الإفادة من عبر الماضي.. مقومات نجاح الدعاة

الخميس،12 رجب 1436//30 أبريل/نيسان 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
محمد يوسف الجاهوش
لكي يضمن الداعيةُ نجاحاً وتفوقاً في الدعوة، لابد أن يكون ملمًّا بوسائل التربية والتوجيه، والعوامل المؤثرة في نفوس المخاطبين وقلوبهم.
إذ إن المعرفة تجعله يحيا واقعَ الناس ومعاناتَهم، فيبصر -عن قرب- همومَهم واهتماماتِهم، ويستطيع تقدير تصرفاتهم ورغباتهم، وتوجيهها -من ثمة- الوجهةَ السليمة الصحيحة، كما يفعل الطبيب الحاذق، إذ يحرص على الإحاطة بأبعاد الداء وأسبابه، وكل ما يتعلق به، فإذا ما تم له ذلك كان وصفُ العلاج يسيراً، وتأثيره أكيداً.
ولقد كان لسلفنا الصالح -رضي الله عنهم- القِدْحُ المعلَّى، والنصيب الأوفر في فقه النفوس، وتشخيص عللها وأمراضها، ووصف العلاج الناجع لها، مهما تعددت وتنوعت، يعرف ذلك من عايش سيرتهم، وأدرك كيف تعاملوا مع الحياة، وماذا قدموا لأهلها.
ومن الشواهد على ذلك: ما يحكيه لنا علم من أعلام السابقين الأولين، سابع سبعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنه عتبة بن غزوان -رضي الله عنه-.
روى الإمام مسلم في صحيحه: أن عتبة بن غزوان خطب الناس، فكان مما قال: أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصَُرْم، وقد ولّت حَذَّاء[1]، ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبُها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه ذُكِرَ لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيـها سبعين خريفاً، ما يدرك لها قعراً!
والله لتُمْلأنَّه! أفعجبتم؟ والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم كظيظ من الزحام.
ولقد رأيتُني وأنا سابعُ سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قَرِحَت أشداقُنا منه. وإني التقطت بردة فشققتُها بيني وبين سعد بن مالك فاتَّزر بنصفها، واتزرتُ بنصفها، فما منا أحد اليوم حيّاً إلا أصبح أمير مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً، وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت، حتى يكون عاقبتها مُلكاً، وستبلون، وستُجربون الأمراءَ بعدنا)[2].
إنه لتوجيه حكيم من مُرَبٍّ نبيه، أدرك -بسلامة حسه وصفاء قلبه- واقعَ الناس، وأن النفوس تطمح إلى المزيد من زهرة الحياة الدنيا، وأن الرغبات تنجذب نحوها، والناس يبنون قصوراً شاهقات من الآمال في اقتنائها، والتمتع بها، ويرسُمون مستقبل حياتهم على ضوء ما يؤملون، هذه حقيقة يدركها من يعايش الناس ويخالطهم.
وإنه لداء قديم حديث، لا يفلت منه إلا من رحم الله (وقليل ما هم)، ولا علاج لهذا الداء إلا بتقرير حقيقته، وتقريبها إلى الأفهام، حتى لكأنها رأي عين، وسمع أذن.
ولقد أجاد الصحابي الجليل عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- وأفاد عندما بين لنا أن الدنيا قد دنت شمسُها من المغيب، وآذن نجمُها بالأفول، وما يُرَى من زينتها إنما هو متاع قليل، وإنه لأقل وأحقر من أن تصرف في تحصيله الأوقات، فضلاً عن إفناء الأعمار.
ثم هب أن باغي الدنيا نال منها مناه، فماذا عساه يصنع، وهي دار زوال، لا بقاء فيها ولا استقرار!
إنه لعجز بذوي الهمم العالية: أن يكون غاية همهم متاعاً زائلاً، ونعيماً متحولاَ.
الآخرة هي دار القرار:
لا يماري عاقل أن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار، إنها حقيقة إيمانية، عقدية، أثبتها الوحي، وبينها الرسل، وجلاها القرآن أوضح جلاء وأتمه: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39].
