الإسلام يهدم ما كان قبله

الأحد 22محرم 1438 الموافق 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.

الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح

الإسلام يهدم ما كان قبله

عَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ. فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللّهِ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللّهِ بِكَذَا؟ قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّهُ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّهِ. إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ. لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضا لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي. وَلاَ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ. فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَلَمَّا جَعَلَ الله الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: “مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟” قَالَ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: “تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟” قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: “أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ”؟ وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ. وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَملأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ. وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ. وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ وَلِينَا أشياء مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ، فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا. ثُمَّ أَقِيْمُوا حَوْلَ قَبْرِيْ قَدْرَ مَا تُنْحَرَ جَزُورٌ، وَيُقْسَمَ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُم، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعَ بِهِ رُسُلَ رَبِّي. رواه مسلم.

ترجمة راوي الحديث:

هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد القرشي السهمي، يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبو محمد، أسلم عام خيبر، وقيل أسلم عند النجاشي وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل كان إسلامه في صفر سنة ثمان قبل الفتح بستة أشهر، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرا على سرية إلى ذات السلاسل إلى أخوال أبيه العاصي بن وائل، واستعمله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على عُمان، فلم يزل عليها إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من شجعان العرب وأبطالهم ودهاتهم، فهو داهية العرب رأيا وعقلا ولسانا وكان عمر بن الخطاب إذا كلم رجلا فلم يفهم كلامه قال: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص، ولي مصر عشر سنين وثلاثة أشهر، وكان موته بمصر ليلة عيد الفطر فصلى عليه ابنه عبد الله، ودفن بالمقطم، ثم صلَّى العيد سنة 43 هـ – رضي الله عنه – وعن أبيه وأرضاهما. [انظر أسد الغابة (4 /244، 248)، وفتح المنعم ( 1 /396)].

اقرأ أيضا  الإسلام دين الرَّحمة

وأما ابن شماسة فهو عبد الرحمن بن شماسة بن ذُؤيب، أبو عمرو الأنصاري تابعي ثقة.

تخريج الحديث:

الحديث أخرجه مسلم حديث (121)، وانفرد به.

شرح ألفاظ الحديث:

  • (وهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ): بكسر السين أي في حال حضور الموت.
    • (فَبَكَىٰ طَوِيلاً): أي خوفا من الله تعالى.
    • (فَجَعَلَ ابْنُهُ): هو عبد الله بن عمرو الصحابي الجليل وتقدمت ترجمته في الحديث الثالث والعشرين من كتاب الإيمان.
    • (إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّهُ): أي أفضل عمل نتخذه عدة للقاء الله الشهادتان وما تتضمناه من إيمان بالله وحده وتصديق لرسوله صلى الله عليه وسلم والنطق بهما، ومعلوم أن أفضل الأعمال الإيمان بالله كما تقدم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    • (كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ): الطبق: الحال ومنه قوله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ [الانشقاق: 19] أي حالا بعد حال، والمعنى كانت حياتي على أحوال ثلاث.
    • (أَنْ يُغْفَرَ لِي): أي أشترط مغفرة ذنوبي السابقة إن أسلمت.
    • (الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ): الهدم هو إسقاط البناء وإزالته، والمراد أن الإسلام يسقط المؤاخذة على الذنوب السابقة.
    • (ثُمَّ وَلِينَا أشياء): بفتح الواو وكسر اللام مع تخفيفها، ويقصد بذلك توليته على مصر وما بعدها من أمور السياسة وماله الخاص الكثير الذي مات عنه.
    • (فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ): في الجاهلية وعند العرب كانت النساء يتبعن الجنائز فينحن أي يبكين ويحملون النار والمشاعل مع الجنازة، فنهى عمرو عن ذلك احتياطا من أن تفعل امرأة ذلك.
    • (فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنّا): أي صبوا التراب علي بسهولة صبّاً.
    • (قَدْرَ مَا تُنْحَرَ جَزُورٌ): الجزور البعير، أي أقيموا بمقدار الوقت الذي يأخذه نحر جزور وقسم لحمها.

