الإسراء والمعراج دراسة دينية علمية
الأحد 1 شعبان 1437/ 8 ماي/آيار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
تعود ذكرى الإسراء والمعراج في السنين الأخيرة، وسط انتصارات ما يُسمى بغزو الفضاء، وآخر هذه الانتصارات نزول الإنسان على سطح القمر، ودوَران سفن الفضاء حوله، وعودتها آليًّا وبتحكُّم مقتدر من الأرض، كما تعود هذه الذكرى ومَهبط الإسراء ومَصعد المعراج إلى السماء، في أيدي أعداء الله والإنسانية من الصِّهيونيين.
وإن المرء – مهما حاوَل بعض المفكرين – إبعاد القرآن عن التعرض للمسائل العلمية – لا يستطيع أنْ يطرد عن ذِهنه ما تستدعيه أخبار ما يسمى بغزو الفضاء، من التفكير في الإسراء والمعراج، كما لا يستطيع ذلك فيما تَستدعيه ذكرى الإسراء والمعراج من التفكير في غزو الفضاء.
تداعٍ للمعاني متبادل وغير إرادي، بين ما يسمى بغزْو الفضاء، وبين الإسراء والمعراج، وقد وجه الإسلام إلى تداعٍ آخرَ متبادل – ولكنه إرادي – بين النظر في السماء، وبين التفكير في عظمة الكون وعظمة خالقه، وذلك بالندْب إلى قراءة آيات: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].
حين ينظر المرء إلى السماء من الليل، وبالندْب إلى التفكير في خلْق السموات والأرض حين قراءة هذه الآيات، وشدَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؛ إذ يقول: ((ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها)).
والتفكير في الآيات الكونية الذي وجَّه إليه الإسلام في الكتاب والسنة، إنما هو إرضاء للتطلع النفسي للتفسير والفَهم المغروس في نفوس البشر.
على أن جماعةً من المفكرين المسلمين يرون – مع علْمهم بآلية التداعي بين المعاني المتشابهة، ومع علمهم بفطرية الدافع إلى التفكير للفهْم والتفسير، ومع علْمهم بتوجيه القرآن الكريم إلى التداعي الإرادي بين الآيات القرآنية، وبين ما تُشير إليه من الآيات الكونية – هذه الجماعة ترى استبعاد تعريض القرآن الكريم للمسائل العلمية؛ ابتغاء إثبات الموافقة بينهما لخدمة العلم والإيمان، أو المخالفة بينهما لخدمة الجهل، يريد هؤلاء المفكرون أن يجعلوا التفكير للفهْم والتفسير بعيدًا تمامًا عن أي محاولة للربط بين القرآن الكريم والقوانين العلمية، ويرون أن القرآن لم يتعرَّض للمسائل العلمية صياغةً لقوانينها، أو وصفًا لظواهرها، أو حتى إشارةً إليها.
وأهم حُجج المبعدين لهذه الصِّلة بين القرآن والعلم، أن القوانين العلمية لا تُثبَت صِيَغُها على وضْع واحد، ويستدلون على ذلك بما كان قد أُثير في وقت سابق عن معنى قوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ﴾ [الحجر: 22]، من أنها تلقح الأزهار مما كان الخطأ فيه لغويًّا لا علميًّا.
وبعض هؤلاء المفكرين يَستبطن الخشية على القرآن من العلم، وقد يَحيك في نفوسهم ما يتعارض من القرآن في الظاهر مع القوانين العلمية، ولما يظهر لهم تأويله.
وبعضهم يستبطن الخشية على العلم من القرآن، وهم يضيقون – ولهم الحق – بمَن يَستند إلى ذلك التعارض الظاهري في إنكار العلم والزِّراية به، والدعوة ضده مما يتَّسم بالسذاجة والجهْل، وانعدام المسؤولية، ومما يحتجون به أيضًا: الخوف من إغراق بعض المفكرين في إخضاع الصياغات العلمية للصياغات القرآنية، وتكلُّف التشابه – بل الذاتية – بين الصياغتين في كثير من المسائل.
