الترابط في القرآن الكريم وفائدته في الحياة

الإثنين12 جمادى الثانية 1437// 21 مارس/آذار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
علا الجمال
الترابط في القرآن الكريم وفائدته في الحياة
دائما نسمع بعض المسلمين يقولون الدنيا تحتاج إلى الصبر، والمسلم له الآخرة فقط أما الكافر فله الدنيا، وكأن الحزن قرين المسلمين فقط، ثم قرأت القرآن؛ فوجدت الله يمن على المسلمين بإرسال الرسول ليعلمنا ما فيه صلاحنا، ويمن علينا بأنه- تعالى- أرسل إلينا القرآن فيه هدى وشفاء ورحمة وذكرى للمؤمنين.

أمرنا الله تعالى بتدبر كلامه، ولو كانت التفسيرات وحدها تغني لما أمرنا بالتدبر والتفكر، وكلما تدبرنا القرآن أحسسنا بجماله وحكمته وعظمته، بعكس الكتب البشرية التي ربما تتغير أفكارها بتغير الأحوال والظروف، أما القرآن فهو ثابت في حكمته متجدد في عطائه لا يستفيد من نوره إلا أولو الألباب؛ لأن المسلم الذي يقرؤه بلا تدبر لا يقف عند الآيات التي تصف الكفار، ويقول في نفسه لست منهم، وفي نفس الوقت يفعل أفعالهم بحذافيرها ويتكلم كلامهم كما جاء في القرآن تماماً.

وبقراءة القرآن قراءة عادية تبدو الآيات غير مترابطة، تنتقل من موضوع إلى آخر، وحاول بعض الباحثين مثل الشهيد سيد قطب في الظلال ربط الآيات بعضها ببعض ولكنه كما ذكر في سورة البقرة أنه يجمعها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسان فيه ترابطاً شديداً، وقال عن سورة آل عمران إنها تصور حياة الجماعة المسلمة من بعد غزوة بدر إلى ما بعد غزوة أحد بأحداثها.

ولقد حاولت أن أربط كل سورة في القرآن برابط واحد بعيداً عن الازدواج، ولم أربطها بالزمن؛ لأن القرآن وإن نزل متفرقاً بحسب الأحداث كي يتعلم الناس وحتى يكون أثبت في النفوس بالتطبيق العملي، فهو في الأصل مرشد وهادٍ لكل العصور فما يعنيني هو المعنى والحدث نفسه وليس الزمن، فإن وُفِّقت فالفضل لله تعالى وحده، وحاولت أيضاً الربط بين كل سورة والسورة التي تليها.

سورة الفاتحة
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ * ﴾ [الفاتحة: 1 – 7].

من الطريف أن أي إنسان يؤمن بوجود الله يمكنه قراءة فاتحة الكتاب بلا أدنى حرج، لأنها لا تتعرض لأي ملة؛ فصاحب أي ملة يرى أن أهل الملة الأخرى مغضوب عليهم وضالون، الفاتحة هي ميثاق بين العبد وربه ليس فيها عذاب و لا عقاب وإنما كلها رحمة وترغيب وحب الله للبشر، فالمؤمن بالله يعبده ويتوكل عليه، ويطلب منه العون؛ لأنه ربه وهو أولى به، وبدأت﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 1] وهي تريح البال وتهدئ الأعصاب وليس كما يقول بعض الغربيين إن إله المسلمين قاسٍ يتوعدهم بالعذاب، فرحمة الله سبقت عذابه ورحمته وسعت كل شيء المؤمن والكافر، ومن رحمته إرسال الرسل وقد يسأل سائل ويقول: ليته لم يرسل الرسل ولعشنا نفعل ما نشاء، وهذا لا يجدي لأن الله خلق الكون كله بنظام، سواء أبينا أو رضينا، وإذا لم يخبرنا بالنظام الذي اختاره لنا واخترنا نظاماً آخر لخربت حياتنا ونفوسنا ولفسدت الأرض.

اقرأ أيضا  مقدمة حول محور العقيدة في القرآن الكريم

لأن صلاحها مرتبط بصلاحنا، ولأنه تعالى لم يخلقنا عبثاً، ولكن خلقنا للخلود وهذه الدار موصلة للحياة الأخرى، فالحمد لله أنه تعالى وهبنا الحياة للخلود ودلنا على طريق الفلاح الذي من سلكه سعد في الدارين، فالحمد لله هي مفتاح الوصول إلى الله، فالحمد لله على نعمة الربوبية، وعلى نعمة أنه لا شريك له في حكمه وليس هناك وسيط بيننا وبينه، فيكفي الإنسان أن يرفع يديه إلى السماء بإخلاص، ويقول يا رب فيسمعه، وهذه نعمة كبرى ليس بعدها نعمة، ونحمده لأنه رب العالمين وليس رب الملوك فقط أو طبقة دون طبقة وإنما ربنا كلنا، وينتقم من وزير لصالح فقير حقير في عين الناس، ومن رحمة الله أنه لم يجعل أحد العباد يحكم على أحد إلا لحكمة؛ لأننا نقول في الدعاء: “ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحمنا”، ومن رحمته أنه جعل أمر الإنسان بيده فيعمل الإنسان ويتقي الله ولا يطيع فيه أحداً، والله يضمن له النجاة. ومن رحمته أنه يعلم ما تخفي الصدور ويحاسبنا على ذلك، ومن رحمته أيضاً أنه دلنا على ما يرضيه ويكفر عنا ذنوبنا، مثل الصوم والصلاة والإنفاق على الفقراء ووعدنا بالخلف، والصدقة أمان من الأمراض والفقر، والجاهلون من الناس يقولون: ماذا سنقول غير الحمد لله؟ وكأنه يقولها مناً على الله وتفضلاً عليه، لكن المتأمل في حال الناس يرى أن من الواجب على الإنسان حمد الله على الحقيقة من أعماق قلبه، فصاحب المصيبة لا يدري أنه يستحق بذنوبه ما هو أشد منها ثم خففها الله برحمته، فلذلك نحمد الله.