وانطلاقاً من هذه الحقيقة الإيمانية يستطيعُ الداعيةُ توجيهَ القلوب إلى معالي الأمور وتبصير الناس بأخطار إعراضهم عن هذه الحقيقة أو نسيانها، وما يجره انشغالُهم عنها من خسارة يجدون غِبَّها {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].
فالعاقل يحرص أن يتزود خيرَ زاد وأفضلَه، ليَقْدَم منزلَه الجديد هادئَ النفس مطمئنَّ البال، وليس مِنْ زادٍ يعدلُ التقوى أو يضاهيها {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
الترغيب والترهيب:
إن أسلوب الترغيب والترهيب من الأساليب التربوية المؤثرة في تهذيب النفوس، وصقل القلوب، وترسيخ معالم الإيمان، وحسبنا: أنه أسلوب القرآن الكريم في بناء الشخصية الإيمانية، وصياغتها الصياغة الربانية.
ومن يتلو القرآن يجدُ بين دفتيه مصداقَ ما نقول، فقد جاءت الآيات تترى تحذر من العقاب وسوء الحساب، وتبين عاقبة الإعراض عن منهج الله -عز وجل-.
كما يجد آيات الترغيب في الخير والبر، والتشويق إلى الطاعة والإيمان، وبيان عقبى المؤمنين، وما أعد الله تعالى لهم من الكرامة {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35].
وغير هذا كثير، وكثير جداً.
فالمربي الناجح يحرص على الإفادة من هذا المنهج الرباني ولا يحيد عنه، وقد رأينا كيف أن الصحابي الجليل عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- سلك مسلك القرآن، وبيَّن لجمهوره من صفة النار ما تنخلعُ منه القلوب، وتقشعرُّ من هوله الجلود (لقد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم، فيهوي فيها سبعين خريفًا لا يدرك لها قعرًا).
وذكر من صفة الجنة ما يحدو الأرواح إلى بلاد الأفراح، ويجعل أهلَ الإيمان يحثون الخطى، مستبشرين بنعمة الله وفضله، طامعين في جزيل ثوابه وأجره.
عبرة الماضي:
إن إفادة الإنسان العبرَ من ماضيه يدل على فطنته وحصافته، وهو علامة على توفيق الله –تعالى- له، لا سيما من أكرمه الله –تعالى- بالهداية بعد ضلال، أو أسبغ عليه النعمة بعد فاقة وحرمان، فما أحراه بشكر النعمة، وأداء ما وجب من حقوقها، واتخاذها مطية للخير، بعيداً عن الأشر والبطر.
ولطالما أكثر الصحابة -رضي الله عنهم- من ذكر ما كانوا عليه في الجاهلية، وما آلت إليه أمورهم بعد أن منّ الله –تعالى- عليهم بالإيمان (ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا منه).
هذا ما يقوله عتبة بن غزوان، وهو قائد جيش، وأمير ولاية من أخصب بقاع الدولة الإسلامية -آنذاك- وأكثرها ثراء.
لم تمنعه النعمةُ من التحدث عن الماضي، ذاكراً لنعم الله -تعالى-، موبخاً لنفسه، كي تطامن، فلا تزهو بما هي فيه، ولا تتعاظم، فإن العظيم من علت منزلته، وعظمت مكانته عند خالقه، وما سوى ذلك فمظاهر جوفاء، لا يبالي الله –تعالى- بأصحابها أنى هلكوا.
تبدل الأحوال:
إن سنة التغيير ماضية -في حياة الأفراد والأمم- إلى يوم القيامة {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
فمن رام دوام الحال فقد رام محالاً، وأمل ما لا يدرك (فإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى تكون عاقبتها ملكاً).
فمن ابتُلِي فليصبر، ومن جرت رياحُه بما يشتهي فليغتنم صفو الحياة، وليحسن اقتناص الفرص فيما يبيض وجهه، ويثقل ميزانه، وليكن من مفاجآتها على حذر، فإن الريح عادتها السكون، ومما وجد مكتوباً بالذهب في ذخائر ذي القرنين:
إذا هبَت رياحك فاغتنمها فإن الريح عادتها السكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حذاء: مسرعة.
[2] صحيح مسلم، رقم 2967، في الزهد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– الألوكة

اقرأ أيضا  المقاطعة هي الحل !
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.