هذا الإغراق الذي يغري به فرط الحماس الذي تُثيره دقَّة القرآن الكريم في صياغة كثير من القوانين الاجتماعية والأخلاقية صياغاتٍ علميةً دقيقةً، ومن تعبيرات هؤلاء وأولئك أنَّ القرآن الكريم كتاب هداية، لا كتاب علمٍ.
ومن المفكرين المغرقين في ربط آيات الكتاب الحكيم بالعلم ربطًا وثيقًا:أستاذنا الشيخ طنطاوي جوهري – رحمه الله – وقراءة تفسيره الجواهر – على إمتاعها، وفتْحها لآفاق كان يجب أنْ يرتادها المسلمون – تُبرِّر الحكم على صنيعه بالإغراق، وقد كتَب كثير كتابات مُمتعة لا تنقصها الرُّوح العلمية ولا المنهج العلمي في العلاقة بين القرآن والطب، وبينه وبين علم النفْس، وبينه وبين الفلك.
ولست بصدد محاكمة الفريقين على الموقف المبدئي لكلٍّ منهما من علمية القرآن الكريم؛ لكني سأشير فقط إلى ما يخص الإسراء والمعراجمن آراء كلٍّ منهما، مع بيان ما فيه من تجاوُز.
إن القول بعلمية القرآن لا يعني لدى القائلين به أنَّ القرآن كتاب هندسة أو كتاب فلك، ولكنه يعني أن القرآن إذا تعرَّض لآية كونية أو إنسانية لغرض الهداية إلى عظمة الخالق أو إلى الصراط المستقيم في السلوك – قد تبلغ عباراته من الدقة مبلغَ الصياغات العلمية الحديثة، وقد تُشير إلى الحقائق العلمية أو تتمشى معها، ولا تصطدم بها، أو لا تضع الحوائل في طريقها، أو تُمهد الطريق للوصول إليها، ناهيك بما في القرآن من حثٍّ على العلم، وتقديرٍ للعلماء، والنعْي على إهمال النظر والتفكير والتعقُّل، وبما فيه من تأصيل للمنهج العلمي كما صاغَه العلم الحديث.
فالخطأ ليس في القول بعلمية القرآن بهذا المعنى، ولكن الخطأ في عدم اتخاذ منهج سليم لا يعرض تفسير القرآن الكريم لأنْ يتأثر بتغيير الصياغات للقوانين العلمية.
ويتلخَّص هذا المنهج في تفسير القرآن الكريم على ضوء العلم الحديث – فيما نرى – في أن ما نصل إليه ونَفهمه من القرآن الكريم، هو صياغة أو إشارة، أو عدم تعارُضٍ، أو اتساع لحقيقة علمية، ولا ندَّعي أن ما نَفهم هو مراد الله تعالى على الحقيقة، كما كان يدعي بعض الأقدمين، وكفَّر بعضهم بعضًا بسبب ذلك، فإذا تغيَّرت الصيغة العلمية، كان الخطأ في فَهْمنا لمراد الله تعالى من آياته، لا لمراد الله تعالى في ذاته.
ومتى اتُّبِع هذا المنهج، انفتَح باب من الدراسات الإسلامية العلمية؛ مما يضع الأساس السليم لانطلاقة علمية من فروض إسلامية في الكون والحياة، انطلاقة تأخَّرتْ بغير مبرر، فتأخَّرنا عن الأمم بتأخُّرها.
إن الفريق الأول يريد أن يفسر الإسراء والمعراج بعيدًا عن استصحاب أي معلومات عما اكتشَف العلم من حقائق، لا سيَّما ما يتعلق منها بما يسمى “غزو الفضاء”، ولا أدري أهذا الفريق – إذ يرفض ما يمكن أن يقال عن هذا الموضوع في عصر العلم – يمكن أن يقبل كلَّ ما قيل فيه في عصور الجهل والخرافة؟! أي أغلال يريد أن يكبِّل بها هؤلاء الفكرَ الإسلامي عن الانطلاق العلمي من مواقف إسلامية وفروض قرآنية؛ تُكمل، وتُسند، وتُغني الانطلاقَ العلمي من المواقف والفروض المستخدمة حاليًّا.
