التحذير من الاعتداء على المسلمين

الأحد 10 جمادى الأولى1436//1مارس/آذار 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزَّة والملكوت والجلال، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر: 5]، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك والعزَّة والكمال، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه جميلُ الخِصال، بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، صفيُّ القلب، صادقُ المقال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين والآل، وعلى أصحابِه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصِيكم – أيها الناس – ونفسِي بتقوى الله؛ فإنها زادُ المؤمن في طريقِه إلى الله، وأُنسُه في الوحشة، وسِياجُه في الفتن والمُدلهِمَّات. ما خابَ عبدٌ جعلها له منارًا، وتزوَّد بها لنفسِه سرًّا وجِهارًا، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
أيها الناس:
لقد كرَّم الله ابنَ آدم، وخلقَه في أحسن تقويم، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، وجعل له نورًا يمشي به في الناس إن هو آمنَ بربِّه، وأسلمَ وجهه إليه وهو مُحسنٌ، فيزدادُ بإسلامه شرفًا وكرامةً لتكون له حقوقٌ وواجِباتٌ من إخوانِه، ويكون لهم حقوقٌ وواجِباتٌ منه.
وإن من أهم الواجِبات والحقوق لكل مسلمٍ على أخيه المسلم: ألا يعتدِيَ عليه، ولا يتجاوزَ حقَّ الله فيه؛ إذ لكل مسلمٍ حقٌّ في حفظِ ضَروراتِه الخمس، هي: الدين، والنفسُ، والمال، والعقل، والعِرضُ والنسَب، انطلاقًا من قول الصادق المصدوق – صلى الله وسلم عليه -: «كل المُسلم على المسلم حرام؛ دمُه ومالُه وعِرضُه»؛ رواه مسلم.
فلا تعتدِي على مال أخيك المُسلم بسرقةٍ أو غصبٍ أو أكلٍ بغير رِضًا منه وطِيبة نفسٍ، ولا على عِرضِه بقذفِه أو انتهاكٍ له، ولا على عقله بتسليطِ فِكرٍ يُخرِجُه عما أوجبَ الله عليه، أو بإيقاعِه في المُسكِرات والمُخدِّرات والكُيوف التي تعبثُ بعقلِه الذي كرَّمَه الله به، ولا تعتدِي على دمِه الذي حرَّمَه الله إلا بالحق، وألا تُلحِقَ به نسَبًا ليس منه، أو تنسِبَه إلى غير أهلِه.
فكلُّ تجاوُزٍ على حقٍّ من حقوق المسلمين – أفرادًا كانوا أو مُجتمعًا – فإنه وقوعٌ في الاعتِداء والعُدوان الذي نهانا الله عنه بقولِه: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190].
وعليه، عباد الله:
فإن أي نوعٍ من أنواع الاعتِداء صغيرًا أو كبيرًا على حقوق المسلمين ليُعدُّ عُدوانًا آثمًا، وتجاوُزًا لحدود الله، يشتركُ فيه المُعتدِي ومن كان عونًا له قلَّ عددُهم أو كثُر، لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
وقد حذَّر النبي – صلى الله عليه وسلم – كلَّ من أعانَ على الاعتِداء على العقل، فقال – صلوات الله وسلامه عليه -: «لعنَ الله الخمرَ، وشارِبَها، وساقِيَها، وبائِعَها، ومُبتاعَها، وعاصِرَها، ومُعتصِرَها، وحامِلَها، والمحمولةَ إليه، وآكِلَ ثمنها»؛ رواه أبو داود، والحاكم.
الاعتِداءُ والعُدوان – عباد الله – صفةٌ دنيئةٌ ملؤُها الحقد والاستِخفافُ بحقوق الله وحقوق عبادِه، وهو نارٌ مُحرِقةٌ للأفراد والجماعة تضطرِمُ من شرارة الاحتِقار، والتهوين من الحقوق، وتغييب خوف عقاب الله، فقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «بحسبِ امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم»؛ رواه مسلم.
فإذا كان هذا في الاحتِقار وهو معنًى نفسيٌّ دنِيءٌ، فكيف بالاعتداءُ في المال، والجسد، والعقل، والعِرض والنسَب؟! (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 30].
العُدوان – عباد الله – تقويضٌ لصرح التلاحُم، ومِعولٌ يُهدَمُ به بناءُ الأمن الشامِخ والعيش الرَّضِيِّ. العُدوانُ سوءٌ كلُّه، وشرٌّ كلُّه، ومحقٌ كلُّه، في لفظِه ومعناه؛ إذ لا يحمِل إلا معنى الهدم لا البناء، والظلم لا العدل، والفُرقة لا الجماعة، والأثَرَة التي ينظرُ فيها المُعتدِي إلى مصلَحَة نفسِه وإن كان بها هلاكُ غيره.
