الاعتزاز بالعلم والبعد عن مجالسة السفهاء وأصحاب السوء

الثلاثاء 9 ربيع الثاني 1437//19 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
بدر بن جزاع بن نايف النماصي

الاعتزاز بالعلم الذي يحمله
والبعد عن مجالسة السفهاء وأصحاب السوء
المتعلم الذي أراد بعلمه وجه الله تعالى يستشعر عِظَمَ نعمة الله عليه بتوفيقه للعلم، فلا ينبغي له أن يُذلَّ نفسه أبدًا، ولا يشتري بعلمه ثمنًا قليلاً من حطام الدنيا الفاني؛ ولهذا فإن من اتصف بهذه الصفة من المتعلمين يصبح في وادٍ والناس في وادٍ آخر.

والأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام عندما دعَوْا أقوامهم، دعَوْهم وهم معتزون بالله تعالى عنهم، ولم يسألوهم من حطام الدنيا شيئًا، فقال قائلهم: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الشورى: 23]، وقد قال القرطبي في تفسيرها: “قال الحسن وقتادة: المعنى: إلا أن يتوددوا إلى الله عز وجل ويتقرَّبوا إليه بطاعته؛ فالقربى على هذا بمعنى القربة، يقال: قربة وقربى بمعنًى، كالزلفة والزلفى، وروى قزعة بن سويد عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قل لا أسألكم على ما أتيتُكم به أجرًا، إلا أن توادُّوا وتقرَّبوا إليه بالطاعة”[1].

وما أجمل ما قاله الجرجاني[2] رحمه الله تعالى:
ولم أبتذِلْ في خدمة العلم مهجتي
لأخدُمَ مَن لاقيتُ لكن لأُخدَما
ولو أن أهلَ العلم صانوه صانهم
ولو عظَّموه في النفوس لعظما[3]

وقد أشار الإمام ابن مفلح – رحمه الله – إلى هذه العزة التي ينبغي للمتعلم أن يحملها، فقال: “قال ابن الجوزي: واعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينى، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم، فنحن الأغنياء وهم الفقراء، فإن عمروا دارًا سخروا الفعلة، وإن جمعوا مالاً فمن وجوه لا تصلح، وكل واحد منهم يخاف أن يقتل أو يعزل أو يسم؛ فعيشهم نغص، العز في الدنيا لنا لا لهم، وإقبال الخلق علينا، وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى، والعجَب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم – إذ لا تطلبه إلا نفسٌ شريفة – كيف يذلُّ لنذل ما عزُّه إلا بالدنيا، ولا فخره إلا بالمسكنة”[4].

اقرأ أيضا  الوحدة بين المسلمين وأثرها في مواجهة التحديات الحضارية

البعد عن مجالسة السفهاء وأصحاب السوء:
إن من أعظم ما يعين المسلم على تحقيق التقوى والاستقامة على نهج الحق والهدى، مصاحبةَ الأخيار، ومصافاة الأبرار، والبُعد عن قرناء السوء، وعدم مخالطة الأشرار؛ لأن الإنسان بطبعه وحكم بشريته يتأثر بصفيِّه وجليسه، ويكتسب من أخلاق قرينه وخليله، ويوم القيامة يعَضُّ من اختار صاحب السوء أصابع الندم، ويتحسر على ما فاته في دنياه؛ يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 – 29].

والمرء إنما توزن أخلاقه وتُعرَف شمائله بإخوانه وأصفيائه؛ فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدُكم من يخالِلُ))[5].

وصاحب السوء لا بد أن تعلق أحدُ صفاته بجليسه، كما جاء عند أبي داود، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الجليس الصالح والجليس السَّوء، كمثل صاحب المسك، وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحًا خبيثةً))[6].

