ارتباك الحضور
الجمعة 21 صفر 1437//4 ديسمبر /كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. سلمان العودة
معظم البشر يؤمنون بالله الخالق العظيم، ومن لا يؤمنون به تمر بهم حالات الضَّعف والمرض والشيخوخة والأزمات الطارئة.. فيصرخون من أعماقهم المنكسرة: يا رب!
كم عدد الذين يستشعرون القرب الإلهي في حياتهم حتى حين يعبدونه ويناجونه؟
يصف الله نفسه بالقرب:
“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ” (ق: 16).
“فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ” (الواقعة: 83-85).
“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ” (البقرة: 186).
“إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ” (هود: 61).
حين رفع الصحابة أصواتهم بالدعاء قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ” (رواه البخاري ومسلم).
وفي بعض روايات الإمام مسلم: “وَهو أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَته”.
وهي رواية نسبها الإمام ابن تيمية في (العقيدة الواسطية) للصحيحين، ولعله وهم.
ليس أصم بل سميع يسمع خفق القلوب ووجيبها، ولا غائباً بل حاضر شهيد “مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (المجادلة: 7).
الإيمان المجرّد بهذه المعاني خير وبركة.
المسافة بين الألفاظ والمعاني واسعة لا يحيط بها إلا الله.
والمسافة بين الإيمان المجرد النظري، وبين تحقق وتمثل هذا الإيمان وحضوره في القلب أبعد مما بين السماء والأرض.
أن تشعر أن الله عند كل كلمة تلفظها، أو فعل تشرع فيه، أو أمر تهم به.
“وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” (يونس: 61).
إحساس هو الأكثر جمالاً وإشراقاً في الحياة؛ أن تستشعر معيّة الله وقربه وشهوده وأنت تعبده وتناجيه وتسأله وتبث همومك وآلامك.. وهو الذي لا تخفى عليه خافية.
“وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (الشعراء: 217-220).
“وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ” (الطور: 48-49).
أن تستشعر قربه معك ومنك وإليك وأنت منفرد منعزل فتسمو روحك للفضاء الرحب، وتتآخى مع المخلوقات التي تسبحه وتلهج بحمده، فلا تشعر أنك غريب في هذا الكون المنخرط في الطاعة والعبودية.
أن تستشعر حضوره الذي لا تنفك منه وأنت محروم من القوة فيصلك بمصدر القوة التي لا تغلب ولا تضعف “وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ” (الصافات: 171-173).
أن تحس هذا اللطف الرحيم والسعة والكرم وأنت تغفل عنه فتزل قدمك أو تنتصر غريزتك، في موقف طمع أو شهوة أو استرسال، فيحتويك ويصبر عليك، ويمد لك حبل الأمل، ويترك الباب لك مفتوحاً؛ لتعود إليه وتطلب صفحه، وتطمع في المكانة والزلفى عنده؛ مهما أسرفت في الغفلة وبالغت في الإعراض، فرحمته فوق ما تظن وفوق ما تتخيل!
لا نعيم في الآخرة أجمل من رؤية وجهه الكريم في جنة عدن، ولا نعيم في الدنيا أجمل من الشعور بمعيّته وقربه وحضوره وشهوده.
ولا جهاد أنبل ولا أفضل ولا أكبر من مجاهدة القلب على استحضار هذا المعنى ومدافعة الصوارف والشواغل، والخروج من الازدحام الداخلي إلى الاستفراد بأسمائه وصفاته، وكأن لا أحد حولك أو معك، فهو الحضور الذي تتلاشى معه الشواغل والصوارف والملهيات.
المجاهدة في هذا السبيل استثمار في الميدان الأفضل والأعظم ربحاً والأحمد عاقبة.
وبقاء القلب على درجة من اليقظة الإيمانية أمر عسير أو محال، ولذا قال سيد العارفين -صلى الله عليه وسلم- في حديث الأَغَرّ الْمُزَنِىّ: “إنه لَيُغانُ على قلبي وإني لأستغفر اللهَ في اليوم مائة مرة” (رواه مسلم).
يرتبك العقل هنا ويذهل الخيال فتصبح كل صورة تخطر بالبال هباءً ضائعاً لا علاقة له بالموقف، فلا يملك الخيال مهما أرسلته واسترسلت معه أن يصل إلى تصور صحيح، وإن كان من شأن البشر أن تنصرف أذهانهم إلى تصورات من جنس ما عرفوا وألفوا وشاهدوا، ثم هم يحاولون تكبيرها وتضخيمها، وينسون أنهم يتخيلون صوراً وفق الماديات التى لا يستطيعون الانفصال عنها والانفكاك منها.
حين قال موسى عليه السلام بعد ما كلّمه ربه: “رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ” (الأعراف: 143).
أجابه ربه بقوله: “لن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي” (الأعراف: 143).
ثم تجلّى الله للجبل فجعله مدكوكاً هباءً، ورأى موسى هذا فخرَّ صعقاً.. ولما أفاق من غشيته استغفر وقال: “سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ” (الأعراف: 143).
فما بالك بخيال المتخيلين، ووهم الواهمين، ووسوسة عقول الصغار العاجزين؟
كمال الإيمان أن يتم التآلف بين عقلك ووجدانك، فلا تناقض ولاتباعد ولا انفصال.
وأن تملك بهذا أن تجمع ما بين استشعار الحضور الإلهي الجليل الجميل، وبين تجريد الرب العظيم عن أي صورة تخطر ببالك، فكل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك، وردد: “سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ” (الصافات: 180).
والحمد لله رب العالمين.
السبيل