التحذير من الفرقة والاختلاف

السبت 9رجب 1437/ 16 أبريل/نيسان 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.

أ. د. مصطفى حلمي

التحذير من الفرقة والاختلاف

تحدثنا في البحث السابق إجمالًا عن أصول البدع الأربع: الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة، وجاء دور النقد الذي وجهه العلماء إلى هذه الفرق:

ولسنا نريد بطبيعة الحال إثارة الحديث عن (الفرق) و (الاختلاف) و(الانشقاق)، ولكننا نريد التحذير من تكرار (البدع) فهي ليست موقوتة بعصر دون آخر، فإن الزمان – كما يقول الإمام الشاطبي: باق، والتكليف قائم والخطرات متوقعة. ويتساءل أيضًا: وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع؟ مرددًا بذلك المعنى الذي قصده ابن عباس – رضي الله عنه – حين قال: (وما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن)[1].

ودارس تاريخ المسلمين سيرى صحة تنبؤاته، لا سيما في العصور الأخيرة حيث يلاحظ وكأن بعض الفرق عادت من جديد!!

ولكن ليس شرطًا أن تعود بأشخاصها ورجالها وأسمائها، ولكن بمذاهبها وانحرافاتها عن العقيدة الإسلامية التي عضت عليها الفرقة الناجية بالنواجذ[2].

إن الحقيقة التي لا سبيل إلى التشكيك فيها أن عقائد الفرق يعشعش في أذهان البعض وربما بلا دراية أو معرفة بأصولها عند الفرق التي انقضى زمانها وأصبحت في ذمة التاريخ!!

وإذا عرضنا لأدائها وعقائدها فلكي نحافظ على ما تتطلبه الأمانة العلمية من بسط لوجهات النظر المختلفة التي سجلتها صفحات التاريخ.

ولكن غرضنا الأسمى التحذير من الفرقة والاختلاف، والتنبيه إلى الانحرافات العقائدية التي انحدرت إليها هذه الفرق، وتعظم مسئوليتنا إذا علمنا أن أعداء الإسلام لا يزالون ينفثون سموم أحقادهم بإشعال نار الفتنة والاختلاف من جديد بين المسلمين كلما التأم شملهم، أو نهضوا رافعين راية الإسلام من جديد!!

وبصرف النظر عن أداء هذه الفرق؛ فإنها كما نعتقد ما زالت تعبر عن (عقائد) البعض إلى الآن.

وأفضل الطرق لتصحيح العقائد لذوي النوايا الحسنة. أن نتتبع مواطن الخلل والخطأ في عقائد هذه الفرق لنتجنب الانزلاق إليها من جديد. وعلى ذلك يكون أحسن الطرق للتحصن ضدها هو التعريف بعقائدها ومناقشتها بالحجة مع مقارنتها بالعقيدة الصحيحة المتلقاة عن السلف بأدلتها من الكتاب والسنة:

وللقارئ فكرة عامة مختصرة قبل العرض والمناقشة.

  • إن عقيدة الخوارج قائمة على تكفير مرتكبي الكبائر.
  • ونشأ التشيع بسبب النزاع حول قضية (الإمامة) أو (الخلافة) وهي الرئاسة العامة للمسلمين.
  • ويعبر المرجئة عن الفصل بين القول والعمل وربما يؤدي إلى الاستهانة بأوامر الدين.
  • وكان اسم (القدرية) عنوانًا على نفاة القدر ومخالفة للعقيدة الإسلامية بالإيمان بالقضاء والقدر.
اقرأ أيضا  تحذير أممي من استمرار النزاع والاحتلال بين الإسرائيليين الفلسطينيين

الجهمية:

ابتدعوا بدعًا بآرائهم ليس فيها كتاب ولا سنة، ثم كفروا من خالفهم فيما ابتدعوا، ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم، حتى قال عبد الله بن المبارك (إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية)[3].

ويعبر موقفهم عن مخالفة عقيدة مقصودة للكتاب والسنة وإحلال (الآراء) محلها، ثم ارتكاب ما هو أشنع، حيث يتهمون من خالفهم بما يحلو لهم !

والمعتزلة:

بعد اندثارها كفرقة ما زالوا يعيشون بيننا أخت رداء تحكيم (العقل) و(حرية الرأي) واستبعاد الأحاديث النبوية. وسنرى عند مناقشتهم بأدلة السلف أنهم يتذرعون بهذه الحجج وينسبون أنفسهم إلى الحكمة والفكر، بينما هم في الحقيقة يتحاكمون إلى غير الكتاب والسنة.

مع العلم بأن القرآن الكريم حذر من ذلك تحذيرًا شديدًا. وقد أورد ابن تيمية آيات كثيرة في هذا الصدد، منها قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [غافر: 35]. وفي الآية الأخرى ﴿ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: 56].

والسلطان:

هو الحجة المنزلة من عند الله. وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60]. ويرى شيخ الإسلام أن هذه الآيات، وغيرها تحذر من يتحاكم إلى غير الكتاب والسنة (وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية، وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من الشرطين وأهل الكتاب، وغير ذلك من أنواع الاعتبار)[4].