وقد أشار ابن مفلح المقدسي إلى خطر هذه المجالسة للسفهاء فقال: “وروى الخلال عن أبي جعفر الخطمي عن جده عمرو بن حبيب، وكانت له صحبة، أنه أوصى بنيه فقال: إياكم ومجالسة السفهاء؛ فإن مجالستهم داء، وإنه من لم يقرَّ بقليل ما يأتي به السفيه يقر بالكثير، قال ابن الجوزي: قالت الحكماء: السَّفَه نباح الإنسان”[7].

اقرأ أيضا  الحب في الله تعالى .. السنة النبوية العظيمة

وقد أشار ابن مفلح أيضًا إلى أدب لمن ابتلي بمجالسة السفيه، فقال – رحمه الله -: “وما ندم حليم ولا ساكت، وإنما يندم المقدِم على المقابلة والناطق، فإن شئت فاحتسب سكوتك عن السفيه أجرًا لك، وإن شئت فاعدده احترازًا من أن تقع في إثم، وإن شئت كان احتقارًا له، وإن شئت كان سكوتك سببًا لمعاونة الناس لك، ثم قال: وروى أبو داود، حدثنا عيسى بن حماد، أنبأنا الليث عن سعيد المقبري، عن بشر بن المحرز، عن سعيد بن المسيب أنه قال: “بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل في أبي بكر، فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدتَ عليَّ يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نزل ملك من السماء يكذبه لما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان))”[8].

وقال ابن مفلح – رحمه الله -: “ولأبي داود بإسناد حسن من حديث جابر بن سليم: ((وإن امرؤ شتمك أو عيَّرك بما يعلم فيك، فلا تعيِّرْه بما تعلم فيه، يكن وبال ذلك عليه))، ولأحمد هذا المعنى وفيه ((فيكون أجره لك، ووِزرُه عليه))[9].

ونقل – رحمه الله -: “قال ابن عبدالبر في باب منثور الحكم والأمثال، منتقى من نتائج عقول الرجال: صحبة الفاسق شَيْنٌ، وصحبة الفاضل زَيْنٌ”[10].

وكل ما سبق لا يعني أن المقصِدَ هو أن نعتزل مجالس الفسَّاق والسفهاءفلا نغشاها لتعليمهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يغشى مجالس كفار قريش في مكة فيدعوهم إلى الله تعالى، وكان عليه الصلاة والسلام يغشى مجالس اليهود في المدينة لدعوتهم إلى الله تعالى، ولكن المقصود ألا تكون هي مجالسَ المتعلم التي يحرص على المكث فيها غالب وقته؛ لأنها تؤثر عليه تأثيرًا سلبيًّا، فتهدم قواعد التعليم لديه، وهذا ما ينبغي الحذرُ منه والتأكيد عليه.

اقرأ أيضا  التسامح والتعايش بين البشر

________________________________________
[1] القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين. الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي. (مرجع سابق). ج16. ص22.
[2] قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية: أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر: علي بن عبدالعزيز القاضي بالري، سمع الحديث وترقى في العلوم حتى أقر له الناس بالتفرد، وله أشعار حسان، ج11. ص380.
[3] ابن كثير، أبوالفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي. البداية والنهاية. تحقيق علي شيري. دار إحياء التراث العربي. ط1. 1408، هـ – 1988 م. ج11. ص380.
[4] المقدسي، محمد بن مفلح. الآداب الشرعية. (مرجع سابق). ج1. ص287.
[5] أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني. سنن أبي داود. (مرجع سابق). باب من يؤمر أن يجالس. ج4. ص259. رقم الحديث 4833.
[6] البخاري، محمد بن إسماعيل. الجامع المسند الصحيح. (مرجع سابق). باب: في العطار وبيع المسك. ج 3 ص63. رقم الحديث (2101).
[7] المقدسي، محمد بن مفلح. الآداب الشرعية. (مرجع سابق). ج2. ص92.
[8] (المرجع السابق): ج2. ص93.
[9] (المرجع السابق): ج2. ص94.
[10] المقدسي، محمد بن مفلح. الآداب الشرعية. (مرجع سابق). ج4. ص261.
-الألوكة-