الاجتماع ونبذ الفرقة
الأحد 16 ربيع الأول 1437//27 ديسمبر /كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين.
إن من أسس الدين الإسلامي الذي رضيه الله تعالى لعباده، الدعوة إلى الاجتماع ونبذ التفرق، وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية معظمةً لشأن الجماعة ومحذرة من الفرقة، فقال عز وجل: “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم”. سورة آل عمران: 103- 105. وقال تعالى ناهياً عن التنازع: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”. سورة الأنفال: 46. وبين سبحانه أن من أعظم الرزايا تفريق كلمة المسلمين، فقال جل وعلا: “ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزبٍ بما لديهم فرحون”. سورة الروم: 31، 32.
ولقد ثبت عن رسولنا (الأمر بلزوم جماعة المسلمين: “عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة” أخرجه الترمذي، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: “يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تحبون في الفرقة”. أخرجه الطبراني والحاكم. وقد نص ابن تيمية على أن: “الواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة، والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها”.
ولا أدل على تعظيم الشريعة الإسلامية لأمر الاجتماع ونبذ التحزب: أن علماء السلف كرهوا للمصلي إعادة الصلاة إذا صلاها خلف الفاجر، ولم يعدها الصحابة رضوان الله عليهم إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ونص بعض السلف على أن من أعادها فهو مبتدع.
هذا في تعظيم أمر الجماعة والتحذير من الفرقة؛ فكيف إذا اقترن التفرق باستحلال الدماء المعصومة، والغدر والخيانة؛ إذ جاء الوعيد على ذلك كما في قوله سبحانه: “ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً”. سورة النساء: 93. وقال :”لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة”. متفق عليه.
ومن تأمل سيرة الرسول (في معاملته للخلق، من لين الجانب والسماحة، وتركه كل ما فيه تنفير، حتى إنه كان يترك الأكمل ويفعل ما دونه خشية التفرق؛ فقد ثبت عنه قوله لعائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم” متفق عليه؛ حرصاً منه على تأليف القلوب، فمن تأمل هذا وغيره عرف أن من أهم قواعد الدين: السعي في هداية الخلق، وجمع كلمتهم، وهذا من أعظم المعروف، وإهداره من أعظم المنكر.
ويزداد الأسى؛ حين يستحل الدم الحرام، ويستباح هدم بيوت الله لدى تلك الجماعات والتنظيمات التي اتخذت التكفير منهجاً والإجرام سلوكاً، فما أشد بؤس تلك النفوس التي أخلدت إلى الأرض وخالفت شريعة الإسلام، وانتهكت الحرمات، وفارقت الجماعة، وهجرت سنة رسول الرحمة، الذي نهى عن إيذاء الحيوان؛ فضلاً عن إزهاق روح الإنسان.
وتطبيقاً لذلك؛ استوعب المجتمع الإسلامي تنوع المذاهب والأفكار باعتبارها سمة من سمات المجتمعات الإنسانية، ولنا في رسولنا (أسوة، فقد ترك نصارى الجزيرة العربية) على دينهم، وأعطاهم ذمة الله تعالى ورسوله على دمائهم وأموالهم وحقوقهم؛ بل إنه لما أشرقت شمس الإسلام على البشرية وشرع رسولنا (في تأسيس الدولة، بادر بوضع أسس العلاقة بين مكونات مجتمع المدينة المنورة الذي يتسم بالتنوع القبلي والديني، فآخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب ميثاقاً ينظم العلاقة بين مكونات المجتمع من مسلمين وغيرهم؛ بما يحفظ حقوق الجميع، فوسعت الدولة في عهده عليه الصلاة والسلام هذا التنوع في الإطار العام للمجتمع الإسلامي حتى تلك الطوائف التي لم تدخل في الإسلام.
وفي هذا يؤكد ابن القيم أن: “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت إراداتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا إذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لابد منه في النشأة الإنسانية”.
وعلى هذا، جاء الوعيد لمن حارب هذه الإرادة الكونية في التنوع والتباين في إطار قواعد الشرع ومبادئ المجتمع الإسلامي، ومن ذلك قوله: “من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا” أخرجه البخاري.
