بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: الإمام يخشى الله منصور
قال الله تعالى:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
قراءة المزيد: جارودا إندونيسيا تعيد فتح خط جاكرتا-الدوحة
[الحديد: ٢٥]
يرى عدد من العلماء المعاصرين أن في ذكر الحديد في هذه الآية دلالة عميقة على قيمته الاستراتيجية في بناء الحضارة الإنسانية. وفي تفسيره “في ظلال القرآن”، يؤكد سيد قطب أن الحديد عنصر محوري في قيام الحياة، سواء في أدوات الزراعة أو في السلاح الذي يحمي الدول والمجتمعات.
وفي السياق ذاته، يشير الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في تفسيره “المنير” إلى أن الحديد يدخل في تفاصيل الحياة من الأدوات المنزلية والبناء ووسائل النقل، وصولا إلى صناعة الأسلحة والتقنيات الحديثة.
يذكر القرآن الكريم لفظ “الحديد” بوصفه رمزا للقوة العظيمة، لا من الناحية المادية فقط بوصفه معدنا صلبا، بل أيضا بما يحمله من دلالات رمزية. فالحديد يُعد مجازاعن السلطة والقوة والشجاعة، خصوصا في سياق الدفاع عن الحقوق، وإقامة الوظائف الاجتماعية والعدالة بين الناس.
قراءة المزيد: إندونيسيا وماليزيا يدعوان إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط
التقنيات الحديثة والبعد القرآني
يربط الدكتور محمد قريش شهاب في “تفسير المصباح” بين دلالة الحديد وظهور التكنولوجيا المعاصرة، ومنها الصناعات العسكرية والطاقة النووية.
يعد الحديد مادة أساسية في بناء المفاعلات النووية، خاصة في ما يتعلق بالحماية من الإشعاع (الدرع الإشعاعي). ورغم أنه ليس العنصر المباشر المستخدم في عملية الانشطار النووي (انقسام نواة الذرة)، فإن البنية الفولاذية القوية المعتمدة على الحديد تستخدم لضمان أمان واستقرار المفاعل النووي، تحت ظروف الضغط العالي ودرجات الحرارة القصوى.
وبذلك، لا يقتصر ذكر الحديد في القرآن الكريم على التنويه بقوته، بل يشير إلى مسؤولية الإنسان في تسخير هذا المورد في تحقيق السلم والخير، لا في الهدم والدمار.
قراءة المزيد: وصول أول دفعة من الإندونيسيين المُجلين من إيران إلى جاكرتا
الجدل النووي في العصر الحديث
في عالم يشهد تسارعا هائلا في وتيرة التطور، تبقى التقنية النووية في قلب الجدل العلمي والسياسي المعاصر. فمن جهة، تُعد إنجازا علميا هائلا قادرا على دفع الحضارة الإنسانية إلى آفاق جديدة. ومن جهة أخرى، تحمل في طياتها مخاطر وجودية تهدد بدمار البشرية إذا أسيء استخدامها.
ويُعتبر العلم النووي من أعظم ما توصّل إليه الإنسان في مجالات الطاقة والطب، إذ تنتج المفاعلات النووية طاقة نظيفة، كما تُستخدم النظائر المشعة في علاج أمراض خطيرة.
لكن هذه التقنية المتقدمة تحوّلت أيضا إلى مصدر رعب عالمي، خاصة إذا وقعت في أيدي أنظمة غير مسؤولة. فالتجربة التاريخية المريرة في هيروشيما وناغازاكي عام 1945، حيث أُسقطت القنابل الذرية، كشفت عن الوجه المدمر للطاقة النووية، وحفرت في ذاكرة العالم مشاهد الرعب والموت والدمار.
قراءة المزيد: الرئيس التنفيذي للدوري الإسباني “لاليجا” يثق بأن كلويفرت سيقود إندونيسيا إلى كأس العالم 202
ورغم هذه الكوارث، تستمر الدول الكبرى في تطوير ترسانتها النووية بحجة الحفاظ على الأمن القومي. إلا أن هذه الترسانة كثيرا ما تُستخدم لأغراض الهيمنة وتوسيع النفوذ. وتبقى الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا الدول الخمس الرسمية المالكة للأسلحة النووية، وفق معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT).
وتُعد هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها على السلاح النووي إحدى الإشكاليات الكبرى في النظام الدولي، حيث ترفع هذه الدول شعارات السلام بينما تمنع دولا أخرى من امتلاك التقنية نفسها عبر اتفاقية NPT.
وهذا التناقض الصارخ يعكس اختلال موازين القوى العالمية، إذ تسمح الدول الغربية للكيان الصهيوني بامتلاك برنامج نووي متكامل، رغم مخالفته الواضحة للقوانين الدولية.
في المقابل، تواجه دول مثل إيران وباكستان وكوريا الشمالية ضغوطا دولية هائلة، رغم إعلانها أن برامجها النووية ذات أهداف سلمية. وتتعرض إيران على وجه الخصوص لعقوبات اقتصادية، وتهديدات عسكرية، وحتى محاولات تخريب تقني، كجزء من استراتيجية غربية لمنعها من تحقيق تقدم في المجال النووي.
قراءة المزيد: إندونيسيا تعلن جاكرتا “عاصمة الحلال العالمية” مع اختتام المنتدى الدولي للاقتصاد الحلال 2025
ويشهد العالم هذه الازدواجية بشكل سافر، إذ تُشكك الدول الغربية في نوايا الدول الملتزمة بالقانون الدولي، بينما تتغاضى عن تطوير إسرائيل لترسانتها النووية، رغم عدم توقيعها على معاهدة NPT.
