أمة يكمل بعضها بعضا
الخميس،5صفر1436ه الموافق/27تشرين الثاني2014 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. حسام الدين السامرائي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فقد روى البخاري ومسلم في الصحيح من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يعلمُ الناسُ ما في الوَحْدة ما سار راكبٌ وحدَه بليل أبدًا)).
نظرية رائجة في زماننا اليوم، أن يأكل الإنسان وحدَه، وأن يشرب وحدَه، وأن يقرِّر وحدَه، وأن يسافر وحده، وأن يعمل وحدَه.
إنها ثقافة أثَّرت فينا، وصنعت من بيننا جيلاً لا يعرف إلا سبيل الانفراد وعدم الاندماج والتكامل، فهي نظرية ومشاريع فردية لم تجنِ الأمة منها سوى الهدم والقصور في أداء المهام، والخلل في معظم مناحي الحياة.
لقد ناقشت الحضارات السابقة نظريتين متناقضتين، الأولى: النظرية الفردية، ومفادها: أن الإنسان حرٌّ فيما يتصرَّف ويعتقد، ومصلحتُه مقدَّمة – حتى ولو تعارضت مع مصالح الآخرين – وهي نظرية أرسطو، والتي تبنتْها الرأسمالية الحالية، وآمنت بها المانوية الفارسية، والثانية: النظرية الجماعية، التي تهتم بمصلحة الجماعة – دون مراعاة للفرد وخصوصيته – وهي نظرية أفلاطون، التي تبنتْها الشيوعية، وآمنت بها المزدكية الفارسية.
وبين هاتين النظريتين جاء الإسلام؛ ليقرِّر المنهج الوسط في بناء التصور الصحيح، فلنتأمل في الحديث السابق، الذي يعيب على التفكير الانفرادي الأحادي، فلا يسافر المسلم وحده، ولا يأكل وحده، ولا يقرِّر وحده، بل يشارك الجميع، ويشاركه الجميع؛ فيكمل عملَ غيره، ويعطي الفرصة لغيره أن يكمل عمله.
إن نظرية الفردية المنتشرة في هذا الزمان قريبة من تصور قابيل؛ حين أقدم على قتل أخيه هابيل؛ ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (المائدة: 27 – 30)؛ فظن قابيل أن الجنة لا تتَّسع له وأخيه، فسار وفق القول السائد: “إما أن أفوز أنا وتخسر أنت، أو أخسر أنا وتفوز أنت” أمَّا أن نفوز جميعًا، فهذا غير وارد قطعًا، رغم أن جنة الله واسعة ورحمته أوسع.
روى الطبراني بسند ضعيف، من حديث ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: ((ألا أنبئكم بشراركم؟)) قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال:((فإن شراركم الذي ينزل وحده، ويجلدُ عبدَه، ويمنع رِفْدَه)) وهنا نفهم أن الشريعة جاءت لذم النظرية الفردية مع احترامها لخصوصية الفرد، فيخرِّجُ لنا ابن ماجه بسند حسن لغيره، عن أنس رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأقضاهم عليُّ بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبيُّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذُ بن جبل، وأفرضهم زيدُ بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)). فأبو بكر يتخصَّص في الرحمة، وعمر في الهمة، وعثمان في الحياء، وعليٌّ في القضاء رضي الله عنهم جميعًا، كلٌّ في مجاله، فخالد وسعد قادةٌ في العسكر، وابن مسعود ومعاذ وابن عباس قادةٌ في العلم، وأبو بكر وعمر قادة في الوزارة، وعثمان وعليٌّ قادة في السفارة، فنحترم خصوصية كلِّ فرد، ولكن نعمل وفق منهج الجماعة الواحدة، فنزاوج بين النظريتين الفردية والجماعية، وهذا يؤكِّده ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: ((مثَلُ القائمِ على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوْا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا؛ ولم نُؤْذِ مَن فوقنا؟ فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا))؛ فلا غنًى لبعضنا عن بعض، فالثلاثة أصحاب الغار الذين لجؤوا إليه بسبب المطر، فأغلقتْ عليهم صخرةٌ بابَ الغار، كما ورد في الأثر الصحيح، فإنهم سألوا جميعًا ربَّهم الفرجَ، ولو اكتفى واحد منهم بالدعاء لما نجوا، بل لو دعا اثنان دون الثالث لما تحقَّق لهم الخَلاص، لكن مشاركة الجميع بالدعاء، وكل فيما يخصُّه، حقَّق لهم المرادَ، وفتح لهم باب الغار.
أخي المسلم أختي المسلمة،
لابد لنا أن نفهم أن الناس يكمل بعضهم بعضًا؛ فلسنا أضدادًا ولا أعداء ولا خصومًا، ورحمة الله تسَعُ الجميع، وجنته تتسع لمن شاء من خلقه سبحانه، فبالسهم الواحد يدخل ثلاثةُ نفر الجنة: راميه، وصانعُه، ومُنْبلُه، فليس الفوز للرامي فحسب، بل إن الجميع سينال هذا الرضا، وذلك القبول، وهذا عين عمل مملكة النحل؛ ففيها ملكة تقوم بدورها، وعاملات يقمن بدورهن، وذكورٌ يقومون بعملهم، كلٌّ في تخصصه، وتستمر القافلة.
وهكذا كان فهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فموسى عليه السلام لا يفضِّل أن يعمل وحده، بل يشاركه هارون عليه السلام؛ ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ (طه: 29 – 32).
فمهما بلغ الإنسان من كمال فهو بحاجة إلى يد تساعده، وعقل يفكر معه، ومشورة تسدد رأيه، ليطبق نبينا صلى الله عليه وسلم فعليًّا هذا؛ فيشاركه الصدِّيق رحلة الهجرة المباركة؛ ﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ (التوبة: 40).
في تناغم عجيب وتكامل رائع، فسليمان عليه السلام النبي الملك العالم يتشارك مع الهدهد والنملة، ولا يستغني عنهما مع عظيم ملكه وعلمه.
أيها الكرام، لا غنى لبعضنا عن بعض، كلٌّ يعمل في تخصصه، ونتشارك جميعًا في الإبحار بالسفينة؛ لنحقق شرعة الله، فاليد الواحدة لا تصفِّقُ، والتفكير الأحادي لن يبني مشروعًا حقيقيًّا، والمشاريع الفردية دائمًا، ما تحقق أهدافًا قصيرة المدى، والأنانية كارثة على الجميع؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يَأْلَفُ ولا يُؤْلَفُ)) فالمؤمن الكامل هو الذي يتكامل مع إخوانه، ويدع الفرصة لهم لأن يتكاملوا معه، فلنعمل جميعًا ولنتكامل؛ فإننا في زمان لا ينجو فيه إلا المتعاونون المتكاملون المتضامنون.
والله من وراء القصد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أله وأصحابه أجمعين.
المصدر: الألوكة