فلم يبق مجال للشك في انحراف الجماعات التي رفضت الإرادة الكونية ولم تدرك الحكمة منها، وقدمت فهمها الخاطئ على أنه الإسلام، فأساءت إلى المسلمين الذين لم يكن الاعتداء على المسالمين لهم خلقاً، وإن رسائله (إلى الملوك والقادة في عهده تثبت مسالمته لغير المحاربين، ومن استجاب من المحاربين كذلك، ومنها: رسالته عليه الصلاة والسلام إلى (المقوقس) عظيم القبط، وأظهر من ذلك صبره (على أذى المنافقين حين طعنوا في عرضه، وافترى عليه ذو الخويصرة فرماه بالظلم، ومع ذلك لم يأذن عليه الصلاة والسلام بقتلهما؛ لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وبذلك اجتمع شمل الأمة، ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ لأنهم رأوا رحمة الفاتحين، وحلم الحاكمين.
وبهذا المنهج الإسلامي العظيم، وعلى هذا النحو من التعايش للمسلمين مع غيرهم، تجلت عالمية الدعوة: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم”. سورة هود: 118،119.
وفي العهد الراشدي وما بعده ظهرت فرق شطحت في الاعتقاد وتأولت القرآن على غير وجهه، فلم يكن ذلك سبباً لتكفيرهم واستحلال دمائهم؛ ما لم يخرجوا بالسيف. وهذا ما قرره العلماء كشيخ الإسلام من أنه: “لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة.. وإذا كان هؤلاء (الخوارج) الذين ثبت ضلالهم لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق؟! فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة. فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب؛ فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة.. وأصل قول الخوارج: أنهم يكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنباً ما ليس بذنب، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب – وإن كانت متواترة – ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي فيهم: “يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان”.. وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفارا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالاً من مدائن المشركين”.
فهذه الجماعات تقولوا على الله ورسوله ما لم يقولوه، وظنوا أنهم أقدر فهمًا لنصوص الشرع من الصحابة، يقول شيخ الإسلام: “فهؤلاء أصل ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون.. ثم يعدون ما يرون أنه ظلم كفراً، ثم يرتبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها”.
فلم يدركوا بأن الشريعة مبنية على مراعاة مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة وحكمة، وأنها -كما قرر العلماء – جاءت بتحصيل المصالح وتقليل المفاسد، وترجيح خير الخيرين ودفع شر الشرين، ورفع الحرج والمشقة، ومن أعظم مقاصدها المحافظة على الكليات الخمس؛ وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
وبتتبع ما جاء عن رسول الله (من الحث على حسن الخلق وذم سيئه، ومقارنة ذلك بأخلاق القوم، يظهر بجلاء عظم المفارقة وفقد الاقتداء؛ حتى إن هؤلاء المارقين قد استحلوا دماء والديهم وأرحامهم! “فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم”. سورة محمد: 22، 23. وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: “إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وألطفهم بأهله”.
أما الخوارج ومن تبعهم؛ فإن دينهم المعظم مفارقة جماعة المسلمين واستحلال دمائهم؛ فقد خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم، ولهذا فسر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيهم هذه الآية: “والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار:. سورة الرعد: 25. فديدنهم تتبع المتشابه من القرآن وتأويله على غير مقصده من غير معرفة بمعناه ولا رسوخ في العلم؛ ولذلك وصفهم رسول الله بأنهم: “حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام”، دلالةً على ضعف عقولهم.
وقد دأب هؤلاء الخارجون على الشريعة باستهداف بلاد الإسلام، فهم كما أخبر عنهم النبي ((يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، فأي امرئ متجرد للحق يمكن أن يصدق انطلاقهم من قواعد الإسلام؛ فضلاً عن أن يكونوا مدافعين عنه! بل إن الإسلام لم يؤت إلا من أفعالهم؛ صاروا حرباً على الإسلام وأهله، وعوناً للأعداء المتربصين به، وأداة طيعة في يد من أراد شراً بالمسلمين.