ومن ثم، أصبحت دعوات “السلام” الغربية أداة سياسية تهدد الاستقرار، إذ إن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي أدى إلى اختلال كبير في ميزان القوى في الشرق الأوسط، وزاد من خطر نشوب نزاعات مسلحة.
ويظهر ذلك بوضوح في جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة وفلسطين، حيث يواصل الكيان الصهيوني استخدام قوته دون أي ردع، وسط صمت عربي مؤسف، وعجز عن إيقاف العدوان.
رغم أن الكيان الصهيوني لم يعلن رسميا امتلاكه أسلحة نووية، فإن العالِم الأمريكي إدوارد تيلر قدّم أدلّة واضحة تؤكّد أن “إسرائيل” قد بلغت فعليا القدرة النووية الكاملة.
قراءة المزيد: فيدا براتاما يتوج بطلا في كأس ريد بُل روكيز في إيطاليا
وقد عزّز هذه الشهادة باحثان آخران، هما أفنر كوهين ومردخاي فعنونو، حيث وثّقا بالتفصيل تطوّر البرنامج النووي الإسرائيلي إلى سلاح جاهز للاستخدام، صُمّم خصيصا لضمان التفوّق العسكري وترسيخ الهيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط
كما انتقد باحثون مثل أليشيا ساندرز زاكري وهاينز غارتنر، الدعم الغربي اللامحدود للبرنامج النووي الإسرائيلي، مما كشف عن سياسات التمييز والكيل بمكيالين التي تقوّض العدالة الدولية في ملف التسلح النووي.
وقد أدّت هذه السياسة إلى تصاعد التوترات في المنطقة، خصوصا بعد أن نفّذ الكيان الصهيوني هجوما على منشآت نووية إيرانية في 13 يونيو 2025، تلاه هجوم أمريكي بذريعة “حماية الدول العربية من إيران”، فيما كانت الحقيقة هي حماية التفوق النووي الإسرائيلي فقط.
النظرة العلمية الإسلامية للطاقة النووية
قراءة المزيد: وزير خارجية إندونيسيا يدين الهجوم الإسرائيلي على إيران خلال مؤتمر التعاون الإسلامي
يرى البروفيسور أحمد بايقوني (1923–1998)، أول خبير مسلم إندونيسي في مجال الطاقة النووية، أن التكنولوجيا النووية ليست مقتصرة على كونها وسيلة للدمار الشامل، بل هي جزء لا يتجزأ من علوم الكون التي يمكن تسخيرها لخدمة البشرية.
ويؤكد بايقوني أن الطاقة النووية قادرة على أن تكون حلا للعديد من التحديات الكبرى التي تواجه الإنسانية، شريطة أن يتم توظيفها ضمن إطار من العلم والأخلاق. إذ يمكن الاستفادة منها في مجالات متعددة مثل الطاقة النظيفة والعلاج الطبي المتقدم.
لكن، وفي تحذير منه، شدد بايقوني على ضرورة ألا تُفصل التكنولوجيا النووية عن البعد الأخلاقي. وأوضح أن تطويرها يجب أن يكون مستندا إلى قدر عال من المسؤولية الأخلاقية والمبادئ الإنسانية. فالسلاح النووي لا يجب أن يُستخدم كأداة للهيمنة أو الإبادة، بل وسيلة لإقامة العدالة وتحقيق المصلحة العامة.
وأشار إلى أن التقدّم في هذا المجال لا ينبغي أن يُوظف في تكريس الهيمنة السياسية أو الاحتكار الاقتصادي والتكنولوجي من قبل قوى معينة على حساب باقي الأمم.
قراءة المزيد: إندونيسيا تجلي 97 من رعاياها من طهران إلى باكو وسط تصاعد التوترات العسكرية
وفي إطار القواعد المقاصدية الإسلامية، بيّن بايقوني أن كل ابتكار أو تكنولوجيا يجب أن تُقاس بميزان المصلحة والمفسدة، بحيث تكون المنفعة أعظم من الضرر. كما لا بد أن تُراعى فيها العدالة، فتُستخدم بإنصاف دون أن تُسبب ظلما للآخرين.
فالطاقة النووية، كما سائر العلوم، ليست سوى أداة، ويعتمد أثرها على الجهة التي تتحكم بها. فإن وقعت في أيدي العلماء الربانيين، الأخلاقيين، الذين يراعون المصلحة العامة والعدالة، أصبحت نعمة تخدم الإنسانية. أما إن استحوذ عليها الطغاة والمفسدون ممن لا خُلق لهم ولا دين، فستتحول إلى أداة هيمنة وسلاح دمار شامل يهدد الأجيال ويفني الحضارات.
ويختم بايقوني بالتأكيد أن الحديد الذي يشكل أحد العناصر الرئيسة في بناء المفاعلات النووية يحمل في طياته قدرة مدمّرة هائلة، لكنه في الوقت ذاته يحمل نفعا كبيرا للبشر إذا أُحسن استخدامه.
سبحان الله العظيم، الذي جعل من الحديد أحد العناصر الأساسية في صناعة الطاقة النووية مصدرا للقوة الرهيبة، لكنه في الوقت ذاته يحمل في طياته منافع عظيمة. فنسأل الله أن يُسخّر هذه النعمة لما فيه خير البشرية، وأن يُجنّبها شرّها وأخطارها
قراءة المزيد: دار آفاق المعرفة من الرياض تطرق أبواب القرّاء الإندونيسيين عبر معرض جاكرتا
والله أعلم بالصواب
وكالة مينا للأنباء
قراءة المزيد: إجلاء وشيك للمواطنين الإندونيسيين من إيران عبر البر بتنسيق إقليم