يقتُلُ ليحيا هو، ويسرِقُ لينعَم، ويظلمُ ليسعَد على حسابِ المقتول والمسروق والمظلوم، ولربما انطلقَ بعضُهم من مقولةٍ مشهورةٍ: (إن لم تتغدَّ بفلانٍ تعشَّى بك! وإن لم تكن ذئبًا أكلَتك الذئاب).
بالعُدوان – عباد الله – يكثُر الخوف، ويزولُ الأمن، وبالعُدوان تثورُ الحروب، ويموت الأبرياء، ويُهلَكُ الحرثُ والنسل. العُدوان – عباد الله – طبيعةُ الغاب؛ فالقويُّ فيها يأكلُ الضعيف، والوحشُ الكاسِرُ يلتهِمُ الحيوانَ الأليف.
ولما كرَّم الله بني آدم حرَّم عليهم أن ينزِلُوا بأنفسِهم منزلةَ البهائِم التي لا عقلَ لها ولا عدل، ولولا أن الإنسانَ يغيبُ وعيُه ويغفُل فلا يستحضِرُ عظمةَ خالقِه وأنه عزيزٌ ذو انتِقام، لما سبَّ هذا، ولا أخذ مالَ هذا، ولا قاتلَ هذا، غيرَ أن غيابَ هذا الوازِع لن يُعفِيَ كلَّ مُعتدٍ من عقوبة الله وغضبِه على من تجاوزَ حدودَه، واعتدَى على حدود الآخرين.
ولما حرَّم الإسلام الاعتِداءَ والعُدوان حرَّم كل وسيلةٍ تدعو إليه، صغيرةً كانت أو كبيرةً، كالعصبية مثلاً، وكذا الطائفية، والمُنابذة بالألقاب، والتحريش، والتشويش، والتهويش؛ إذ كلُّها كفيلةٌ في إيقاد نيران الصراع والحروب المُدمِّرة.
فإن النار بالعيدان تُذكَى***وإن الحربَ مبدؤُها كلام
فإن الحروبَ بدايتُها تعصُّبٌ وانتِشاءٌ، ونهايتُها هلاكٌ ودمارٌ. وقد روى البخاري في “صحيحه” أن السلفَ كانوا يستحبُّون أن يتمثَّلوا عند الفتن بأبيات امرِئ القيس:
الحربُ أول ما تكون فتِيَّةً***تسعَى بزينتِها لكل جَهولِ
حتى إذا اشتعَلَت وشبَّ ضِرامُها**ولَّت عجوزًا غيرَ ذات حليلِ
شمطاءَ يُكرَه لونُها وتغيَّرَت***مكروهةً للشمِّ والتقبيلِ
لذا أمرَ الله بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والعُدوان؛ ليحيا الناس حياةً كريمةً ملؤُها الوحدة والتآخِي، والشعور بحقِّ كلٍّ تجاه الآخر.
وأيُّ تفريطٍ تقعُ فيه الأمة فسيُحرِّشُ الشيطانُ بينها، ويُذكِي نارَ العُدوان، والقهر، والبغضاء، وسفك الدماء، والإفساد في الأرض، وجعل أهلها شِيَعًا يستضعِفُ بعضُهم بعضًا، ويلعنُ بعضُهم بعضًا.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “المؤمنُ إن قدِرَ عدلَ وأحسنَ، وإن قُهِر وغُلِب صبرَ واحتسَب”.
كما قال كعبُ بن زُهير أمام النبي – صلى الله عليه وسلم -:
ليسُوا مفارِيحَ إن نالَت رِماحُهمُ****يومًا وليسُوا مجازيعًا إذا نِيلُوا
وسُئل بعضُ العرب عن شيءٍ من أمر النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “رأيتُه يغلِب ولا يبطُر، ويُغلَب فلا يضجُر”.
وما سُمِّي بعضُ كفار قريش بالطلقَاء إلا حينما قال لهم في أَوْج غلَبَته، وذكريات طردِهم له تجُولُ في خاطِرِه: «اذهبُوا فأنتمُ الطُّلقاء».
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 128، 129].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين والمُسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إن ربي كان غفَّارًا.
المصدر: السكينة

اقرأ أيضا  الإيمان بالقدر (خطبة)
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.