الأمانة من توجيهات النبوة
الثلاثاء 15 جمادى الأولى 1437//23 فبراير/شباط 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
محمد عبدالوهاب
الأمانة صفةُ النبيِّين وشعارُ المرسلين، وخلُقُ المؤمنين المخلصين، فهي خلق – لو تعلمون – عظيم، بها توجد الثقة بين الناس، وتشيع في المجتمع الطمأنينةُ على الأرواح والأعراض والأموال، ومما لاشكَّ فيه أن الثقةَ روحُ العمران، وسرُّ النجاح، ولا عجبَ؛ فإنه بالثقة تحسُنُ المعاملة، وتُحفَظ الحقوق، وتَتَبدَّد المطامع، وتطوح الشهوات، وتتلاشَى الفوضى، ويسود النظام، وهذه هي ركائز النهوض، ووسائل التفوق، وأسس التبريز في مجالات الحياة، وينعكس إذا انعدمت الثقة بين الناس حيث تضطرب الأمور، وتشيع الفوضى، ويختل الأمن، ويفسد النظام، ويفقد الشخص أعزَّ شيء يرتكز عليه في حياته؛ فالتاجر يخبو شرفُه، وتبور تجارتُه، والصانع تنحطُّ صناعتُه، وتسوء سمعتُه، والموظف تختلُّ موازينُه، وتهتزُّ وظيفتُه، وبكل هذه السَّوْءَات تشقى الأمة ويذهب ريحُها، وتصبح في خبر كان.
واتقاءً من هذه، وإبقاءً على تلك؛ أمر القرآن الكريم بما يُحيي هذه الثقة في صفوف الناس، وهو”الأمانة”، أمر بالأمانة حفظًا للنوع الإنساني من التدهور، وصيانةً للمجتمع الإسلاميِّ من التفكك؛ فقال: ﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البقرة: 283]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، ولقد ساندت السنةُ النبوية القرآنَ الكريم في طلب الأمانة والحث عليها وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتُمن خان))، وجاء في رواية أخرى: ((وإن صلَّى وصام، وزعم أنه مسلم)).
روى البخاري ومسلم – رضي الله عنهما – عن عبدِالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((أربعٌ مَن كنَّ فيه، كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ، كان فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر)).
والأمانة تحتاج إلى شرح وبيان؛
أولاً: تعريفها
ثانيًا: في أيِّ شيء تكون؟
أمَّا تعريفُها:
فهي صفة تُوجب على المرء الاحتفاظَ بما استحفظه، وأداءه إلى أهله، ومظهرُ هذه الصفة في الاختلاط والتعامل مع الغير، ونحن نعلم أن الإنسان – مهما كان شأنُه – لا يستطيع أن يعيش حياتَه وحده، بل لابدَّ له ممن يُؤازِرُه فيها، فهو في حاجة دائمًا إلى غيره يُخالطه ويعامله وتنشأ له معه علاقات؛ استكمالاً لاحتياجات حياته، فلِلْعبدِ مع الله عَلاقةٌ، وللعبد مع أخيه الإنسان علاقة.
أما علاقة العبد بالله، فحاجته الماسَّة إلى الله في كل شيء؛ لأن الله مصدرُ كلِّ شيء، وخالق كلِّ شيء، وبيده أمرُ كل شيء؛ ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وقد أمدَّ الله عبدَه بأمرين هامَّيْن جدًّا:
أوَّلهما: نِعَمُه العديدة التي أسبغها عليه في ذاته وفي مُحيطه الذي يعيشه؛ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34]، فعيْنُ الإنسان نعمةُ الله عليه وهي أمانة عنده، والأُذُن نعمة الله عليه وهي أمانة عنده، واللسان نعمة الله عليه وهو أمانة عنده، وكلُّ أعضائه ومفاصل عظامه نِعَمُ الله عليه وهي أمانات عنده كذلك، والماء والهواء نعمتان لله عليه، والأرض وما فيها، والسماء وما فيها مسخَّرةٌ للإنسان؛ ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13]، فهي نِعَمٌ لله عليه، وهي كذلك أمانة عنده، استحفظ الله الإنسانَ على كلِّ هذه النِّعم، ينتفع بها في حدود الطاعة والمنفعة؛ بأن يستعملَها فيما خُلقتْ لأجله؛ فالعين ينظر بها في صنع الله، واللسان ينطق به فيما يُرضي الله، وبذا يكون الإنسان أمينًا، وإذا شذَّ الإنسان واستعمل هذه النعم فيما يغضب الله فإنه يكون خائنًا لله.
ثانيهما: التكاليف المُنوَّه عنها في قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، قال العلماء: “الأمانة هنا: هي التكاليف الشرعية، وهي كلُّ ما كلَّفنا الله به ووكَلَه إلى نفوسنا، وبناه على خالص نيَّاتنا”.