أما الفريق الثاني أو جزء منه، فيحاول عقد مقارنة ساذَجة بين الإسراء والمعراج، وبين ما يسمى بغزْو الفضاء، تحت إغراء شديد من المشابهة الظاهرة بين صعود النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء، وبين صعود سفن الفضاء إلى القمر والكواكب القريبة من الأرض، ولهؤلاء نقول: أين القمر؟ بل وأين أبعد كواكب المجموعة الشمسية (بلوتو) من ذلك الكون الواسع؟ وأيُّ فضاء ذلك الذي يتكلمون عن غزْوه؟ وما هو ذلك الغزْو؟ من المنتصر؟ ومَن المهزوم؟
يحاول البشر في القرن العشرين أن يبعدوا عن الأرض، وأنْ يخرجوا من قبضة جاذبيَّتها بما آتاهم الله من نعمة العلم بقوانينه الكونية، وقد أفلَحوا، لكن الخالق أغزى نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فضاء كونه الأعلى غزوًا حقيقيًّا، لا يقاس به ما يزعم البشر أنه غزو للفضاء، وبطريقة إذا قِيستْ بها طرق البشر، كانت قدرة البشر صفرًا، ولا يعني ذلك أن نُقلل تقليلاً ساذَجًا من القدرة البشرية الفائقة إذا قِيست اليوم بما كانت عليه بالأمس، أو إذا قِيس ما يَمتلكه منها فريق من البشر بما يَمتلكه فريق آخرُ.
إن رحلات زوند وسيوز، ومارينر، وأبوللو، لعملٌ عظيم بالنسبة لما كانت عليه قدرة البشر بالأمس القريب، أما رحلة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء، فهي معجزة لا يتطلَّع إلى عُشر معشارها أوسعُ الخيالات العلمية جموحًا، والعلم الحديث بكل اتساعه وعُمقه، لم يقدِّم إلى الآن أيَّ طريقة لتصوُّر صعود النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء.
إن تفكير المسلم ليَهدف – من ضمن ما يهدف إليه في علميات التداعي – إلى معرفة: هل التشابه بين الإسراء والمعراج وبين صعود سفن الفضاء، تَشابُه ظاهري، أم تشابُه حقيقي بمحاولة تصور الأمرين على السواء؟
ويُغري بالقول أنه تشابُه حقيقي؛ انسياقًا إلى تصيُّد ما يبدو أنه يؤيِّد وجهات نظرنا من أحداث جديدة، فلما جاءَت محاولات غزو الفضاء تلقفْناها؛ لنستدلَّ بها على صدْق واقعة الإسراء والمعراج، وهو استدلال في غير مطلبه؛ لأن واقعة الإسراء والمعراج لم تكن لتَنتظر قرابة الألف والخمسمائة عام لوقوع ما يصدقها، فالواقعة ثابتة بطرق لا يَرقى إليها الشك، ولا تبعد عن المناهج المعتمدة للاستدلال.
كما يردُّنا إلى القول بأن التشابه بين الإسراء والمعراج، تشابُه ظاهري حقائق علمية لا يمكن إغفالُها وتجدر الإشارة هنا – دون تفصيل – إلى أن الإسراء يمكن تصوُّره في ضوء الحقائق العلمية المتاحة، أمَّا المعراج، فجُد مختلف.
