إحياء الهوية الإسلامية
الأربعاء 12ربيع الثاني 1438 الموافق 11 يناير/ كانون الثاني 2017 وكالة معراج للأنباء الإسلامية .
– د. محمد محمد بدري
تشكل الهوية – في أي أمة من الأمم – الحافز الأيديولوجي والدافع النفسي والشعوري الذي يدفع الأمة نحو التقدم بقوة في اتجاه (الإحياء الحضاري)، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأمم الأخرى.. فالهوية تُشعر الأمة أنها (المركز) الذي يجب أن ينجذب إليه الآخرون.. وليس هذا (المركز) خارجها ويجب عليها هي أن تنجذب إليه، وهذا يقوي في أفراد الأمة قوة الصمود أمام تيار الغزو الحضاري، ويُفجر فيهم الطاقات الكامنة فتستطيع الأمة القفز فوق كل الحواجز لتحقيق التقدم والإنجاز الحضاري.
أما إذا فقدت الأمة – أية أمة – هويتها (المستقلة) فإن هذا يعني لا محالة (التبعية) للأمم الأخرى والبقاء تحت سياط الاستعباد والقهر!!.
ومن هنا فإنه من «بديهيات النظر العقلي في مشكلة البناء أو البعث الحضاري عند أمة من الأمم أن أولى خطوات هذه العملية إنما تقوم على إبراز الشخصية الحضارية لهذه الأمة في الواقع والتاريخ الإنسانيين، وأيضًا لدى أجيالها الناشئة، وذلك يكون من خلال إحياء وصقل مقومات هذه الشخصية، ثقافيًا، وفكريًا وقيميًا، وأخلاقيًا، واجتماعيًا، بعد لفظ ما شاب تلك المقومات، من عوامل هدم، أو منزلقات تخلف، علقت بها في مراحل الأمة التاريخية المختلفة»[1].
ولا مفر عن هذه الخطوة الأولية.. (إحياء الهوية)، لأن البعد العقدي والتاريخي والحضاري لأية أمة يضع (بصماته) على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وحتى على الجوانب العلمية والتقنية والتنظيمية والإدارية..
وإذا أردنا أن ندلل على أهمية الهوية وأثرها في الأمة من واقع حياتنا المعاصرة لنظرنا إلى اليابان مثلًا «هذا البلد الذي خرج من الحرب العالمية منهك القوى متضررًا كما لم تتضرر دولة مثله، ومع ذلك فهو الآن في مصاف الدول المتقدمة… لأن الخط الواضح الذي سارت عليه اليابان منذ خروجها من الحرب هو التميز بهوية مستقلة»[2] فكانت هذه الهوية المستقلة هي التي دفعت العامل الياباني إلى الإبداع والدقة والاختراع والتطوير، وهذا ما لم يكن ممكنًا لو أن هذا العامل كان متقمصًا شخصية العامل الغربي، لأنه حينئذ يشعر بالتبعية، وفقدان الشخصية الذي يحد من عزمه ويقتل فيه روح الإبداع.
فاليابان حافظت على هويتها، وقبلت من الحضارة ما دفعها إلى الإمام.. بل كانت اليابان شديدة الحرص على هذه الهوية المستقلة، وكان الطالب الياباني حين يذهب إلى الغرب ليتعلم التقنية، يحافظ أشد المحافظة على أخلاق بلاده وتراثها وهويتها «ولما بعثت اليابان بعثة من أبنائها للتعليم في بلاد الغرب، ورجع أولئك المبتعثون متحللين من مبادئهم، ذائبين في الشخصية الغربية، منغمسين في الشهوات الفردية لم يكن من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعًا على مرأى من الناس ليكونوا عبرة لغيرهم»[3].
وهكذا أدرك اليابانيون (الوثنيون) خطورة الاجتياح الحضاري وفقدان الهوية المستقلة!!.
وكما فعلت اليابان، فعلت كوريا الشمالية.. سدت أبوابها في وجه الاجتياح الحضاري الغربي وتمسكت بهويتها المستقلة، فاستطاعت أن تبني نفسها بيدها وتتجاوز مرحلة التخلف لتصبح من الدول الصناعية..
فإذا نظرنا إلى العالم الإسلامي، وبحثنا عن الهوية التي يمكن عبرها إحياء الأمة الإسلامية، فماذا عسانا أن نجد؟.
لقد ادعى زعماء العلمانية أن طريق الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية هو إحياء الهوية (الوطنية).. وإحياء الهوية (القومية)، وحين سارت الأمة وراءهم خربوا بيوت الإسلام بأيدي المؤمنين وهم لا يشعرون!! ذلك أن الهوية الوطنية في الواقع (الإسلامي) لا تمثل محور الاستقطاب القوي الذي يمكن أن يجمع الأفراد، بل هي فراغ اجتماعي وسياسي يُنتج في الأمة ظواهر (الاغتراب) التي تستنزف الطاقات وتُضيع الجهود، وتجعل محصلة عمل الأمة تصل إلى جيوب أعدائها!![4].
وادعى زعماء العلمانية أن الطريق إلى الإحياء الحضاري للأمة هو ما أسموه (المشروع القومي). والذي يحاول أن يجمع أفراد الأمة عبر إيجاد هدف مشترك بين الأفراد يشد بعضهم إلى بعض..