السلف الصالح هو الأحكم والأعلم:

وسنحاول أن نخط طريقنا من القاعدة النهاية التي يدعمها ابن تيمية شرعًا وعقلاً وتتلخص في الاعتقاد أن السلف الصالح من الصحابة كانوا هم الأعلم بلغة القرآن ومراميه، والأدق في فهم محكمه ومتشابه، فلم تظهر في عصرهم خلافات في أصول العقيدة، وكان هناك إجماع عليها بين الكافة، ثم بدأت الانشقاقات رويدًا رويدًا، وكلما تفتقت الأحداث عن مسألة، أو ظهرت ثغرة، أسرع الجهابذة من علماء المسلمين ومفكريهم لسدها، كظهور الخوارج بسبب سوء فهم القرآن، أو إعلان التشيع على إثر مقتل الحسين.. إلى آخر الأحداث التي نقلتها كتب التاريخ. فأخذت الآراء تتضخم فيعلو البناء الكلامي طبقة، طبقة حتى صبغ في الشكل الذي نراه في كتب المتكلمين بفرقهم ومدارسهم المختلفة.

اقرأ أيضا  دعم الصحفيين :(852) حالة انتهاك "إسرائيلي" بحق الصحفيين خلال عام 2017

على أنه ينبغي معرفة تقسيم الدين إلى أصول وفروع لم يكن معروفًا عند الصحابة والتابعين، وقد يرجع إلى زمن ظهور المعتزلة[5] عندما خاض البعض في (علم الكلام).

وظل هذا العلم في دائرة البدع عند السلف بأساليبه ومصطلحاته، فيذكر ابن تيمية أنه (حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين)[6] ويحرص في ثنايا آرائه على التأكيد بأن نقد السلف لعلم الكلام لم يصدر عن انتقادهم المنهج العقلي، ولكنهم فضلوا المقاييس الشرعية، لأنها عقلية أيضًا، وبهذا يثبت أنهم كانوا أهل نظر ودراية، بجانب كونهم علماء أثر ورواية.

فالأصل أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئًا تنفيذًا لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67] وقد أخبر الله بانه قد أكمل الدين، وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)).

وبناء على هذا الأصل، فإنه لتبين لنا أنه – صلى الله عليه وسلم – أوضح كافة الأصول الدينية مما أخبر به عن الله تعالى من أسماء الله وصفاته، مما جاء في القرآن. وشرح وبين لصحابته هذه الأصول كلها كأحسن ما يكون البيان.

قال أبو ذر: (لقد توفى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا) وكان الصحابة حريصين على الفهم والاستيعاب الدقيق الكامل لكل ما يتعلمونه من القرآن والحديث، فإن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما كانوا إذا تعلموا من النبي – صلى الله عليه وسلم – عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل (قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا) وقام عبد الله بن عمر بحفظ سورة البقرة في ثماني سنوات لاستغراقه في المعرفة والفهم[7].

اقرأ أيضا  "لعبة" المصالحة الفلسطينية

وكانت أم الدرداء تصف زوجها بأن أفضل عمله التفكر[8].

وعلى العكس من هذه الحقيقة، فإن الادعاء بأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد – كما يذكر بعض المتكلمين – يحمل في طياته ذم الصحابة، ومؤداه أيضًا أن الرسول بلغ قرآنًا لا يفهم معناه، بل تكلم بأحاديث الصفات، وهو لا يفهم معناها، وأن جبريل كذلك وأن الصحابة والتابعين كذلك… وهذا الموقف – كما يذكر ابن تيمية – ضلال عظيم[9].

ويستند ابن تيمية إلى معرفة عميقة بآيات القرآن والأحاديث النبوية التي تضع الأوائل في المكانة الأقصى والأفضل، ولا يفوته استقراء التاريخ وعقد المقارنات بين القواعد الراسخة التي استقاموا عليها، وبين الخارجين عليها في العصور التالية. ولكن وجه الأفضلية يلتحم أيضًا مع منهج الاتباع للأوائل، إذ ظلت الجماعة الإسلامية المتصلة بالسلف تعض بالنواجذ على كتاب الله تعالى وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -.

ثم بدأت العواصف تهب على أرض وحدة المسلمين وتآزرهم، فتقتطع عوامل الاستقرار من جذورها تدريجيًا، وتشق أخاديد الفتن بعقم. أول ما ظهرت عند استشهاد عثمان بن عفان – رضي الله عنه -.

[1] الشاطبي: الاعتصام ج 2 ص 128.

[2] سيأتي بيان عقيدة الفرقة الناجية المقصودة بالحديث النبوي في غاية هذا المبحث.

[3] ابن تيمية: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ج 1 ص 147.

[4] موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ج 1 ص 31.

[5] ابن تيمية: رسالة الفرقان بين الحق والباطل ص 86.

[6] مجموع فتاوى ابن تيمية ج 12 ص 460- 461.

[7] الفتاوى: ج 5 ص 155- 156.

[8] نقض المنطق ص 87.

[9] شرح حديث النزول ص 65.

-الألوكة-

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.