لما جاء الإسلام أطلَق تصور الناس عن الزمان والمكان من قيوده، إلى أوسع مدى يُمكن أن يبلغه الخيال البشري في ذلك العصر، وفي العصور التالية، حتى عصْرنا عصر الصواريخ، وقدم الإسلام التمهيد الضروري للتصور الحديث للزمان والمكان، ولقد كان فرعون يطلب صرْحًا يبلغ به أسباب السماوات؛ ليطلع إلى إله موسى؛ مما يدل على مدى التصور البشري في ذلك الوقْت لاتِّساع الكون.
وفي اتساع المكان قال القرآن الكريم: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما السموات السبْع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضْل العرش على الكرسي كفضْل تلك الفلاة على تلك الحلقة))، “السلسلة الصحيحة”، وفي اتِّساع الزمان قال القرآن الكريم: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47]، وقال: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4].
ولعل المبعدين للقرآن عن العلْم، وللعلم عن القرآن، كانوا يريدون أن يقول الباري – سبحانه -: خمسين ألف سنة نورية؛ ليعترفوا بوجود علاقة متبادلة بين القرآن والعلم.
لقد وضَع الإسلام البشر على أول الطريق؛ لتقريب اتِّساع الزمان والمكان إلى تصوُّرهم، وأوصل العقل البشري إلى المرحلة السابقة مباشرةً، والمُمهدة التمهيد الضروري للمراحل الحاليَّة والتالية في تصوُّره للزمان والمكان، وجاء الفلك الحديث فوجَد العقل البشري قد خطا أُولى الخُطوات، فخطا به خُطوات أخرى واسعات.
إن اتساع الكون قد أصبَح الآن فوق التصور؛ بحيث إن تسمية رحلات الفضاء غزوًا للفضاء، أمْر أبعد ما يكون عن الدقة العلمية، بل هو مجاز منقطع الصلة بالحقيقة.
وبغير لجوءٍ إلى الأرقام التي تصف اتِّساع الكون، والتي تُصيب بالدوار حتى عقول جبابرة علم الفلك، يمكننا أن نقول:
إن رحلات الإنسان إلى الفضاء لن تبلغ في المدى القصير، ولا في المدى البعيد جدًّا – بحسب ما أُتيح إلى الآن من الحقائق العلمية – إلا كسرًا ضئيلاً جدًّا من أبعاد الكون، ولن تصلَ رحلاته المقبلة – تبعًا لأوسع الخيالات العلمية انطلاقًا – إلى أبعد من كسر ضئيلٍ جدًّا من المسافات التي وصَلت الرياضة الفلكية إلى حسابها.
إن غزاة الفضاء الشجعان والمخططين لهم، ليس عندهم من الحقائق العلمية إلى الآن ما يمد أمَلهم إلى ارتياد أجرام أبعد من الشمس وبَنيها (الكواكب) وأحفادها (الأقمار)، أما باقي النجوم – وشمسنا واحدة منها – فهي من البُعد عنا، بحيث إن الصواريخ – حتى بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة – تعتبر وسيلةً بدائية جدًّا، وغير عملية على الإطلاق لارْتياد أفلاكها، وإذا كان التمثيل يُقرِّب المعنى، فإن المشي بسرعة النملة وسيلة متقدِّمة جدًّا لعابري القارات، وذات كفاية عالية جدًّا في هذه المهمة، إذا قِيستْ بوسيلة الصواريخ بالنسبة لغزاة الفضاء.
إن أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض، هي أفراد أسرة الشمس، وأقرب أجرامها إلى الأرض القمر، والوصول إليه بسفن الفضاء يستغرق 12 ساعة تقريبًا، إذا سار إليه الصاروخ في خطٍ مستقيم، وبسرعة منتظمة (20,000 ميل في الساعة)، وهو لا يسير إليه في الواقع لا في خطٍ مستقيم، ولا بسرعة منتظمة، ويلي القمر في البعد عن الأرض كوكب الزهرة أثناء توسُّطها بين الأرض والشمس، وبُعدها المتوسط عن الأرض يبلغ 26 مليون ميل، يَقطعها الصاروخ في خطٍ مستقيم وسرعة منتظمة في 54 يومًا تصل في الواقع إلى ما يزيد عن الأربعة أشهر، وأبعد إخوة الأرض عنها بلوتو الذي يَصل إليه الصاروخ بالشروط السابقة – الخط المستقيم والسرعة المنتظمة 000ر20 ميل في الساعة – في إحدى وعشرين سنة وربع سنة، ويصل إليه ضوء الأرض المنعكس من الشمس في خمس ساعات ونصف ساعة.