فوائد الحديث:

الفائدة الأولى: الحديث دليل على استحباب تنبيه المحتضر على جانب إحسان الظن بالله، وذكر ما يقوي جانب الرجاء فيه وذلك بتذكيره بسعة رحمة الله وتذكيره بصالح عمله كما فعل ابن عمرو مع أبيه، وهو فعل السلف من الصحابة والتابعين ولذا اختار العلماء تغليب جانب الرجاء عند الموت، وفي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم:” لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله”.

اقرأ أيضا  الإرهاب صناعة صهيوأمريكية

الفائدة الثانية: الحديث فيه بيان ما كان عليه الصحابة من خشية وخوف.

الفائدة الثالثة: الحديث فيه فضل الشهادتين، وإنها أعظم الأعمال تدخر ليوم القيامة ولذا جاء في فضلها أحاديث كثيرة لاسيما في مقام الاحتضار، ومن ذلك حديث معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم:” من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة” رواه أبو داود، وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” لقنوا موتاكم لا إله إلا الله” رواه مسلم.

الفائدة الرابعة: الحديث دليل على فضل الإسلام وعظمته فإنه يهدم ما قبله من آثام الجاهلية، وهو الموافق لقوله تعالى: ﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ والحديث السابق وفيه:” مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِسْلاَمِ فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا ” أي بما عمل في الجاهلية، والنصوص في معنى هذا كثيرة.

الفائدة الخامسة: الحديث دليل على فضل الهجرة والحج وأنهما يهدمان ما قبلهما أيضا، والصواب أنهما يهدمان الصغائر والكبائر وإلا لم يكن لذكرهما فائدة فهدم الصغائر ليس مقصورا عليهما، وقرنهما بالإسلام دليل على أن الهدم معناه واحد في الجميع، وسيأتي بيان تكفير الحج المبرور حتى للكبائر في كتاب الحج تحت حديث: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” متفق عليه.

الفائدة السادسة: يؤخذ من تقسيم عمرو بن العاص – رضي الله عنه – لحياته إلى أحوال ثلاث بيان ما في جوف العبد للنبي صلى الله عليه وسلم تبعا للحياة التي هو فيها.

ففي المرحلة الأولى حياة الكفر بيان ما في جوف الكافر من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهيته وتمني قتله.
وفي المرحلة الثانية: حياة الإسلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما في أجواف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوقير والحب والإجلال والإكرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذلك لما كتب الله له الهداية وأسلم وفي هذا دلالة على أن الهداية بيد الله تعالى.

اقرأ أيضا  الأزهر: هناك كراهية دفينة للإسلام بالغرب وأفريقيا

الفائدة السابعة: الحديث دليل على شدة محاسبة الصحابة رضي الله عنهم لأنفسهم لقوله: “ثُمَّ وَلِينَا أشياء مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا ” وهي المرحلة الثالثة من حياته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الثامنة: الحديث دليل على استحباب الوصية والتنبيه على المخالفات الشرعية التي يتوقع حصولها كالنياحة ومصاحبة النار للجنازة، وهكذا المؤمن في وصيته يضمنها ما يتوقع حصوله من بدع وشركيات ومناهٍ، وفي هذا حرص على إنكار المنكر إلى آخر الحياة كما فعل عمرو – رضي الله عنه – وأرضاه.

الفائدة التاسعة: استدل بحديث الباب من قال باستحباب البقاء عند قبر الميت والدعاء له بقدر وقت نحر الجزور وقسمة لحمها وهو قول الشافعي، وزاد بعضهم قراءة القرآن، والقول الثاني وهو الأظهر والله أعلم أنه ليس بسنة وإنما هو اجتهاد من عمرو بن العاص رضي الله عنه يعارضه فعل النبي – صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان بن عفان قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: “استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل” رواه أبو داود.

قال شيخنا ابن عثيمين: “فالذي يظهر أن هذا من اجتهاد عمرو رضي الله عنه، واتباع السنة أولى، وهو أن نفعل ما أمرنا به رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: نقف على القبر ونقول: اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، ندعو ثلاثا، لأن الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وسلم -كان إذا دعا دعا ثلاثاً”. [انظر التعليق على صحيح مسلم (1 /393)].

الفائدة العاشرة: الحيث دليل على إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وأن الميت يحيا في القبر لقوله: “وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعَ بِهِ رُسُلَ رَبِّي”.

مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)

الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.