد في التوجه إليه تنزل نصره، وقد أغرق سبحانه الأرض وما عليها بدعوة نوح عليه السلام {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10].
ربنا إن إخواننا في حلب مغلوبون فانتصر، ربنا إن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها مغلوبون فانتصر. ربنا إن الكفر والنفاق قد طغى وبغى وفجر، ربنا فخذه أخذ عزيز مقتدر، وارحم الموتى من المؤمنين وأدخلهم جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المصدر : موقع مجلة “البيان” السعودية