وقد ضرَب العلامة الدكتور “أحمد زكي” مثلاً لأبعاد أسرة الشمس فيما بينها، فقال: إذا كانت الشمس قرصًا قُطره أزيد من ثلاثة أرباع المتر، فإن عطارد يكون عدسة على بعد 36 مترًا من القرص، وتكون الزهرة حبة فول على بعد 67 مترًا منه، وتكون الأرض حبة فول أكبر قليلاً من الزهرة على بعد 93 مترًا، ويكون المريخ كسمسمة تبعد عن القرص 142 مترًا، ويكون المشترى كبرتقالة على بعد 482 مترًا، ويكون بلوتو حبة فول على بعد 3670 مترًا.
وبالرغم من هذه الأبعاد الشاسعة، فإن أفراد الأسرة الشمسية تبدو متلاصقةً بمقارنة أبعادها فيما بينها، وبمقارنة أبعاد النجوم بعضها عن بعض وعن المجموعة الشمسية، ولعل تلاصُق أفراد المجموعة الشمسية، هو نتيجة لشعورها بالوحدة القاسية وسط مجموعات النجوم؛ فإن أقرب مُؤنس لهذه الأسرة من غير أفرادها هو ألف قنطورس، وهو أحد نجوم كوكبة قنطورس التي تُرَى في السماء في نصف الكرة الجنوبي، وبُعده عن الشمس 4,3 سنة ضوئية، ويقول العلامة الدكتور “أحمد زكي”: إذا كانت الشمس نقطة حبر على هذه الورقة، فإن ألف قنطورس نقطة أخرى تقع منها على بُعد أربعة أميال.
إن حساب زمن الوصول إلى ألف قنطورس من أي فردٍ من أفراد أسرة الشمس بسرعة الصاروخ، لهو أمْر بالغ السخف، ولو فكَّرنا في حساب زمن الوصول إلى القمر من الأرض بسرعة السلحفاة، لكان تفكيرنا هذا أقلَّ سخفًا من التفكير في زمن وصول الصاروخ إلى ألف قنطورس؛ لأنه سيصل إليه في مائة واثنين وأربعين ألف سنة.
ومن يريد أن يعرف بُعد ألف قنطورس عن المجموعة الشمسية، فما عليه إلا أن يضرب سرعة الضوء (186,000 ميل في الثانية) في عدد الثواني الموجودة في 4,3 من السنين؛ ليجد أمامه الرقْم 25، وأمامه 12 صفرًا؛ أي: 25 مليون مليون ميل، فلو زال ألف قنطورس من الوجود، أو انطفأ فجأة، لاستغرَق آخر شعاع صدر منه 4,3 من السنين؛ كي يصل إلينا لينعي غياب هذا الجار القريب؛ مما يجعلنا نهزُّ أكتافنا قائلين: يَرحمه الله.
ومن النجوم ما يصل إلينا ضوْءُه في عشرات السنين، ومنها ما يصل في مئاتها، ومنها ما يصل في آلافها، ومنها ما يصل في ملايينها، ومبدع السموات يقول: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47].
إن تسمية رحلات الفضاء غزوًا للفضاء، تجاوزٌ نَستسيغه لإرضاء غرورنا، فإن السفن التي دارَت حول المريخ، أو حتى التي اتَّخذت مدارًا حول الشمس – لم تَقطع من مسافات الكون إلا نسبةً مماثلةً لما يقطعه المتحرِّك بمقدار سنتمتر إلى القمر، ونُكرِّر أننا لا نبخس العقل البشري خطواته الواسعة بالنسبة لما كان يتحركه من قبلُ في كشْف المجهول.