فالعقيدة الدينية أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصوم أمانة، والحج أمانة، وغير ذلك كثير، فمن أدَّى ما ائتمنه الله عليه فهو أمين، وإلاَّ كان خائنًا، والله – تعالى – يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27]، وخيانة الله تكون بترك ما أمر به، وفعل ما نهى عنه، وخيانة الرسول تكون بإهمال تعاليمه وترك سننه، وخيانة الأمانات تكون بالتفريط فيما استُحْفِظ عليه وعدم ردِّه لأهله، أو ردِّه إليهم مَعِيبًا أو منقوصًا.
أما علاقة العبد بأخيه الإنسان، فقد تستدعي أن يُودِعَه شيئًا أو يستحفظَه سرًّا، فذلك عنده أمانة؛ فالمال أمانة، والسر أمانة، والصنعة أمانة، والوظيفة أمانة، والشركة أمانة، والحكم بين الناس أمانة، فمن أؤتمن على شيء مما ذُكِر يجب عليه أن يحفظَه ويردَّه لأهله عند طلبه، ولا يستعمله إلاَّ بإذن صاحبه، وإلاَّ كان خائنًا، ومن أؤتمن على سرٍّ، يجب أن يكتمَه ولا يُفشيه، وخاصةً بين الزوجين، وإفشاؤه خيانة؛ فقد روى مسلم عن أبي سعيد- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إن مِن شرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجلَ يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه، ثم ينشر أحدُهما سرَّ صاحبه))؛ رواه مسلم، وأبو داود، وروى أحمد عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – والرجال والنساء قعود عنده، فقال: ((لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأةً تُخبر بما فَعلتْ مع زوجها، فأَرَمَّ القوم)) – يعني: سكتوا – فقلت: إي، واللهِ يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهنَّ ليفعلْنَ، قال: ((فلا تفعلوا، فإنما مَثَلُ ذلك مَثَلُ شيطان لَقِي شيطانةً فغشيها والناس ينظرون)).
والمشورة أمانة، فإذا استشار المؤمن أخاه في أمر، يجب أن ينصح بما هو خير له؛ روى أصحاب السنن عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((المستشار مؤتمن))؛ أي: أمين على ما سُئِل فيه، وإذا لم ينصحْ فيه بما هو خير، فهو خائنٌ؛ روى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أيضًا: أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((مَن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره، فقد خان))، ومما يتنافى مع الأمانة أن يُموِّه الشخص على من يثق به ويكذب عليه ويضلله؛ روى أحمد عن سفيان بن أسيد: أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((كبُرَتْ خيانةً أن تُحدِّث أخاك حديثًا هو لك به مُصدِّق، وأنت له به كاذب)).
والشركة بين الشريكين أمانة عند كل منهما؛ روى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: أن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((يقول الله- عزَّ وجلَّ-: أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خان أحدُهما صاحبَه، خرجتُ من بينهما)).
ومَن وُلِّيَ الحكم في أُمة، أو رَضيه الناسُ حَكَمًا بين المتنازعين في أمر، فإن ذلك أمانة، يجب أن يرعاها بما يحفظ على الناس حقوقَهم وأعراضهم وأموالهم؛ قال رسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما رواه البخاري: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته؛ الأمامُ راعٍ ومسؤول عن رعيته…)) إلى آخر الحديث، وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما رواه الحاكم: ((ما من إمامٍ يُغلِق بابَه دون ذوي الحاجة والخَلَّة والمسكنة، إلاَّ أغلق الله أبوابَ السماء دون خَلَّته وحاجته ومسكنته))، وأمانة الحاكم تقتضي إسناد المناصب العامة إلى الأكفاء الأمناء المخلصين.
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – فيما رواه الحاكم عنه قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن استعمل رجلاً على عصابة من المؤمنين، وفيهم مَن هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين))، وفي حديث آخر قال: ((فعليه لعنةُ الله، لا يَقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم)).
ويعجبني جدًّا ما رواه مسلم عن أبي ذَرٍّ – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسولَ الله، ألاَ تستعملُنِي؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلاَّ مَن أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها))، وروى البخاري أنه – صلواتُ الله وسلامُه عليه – قال: ((إذا ضُيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة))، قيل: يا رسول الله، وما تضييع الأمانة؟ قال: ((أن يُوسَّد الأمر لغير أهله)).
ولقد امتدح الله – تعالى – المؤمنين بصفة الأمانة فقال: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].
فالمؤمن الحق من أؤتمن على مال فحفِظَه، أو على سرٍّ فكتَمَه، أو على عِرْضٍ فصانه، أو على حقٍّ فوفَّاه، المؤمن الحقُّ من يَرعى أمانةَ ربِّه، فلا يُهمل أمرَه، ولا يرتكب نهيه، ولا يُغيّر قولَه، ولا يُبدل شرعَه، ولاشكَّ أن مَن هذه صفته فهو عن نفسه راضٍ، والناس عنه راضون والله – تعالى – يشمله برحمته وإحسانه؛ فإنه لا يضيع أجرَ المحسنين.
-الألوكة-