ولكن هيهات.. إن هذا المشروع (المُفتعل) يخبو ويظهر، ويقوى ويضعف،.. وعند ضعفه تبدأ ظواهر الاغتراب في الظهور وتقل مشاركة الأمة فيتحكم فيها الرعاع والأراذل والسفهاء من خلال نظم استبدادية متعسفة، تقوم بعمل تفريغ شامل لقوى الأمة جميعها، من مال وقيم وتكتلات شعبية وغيرها!!.
وهكذا تبقى الأمة في هذه الدائرة لا تخرج عنها.. هوية وطنية أو مشروع قومي متجدد، يؤديان إلى فراغ اجتماعي، ينتج اغترابًا وفقدان انتماء، فيتحكم الأراذل والسفهاء، فيكون الفساد العريض، واستنزاف الطاقات والجهود، وتصل الأمة إلى التبعية المطلقة الذليلة.. والتي قام الدليل أكثر من مرة على استحالة الخروج منها إذا كانت الهوية هي الهوية الوطنية، أو القومية، أو العلمانية..
إن أية محاولة لدفع الأمة الإسلامية في طريق الإحياء الحضاري من خلال هذه الهويات (المصطنعة) هي في حقيقتها محاولة (تآمرية) تخدم في النهاية مصالح أعداء الأمة… بل إن الذين يقومون بهذه المحاولات هم الأعداء الحقيقيون لهذه الأمة، لأنهم يمزقون وحدتها، ويقضون على مقومات المواجهة لهذه الأمة مع أعدائها.
إن نقطة التحول في طريق إحياء الأمة الإسلامية، ونزع الريادة من يد أعدائها وبداية حضارة الإسلام من جديد، هي (إحياء الهوية الإسلامية)، لأنها هي الهوية الحقيقية للأمة، الموصولة الشرايين بتاريخها، والقادرة على مقاومة الاجتياح الحضاري الغربي.
إن إحياء الهوية الإسلامية هو الخطوة الأولى في الطريق الصحيح لإحياء الأمة الإسلامية لأنها تشكل محور الاستقطاب القوي الذي يجمع أفرادها حول مرتكزات عقائدية من الاجتماع على الإسلام والولاء والبراء عليه، ومن ثم يتيح للأفراد تكوين أمة متماسكة. وإذا تماسكت الأمة ملئ الفراغ الاجتماعي فيها، واختفت منها ظواهر الاغتراب وفقدان الانتماء، وأصبح قادتها هم (أولو الألباب)، فكانت الوثبة القوية، والانطلاقة الحضارية التي تحطم الأغلال التي وضعها الأعداء على الأمة.
لقد كنا بهويتنا الإسلامية على رأس الدنيا، واستطعنا أن نجنب الحضارة الرومانية والفارسية صفة القيادة.. وما زالت الفرصة أمامنا لنعرف أنفسنا وتعرفنا البشرية كلها وحين نقوم بإحياء هويتنا الحقيقية (الهوية الإسلامية) وتصبح لأمتنا شخصيتها المتميزة، وهويتها المستقلة.. حينذاك قد يجتمع علينا الأعداء من كل صوب، ولكنهم لن يستطيعوا أن ينالوا منا شيئًا، كما لم تستطع الروم والفرس أن تنال من المسلمين الأوائل شيئًا. بل سيأتي اليوم الذي يقف فيه أعداء أمتنا على خط الدفاع عن شخصيتهم المتميزة وهويتهم المستقلة خشية الذوبان في البوتقة الإسلامية، كما ذابت من قبلهم الفرس والروم[5].
وبكلمة: تقوم (الهوية) في أية أمة من الأمم بدور (المعامل الحضاري) الذي يمتد عموديًا في أعماق الإنسان لكي يبعث فيه الإحساس بمسئوليته عن تقدم أمته، فيفجر طاقاته في ذلك السبيل.. ويمتد أفقيًا في الأمة لتصب جهودها في المسالك الصحيحة التي تنسجم مع آمال الأمة وطموحاتها[6].
ولا شك أن الهوية التي تنطبق مع الخيار الحضاري للأمة الإسلامية هي (الهوية الإسلامية). ولذلك فإنه عندما طرح زعماء العلمانية الهوية (الوطنية) كبديل للهوية الإسلامية، حدث في الأمة (فراغ اجتماعي)، وأدى هذا الفراغ إلى ظواهر (الاغتراب) وفقدان الانتماء للأمة، وفي ظل الاغتراب أصبح العقلاء والحكماء من الأمة غير قادرين على التأثير في حركتها، وصارت الكلمة للسفهاء، وصار الحكم للأراذل، فكان الفساد العريض، والجهود الضائعة، والطاقات المستنزفة!! وصارت الأمة إلى التبعية الذليلة. وهكذا لم يصبح أمامنا من سبيل لإخراج أمتنا من التبعية إلى الريادة إلا عبر (إحياء) الهوية الإسلامية، وإيجاد (المشروع الحضاري الإسلامي).. ليكون ذلك سبيلًا إلى استقطاب أفراد الأمة، وملء الفراغ الاجتماعي، لتزول ظواهر الاغتراب، ويتولى (أولو الألباب) قيادة الأمة.. وتصبح (الهوية الإسلامية) حافزًا للتغيير، ودافعًا للفاعلية، وهاجسًا لصنع الحضارة.
المصدر: السوسنة
Comments: 0