ولهذا؛ فلا غرابة أن تكون المملكة العربية السعودية مقصداً لشرهم؛ فلقد كانت منذ أوائل نشأتها سائرة بثبات على نهج السلف البعيد عن الابتداع والتكفير، وإن كان الأعداء يسعون جاهدين لرميها بالتهم جزافاً، وفي هذا يقول الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: “أما القول إنا نكفر بالعموم، فذلك بهتان الأعداء يصدون به عن الدين، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم”، فهي الدولة التي ناصرت تلك الدعوة، وهي الدولة التي أنعم الله تعالى عليها بإقامة شعائر الإسلام، وتطبيق الكتاب والسنة وتحكيمهما قولاً وعملاً، ورعاية الحرمين الشريفين وخدمة الحجاج والمعتمرين، ومراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد جاء النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر الملكي رقم أ/90 وتاريخ 27/8/1412ه، معبراً – بلفظ محكم ومعنى واضح – عن مصالح الأمة الإسلامية، ومستوعباً لمكونات المجتمع، ومحافظاً على قواعد الشريعة، فقضى بأن دستور المملكة العربية السعودية كتاب الله وسنة رسوله، (وأنهما الحاكمان على جميع أنظمة الدولة، كما فرض النظام حماية الدولة للعقيدة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وعد النظام إعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما، وتوفير الأمن والرعاية لقاصديهما التزاماً وواجباً، كما أكد النظام على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة.
وهذا التأسيس الشرعي، صاحبه تأكيد مستمر من قادة هذه البلاد المباركة على تلك المرجعية، يقول الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود –رحمه الله-: “أنا أدعو لدين الإسلام، ولنشره بين الأقوام، وأنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله، وسنة رسوله”. وقد سار على هذا النهج من خلفه من الملوك رحمهم الله تعالى، كما تعددت كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز –حفظه الله- المتضمنة التأكيد على الثبات في تطبيق الشريعة، ومن ذلك قوله: “إن من يعتقد أن الكتاب والسنة عائق للتطور أو التقدم فهو لم يقرأ القرآن، أو لم يفهم القرآن”. وكثيراً ما يلفت العلماء النظر إلى تمسك المملكة بمنهج الشرع، يقول العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ –رحمه الله-:”حكومتنا بحمد الله شرعية، دستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”، ويقول العلامة ابن باز –رحمه الله-:”المملكة العربية السعودية حكاماً وعلماء يهمهم أمر المسلمين في العالم كله، ويحرصون على نشر الإسلام في ربوع الدنيا لتنعم بما تنعم به هذه البلاد”. وفي تطبيقات القضاء في المملكة ما يثبت لكل ذي بصيرة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وأنها بقواعدها ومبادئها مرجع الدولة.
ولا ريب أن من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور الأفكار المنحرفة والجماعات الضالة في وقتنا الحاضر، سعي العديد من الدول والجهات المعادية للإسلام إلى دعم تلك الجماعات والتنظيمات واحتضانها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومحاولة إظهارها وكأنها حريصة على الإسلام؛ مستغلة خيانة المنتمين لتلك التنظيمات وسذاجة اتباعهم؛ فكان مدخل ضلالاتهم هو طريق الغلو دون علم أو بصيرة واتباع الهوى، كما هو قوله تعالى: “قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قومٍ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ” سورة المائدة: 77.
فهؤلاء الغلاة المارقون أبوا إلا ارتكاب الموبقات التي شوهت صورة الإسلام، وصدت كثيرين عن الانقياد له؛ فكانوا بذلك فتنة للذين ظلموا، وعذاباً على الذين آمنوا؛ فلا أشد لؤماً منهم؛ إذ اتخذوا الغدر الذي حذر منه رسول الله (حتى مع المحاربين المشركين، سبيلاً لهم وسمة لأفعالهم، فغدروا بالركع السجود الآمنين!).