إن غزْو الفضاء وراء المستعمرة الشمسية، يتحقَّق في ظروف خاصة مستحيلة عمليًّا، مثل أن يصعد في الفضاء جماعات كبيرة من العلماء وفي سفن كبيرة تسمح بتزاوجهم وتسلسُل الأجيال فيهم، ويكون من نصيب الجيل المكمل للخمسة آلاف من جيل بَدْء الرحلة، الوصول إلى كوكب من كواكب ألف قنطورس إذا كان له كواكب؛ لأن ألف قنطورس مُلتهب، والقرب منه فوق حدٍّ محدود يكفي لاحتراق أي مادة نعرفها على الأرض، وتحويلها إلى بخارٍ، وقد يتيسَّر مثل هذا المشروع لو أخذنا الأرض نفسَها كسفينة فضاء، وسِرنا بها في اتجاه النجوم!
ومن أحلام العلماء في النوم أو في اليقظة، أن يرسل الإنسان أو غيره رسالة – كرسالة لاسلكية – بأن يوضع في جهاز إرسال لاسلكي؛ ليُفتته إلى بروتونات وإلكترونات، بل جسيمات منها، ثم يستقبله جهاز آخر، يَجمع هذه الجسيمات مرةً أخرى على الهيئة التي وُضِع بها في جهاز الإرسال، ويا ويل هذا الطرد إذا لم تَنضبط له المحطتان انضباطًا تامًّا؛ لأن تفرُّقه إذًا لن ينتهي أبدًا إلى اجتماع.
وإذا نجح البشر في صُنع الجهازين، وإذا نجحوا في وضْع جهاز الاستقبال في مكانه بطريقة السفر الجماعي بعد آلاف الأجيال، فإن الموجات المرسلة من جهاز الإرسال، قد تحتاج إلى عشرات السنين، بل إلى آلافها، بل إلى ملايينها؛ للوصول بالطرد الآدمي اللاسلكي إلى بعض النجوم إن طالَ به العمر.
وهنا يستيقظ العالم مذعورًا ليقول: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [غافر: 57]، وصدق الله العظيم.
هذا، والإسراء والمعراج رحلتان متمايزتان، لم يُتح التمييز الدقيق بينهما إلا في العصر الحديث، وبفضْل العلم الحديث وما حقَّق للبشرية من معجزات؛ فرحلة الإسراء رحلة أرضية أرضية، وبتعبير حربيٍ رحلة من الأرض للأرض، أما رحلة المعراج، فرحلة سماوية بكلِّ معنى لكلمة سماوية.
وإذا كانت سرعة الصواريخ قد قرَّبت لنا تصوُّر كيف سارتْ رحلة الإسراء، فإن سرعة هذه الصواريخ لن تساعد على أن نتصوَّر كيف سارت رحلة المعراج، وحتى سرعة الموجات اللاسلكية، لن تساعد على تقريب هذا التصور.
ويبقى على المتكلمين في علمية القرآن بمنهج وبغير منهج، ألا يُحملوا الإسراء والمعراج عبْءَ الدلالة على علمية القرآن، إلا بالقدر الذي أشرْتُ إليه في رحلة الإسراء.
وإذا تداعت معاني السفر بين الأجرام السماوية حين يذكر الإسراء والمعراج، أو تداعتْ معاني الإسراء والمعراج حين يُذكر السفر بين الأجرام السماوية تداعيًا آليًّا، أو بتوجيه من القرآن الكريم والحديث الشريف – فإن ألَحَّ أنواع هذا التداعي لهو وجود مَهبط الإسراء ومصعد المعراج في أيدي أعدائنا وأعداء الله، وأعداء الإنسانيَّة.