وبعد؛ يرد تساؤل ملح: لماذا تستهدف (داعش) وأتباعها بلاد المسلمين والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص؟! وهل يستطيع منصف إلا أن يقر برعاية المملكة لشعائر الإسلام، وأنها الدولة التي تأخذ بمنهاج الشريعة قولاً وعملاً، وتحمي العقيدة الصافية، وتسعى في نشر الدعوة الإسلامية؛ بما في ذلك الاجتهاد في طباعة كتاب الله تعالى، وترجمة معانيه، ودعم إنشاء المراكز الإسلامية، وإيفاد الدعاة والعلماء إلى شتى بقاع الأرض؛ فهل استهداف المملكة بعد ذلك يمكن أن يصدر ممن يريد خيراً بالإسلام، أم أنه شوكة في يد الأعداء لهدم بيوت الله وإحراق المصاحف وقتل المصلين ومحاولة إضعاف بلاد المسلمين؟!.
ولذلك، فلا غرو أنه بات في حكم اليقين عند عموم المسلمين أن الاعتداءات الآثمة على المسلمين والمساجد في المملكة، لم تصدر ممن يلقي بالاً لحكم الشرع في تصرفاته وأفعاله، وأن المنفذ جاهل مخذول منقاد لهواه ومعول هدم في يد أعداء الملة؛ فكيف يتصور تفجير المساجد وحرق المصاحف وقتل المصلين إلا من أشرار الخلق وأبعدهم عن الدين “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خآئفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم”. وثبت عن رسول الله (قوله: “لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً” أخرجه البخاري.
وفي هذا الصدد، يجدر لطالب الحق أن يمعن النظر ويفكر بوعي، ليعلم بأن الخوارج الجدد ومن سار على نهجهم أو ارتضى شيئاً من أقوالهم، ما هم إلا امتداد لأسلافهم الذين حذرنا رسول الله (من الانخداع بما يدعونه من عبادة وتنسك، فها هو رسول الله (يذكر من أوصافهم:”يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”، فالمعتبر في صحة المعتقد هو اتباع هدي محمد (في حال الرضا والغضب. ثم إن المسلم ليس مكلفا بالتنقيب في الضمائر، وما أكنته السرائر؛ بل حسبه الظاهر، قال: “إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم” متفق عليه.
ثم ليتفطن المجتمع عموماً والأسر بوجه خاص، أنه كما أن للأجساد أدواء تصيبها بالمرض وتحتاج معها إلى علاج، فإن للعقول والأفكار أدواء تصيبها بالمرض كذلك، وإن أمراض العقول أخطر وأضر من أمراض الأجساد؛ ذلك أن داء العقل يفسد على صاحبه دينه ودنياه وآخرته، وبهذا يكون السعي في علاج أمراض العقول أولى من السعي في علاج أمراض الأبدان.
وليعلم الباحث عن الحق أن سبيل الخروج من أي فتنة هو: الاعتصام بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ” سورة آل عمران: 103. وفي حديث ابن عباس قال رضي الله عنهما: خطبنا رسول الله (في حجة الوداع فقال: “يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسنة نبيه”. أخرجه البيهقي والحاكم. وفي حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: “ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلمٍ: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم” أخرجه الترمذي.
ويتعين التأكيد على التثبت ممن تؤخذ عنه الفتوى في دين الله، فلا يصح بحالٍ تلقي العلم والفتوى في أمور عظيمة من مجاهيل لا يعرفون بسابقة علم، فالمسلم مطالب شرعاً بالاحتياط لدينه، ومعرفة مصادر تلقيه، قال الإمام محمد بن سيرين: “إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم”، وقال شيخ الإسلام: “فمن تكلم بجهل وبما يخالف الأئمة، فإنه ينهى عن ذلك ويؤدب على الإصرار، كما يفعل بأمثاله من الجهال، ولا يقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة”.
ومما ينبغي أن يلاحظه شبابنا، وحق للمرء أن يعجب منه: المرونة التي يتمتع بها أتباع هذه التنظيمات الإجرامية في تحركاتهم في بعض الدول المحيطة بالمملكة، ومع ذلك فاستهدافهم لبعض الدول والجهات التي يدعون عداوتها ضعيف أو مفقود، في مقابل حرصهم على تقصد المملكة، وسعيهم الدائم لتصدير فكرة أن الإسلام دين التكفير والقتل والغدر، مما لا يقوم به إلا عتاة الشر وأعداء الدين، فهل يصدق مسلم أن هذه أفعال من يدعو للدين؟!.
بل إن رسولنا (تبرأ من الغادرين وإن كانوا مسلمين وكان المغدور به كافرًا؛ فقال:”من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرًا” أخرجه أحمد. وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أحد الجنود قال لمحارب من الفرس: لا تخف ثم قتله، فكتب إلى قائد الجيش: “وإني والذي نفسي بيده! لا يبلغني أن أحدًا فعل ذلك إلا قطعت عنقه” أخرجه مالك.
وليتفطن العقلاء الغيورون على مصلحة بلادنا المباركة، بأننا مستهدفون في ديننا وأمننا ووحدتنا الوطنية، وأن أعداء الأمة يغيظهم ما تتمتع به هذه البلاد من تلاحم والتفاف حول قيادتها، فسعوا في إذكاء الأحقاد المذهبية، لتحقيق ما يصبون إليه بأعمالهم الإجرامية، مستحلين الدماء المعصومة ومنتهكين حرمة المكان والزمان، في محاولة لزرع الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد، فخيب الله تعالى سعيهم بمنه وتوفيقه أولاً، ثم بما أظهره أبناء هذه البلاد من وعيٍ وإدراك.
فلا أخسر من دعي مفسد، ولا أشقى من غر طائش: استحل دماء المسلمين حتى اشتفى منا كل كافر حاقد، وشمت بنا كل عدو حاسد، فتراهم لا يأبهون بإزهاق أرواحهم ولا يتورعون عن انتهاك حرمات الله ولا يعظمون شعائر الله، ويتقصدون – مخذولين- أحرص البلاد على تطبيق شرع الله والعناية بشعائر الإسلام والسعي في مصالح المسلمين.
وفي هذا المجال يزداد العبء على العلماء والدعاة والمثقفين -إلى جانب ما يبذلونه مشكورين- في كشف شبهات تلك الجماعات الضالة، وبيان زيف ادعاءاتهم، وتوجيه الشباب بأساليب تتوافق مع اهتماماتهم ليكونوا أركان بناء لأمتهم ودعائم لنهضتها في مختلف المجالات.
وختاماً: يجدر بنا الاعتبار فيما نشاهده حولنا من آثار مدمرة لاقتتال أبناء المجتمع الواحد ومآلاته على استقرار الدول والمجتمعات، وإن مبتغي الحق المتجرد، سيجد أن واقع أفعال وأقوال وممارسات هذه الفئة المارقة أبعد ما تكون عن تطبيق الشريعة وغاياتها، وأن ما يزعمونه من السعي لإنشاء دولة خلافة شرعية، ليس إلا تمويهاً على البسطاء والسذج، وإنما هي حرب على المسلمين يزج فيها بشبابهم كوقود محترق حتى جعلوا من أجسادهم قنابل في أيدي أعداء الإسلام، يستخدمونهم في قتل أهليهم وذوي رحمهم ومواطنيهم، فأي وهن نفس وسذاجة عقل أودت بهم؟! “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”، فمن يرى أعمال هذه التنظيمات الضالة يجدها لا تخدم إلا العدو، لا ينصرون ديناً ولا يبنون حضارة؛ بل يتحينون الفرص التي تكون فيها الأمة مشغولة ببناء نهضتها ودفع أعدائها ليكونوا أداة هدم وتخريب وإشاعة للفتنة والفوضى.
أسأل الله أن يبصر المسلمين بالحق، وأن يعينهم على العمل به، وأن يعصمهم من مضلات الفتن، وأن يكف بأس الفجار عنهم، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء، وأن يرد كيد الكائدين، وأن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان والاجتماع على الحق، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكاتب: فضيلة الدكتور /وليد بن محمد الصمعاني