إن مصيبة الإسلام باحتلال الصِّهيونيين لبيت المقدس، لهو من العِظَم والفداحة، بحيث نجد أنفسنا منساقين إلى وصْفه بالتاقيت، وإلى قياس هذا الاحتلال على احتلال الصليبيين له في القرنين السادس والسابع الهجري، ذلك الاحتلال الذي انتهى بالجلاء حين توحَّد العرب، وذلك الأمل لا يرجع عندنا كما يَعتقد الصهاينة إلى قدر غيبي، بل هو نابع من تصميمٍ على العلم؛ لإزاحة هذا الكابوس بجِدٍّ لا يَعرف الهزْل، وعملٍ لا يَعتريه المَلل.
وإذا كانت مؤتمرات القمة وغيرها من المؤتمرات الإسلامية، تتمخَّض عن مواقف متخاذلة فرضَتها عواملُ لا حصْر لها، فإن هذه المواقف قد وضَعت المسلمين أمام عوامل تفرُّقهم وضَعْفهم، ودلَّت على ما يجب أن يُلتمسَ لها من علاج، فضْلاً عن أنها بيَّنت للذين يُعلِّقون على التجمع الإسلامي الآمالَ، أنه لا يزال أمامهم عملٌ كبير للتخلص من أسباب تخلُّفهم الديني والدنيوي.
وإن التعلل بأن الله لا يرضى لبيت المقدس أن يظلَّ في أيدي الصهاينة، وتحميل آيات سورة الإسراء ما لا تحتمل من الاتِّكالية الخرْقاء – لهو صيغة أخرى لقول الصهاينة لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24].
إنه لن يظهر أبدًا للعالم غير المسلم، ما إذا كان ربُّنا راضيًا عن ذلك الاحتلال، أو غير راضٍ، إلا إذا غيرنا بأيدينا الوضْع؛ لتَصْدُق كلمة الله في سورة الإسراء: ﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾ [الإسراء: 8]؛ أي: إن عُدتم إلى الإفساد بعد المرتين المذكورتين في الآيات السابقة، عُدنا عليكم بالإذلال.
وإن حتميَّة أن يغلب مائة مليون عربي المليونين من الصِّهيونيين، لا ترجع إلى كونهم مائة مليون في العدد، فإن في ذلك مدًّا آليًّا في حبال الاستعداد، وتمهيدًا ذهنيًّا للتكاسل، ولكن هذه الحتمية ترجع إلى كونهم مائة مليون يعملون إمكاناتهم المتاحة بكفاءة، ويحصلون من الإمكانات الأخرى بوعي بالزمن، وبأبعاد المعركة، وبسرعة العصر.
لقد كان تضييق تصوُّر وسائل النصر، وحصْرها في الاستعداد العسكري والكثرة العددية – هو سمة الاستعداد السابق على 5 يونيه سنة 1967، ومن الدروس التي يجب أن تُستفاد من النكسة: ألا نقصر استعدادنا على هاتين الناحيتين فحسْب، بل لا بدَّ من أن يشملَ الاستعداد التعبئة العلمية والخُلقية التي تتمثل في النظام، وتقدير العلم، والإخلاص في العلم، وبذْل الجهد في الإنتاج، ومحاربة الانحلال والتخلُّف، والثقة في القادة، واصطناع المنهج العلمي في حياتنا.
بَقِيت في هذه الدراسة كلمة:
إن ذكْر الإسراء في مطلع الآيات التي تحكي أكبر مرتين أفسَد فيهما اليهود في العالم، ليُشبه أن يكون إشارةً إلى أن ثمة علاقة ما بين المسجد الأقصى وبين إفساد اليهود في الأرض، يمكن أن نستنتج منها أن احتلال المسجد الأقصى سيكون أشدَّ مظاهر عودهم للإفساد، وأقوى دواعي عود الله عليهم بالقهْر والإذلال؛ إذ يقول – جل وعلا -: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: 8]، ولا أعني بهذا إلا أن عودة الله عليهم بالقهر، لن تكون إلا بأيدينا وأخلاقنا، وعقولنا وعلْمنا.
الألوكة