ومن رحمة الله أنه يثيبنا على صبرنا على المصائب برغم استحقاقنا لها ويعوضنا خيراً بعدها، ولذلك يجب على أصحاب المصائب: الاستغفار، ومساعدة المحتاج، والدعاء حتى يكشف الله الهم، ومن رحمته أيضاً أنه تعالى أمهلنا لمراجعة النفس وأعطانا القدرة على تغيير النفس للأفضل، فجعل لنا إرادة وعقلاً ورزقنا الحواس لنتعرفه ونتقرب منه ونستخدمها في طاعته ومنفعتنا.

ومن رحمته أيضاً أنه جعل الملك له يوم القيامة ولم يجعله لإنسان، فربما يظلم الوالد ولده ويظن فيه ما ليس فيه؛ أما الله فهو يعلم السر وأخفى مما يطمئن العباد حتى لو أذنبوا لأن الله هو خالقهم ويعلم مواطن ضعفهم، وليس معنى هذا أن يعصي العبد الله متكلاً على عفوه، ولكن المسلم المؤمن لا يعصي الله متعمداً؛ إنما ناسياً أو جاهلاً، وإذا ذَكر الله أو ذُكِّر به تاب وأناب واستغفر وكفر عن ذنبه بكل الوسائل من صيام وصدقة وبر، ويأمل في عفو الله لعلمه به، أما الإنسان إذا حكم فهو يحكم بهواه ولمصلحته.

اقرأ أيضا  حكم وأحوال الاستعاذة فى القرآن

ثم تأتي الآية بعد ذلك “إياك نعبد”: مترتبة على ما سبق، فمادام الله سبحانه هو الرحمن الرحيم وهو رب العالمين ومالك يوم الدين، إذن فاعبده وحده واستعن به في كل أمورك، ولا تعبد سواه ولا تتوكل على غيره، وربما تسأل: وكيف أستعين بالله؟ فتاتي الإجابة بعدها مباشرة بالدعاء “اهدنا الصراط المستقيم”، وهى إجابة عملية كما علم الله آدم الكلام ثم حذره من الشجرة ثم علمه كيف يتوب.

فهناك فرق كبير بين من يصلي ويصوم خوفاً من عقاب الله، ومن يصلي ويصوم وهو يحب الله ويستمتع بأداء هذه العبادات، وهذا هو الهدى الذي لا يهدي إليه إلا الله، فأنا أنفذ تعاليم الله خوفاً من عقابه، وأدعو الله أن يحببها إليَّ ويهديني إلى الرشد فلا أرى أي خير في المعصية، فلذلك الدعاء مطلوب في كل وقت؛ لأن القلوب بيد الله، ومن الناس من يقول: وهل الدعاء يحل المشكلات؟ والجواب: نعم، فالدعاء مفتاح السعادة والراحة، إذا دعوت بإخلاص، وبدون الدعاء تكون الحياة شاقة.

وبعض الناس يقولون: نحن لسنا أنبياء حتى يستجيب الله لنا، والله تعالى لم يخص الأنبياء باستجابة الدعاء، وهذا من رحمته، ووعد الله بنجاته للمؤمنين الصادقين الخاشعين، وكل إنسان في استطاعته أن يكون منهم وذلك بمجاهدة النفس والاستعانة بالله بكثرة الدعاء، والله يجيب دعوة المضطرين من العباد، وإذا لم تُستجَب الدعوة في حينها فذلك لحكمة، والله سميع عليم قال: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: من الآية60]، وقال تعالى: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ [إبراهيم: من الآية34]، حقاً نحن مكلفون بالسعي ولكن النتائج كلها بفضل الله. وفي المشاكل التي يعجز الإنسان عن حلها وبعد الأخذ بالأسباب الدنيوية يدعو الله ويتوكل عليه، ثم عليه بالصبر حتى يقضي الله أمره وسيكون خيراً، ولنا الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دبر للهجرة وخطط لها، ثم دعا الله تعالى بأن يكلل سعيه بالنجاح.

وربما يسأل سائل: ولماذا لا يعطينا الله بدون سؤال؟ والله تعالى لو أعطى كل شيء بدون سؤال لما عرف الإنسانُ الله، والله يحب أن يعرفه عبدُه فيشكره ويتوكل عليه ويطلب منه، ولو أعطى الله الإنسان بدون سؤال لبغى في الأرض، ولنسب كل شيء لنفسه، فمثلاً الرجل الذي ينجب بعد سنوات من المعاناة تجده أشد تواضعاً لله، أما الذي ينجب بلا أدنى معاناة ينسب الفضل لنفسه. قالت لي امرأة مرة بكل فخر: لماذا يتزوج زوجي علىَّ؟ لقد أنجبت له الولد والبنت، ونسبت الفضل لقدرتها.

اقرأ أيضا  القصة في القرآن الكريم: أصحاب الأخدود

وفي العمل أيضاً ربما ينسى صاحب العمل فضل الله عليه وينسب ما لديه لذكائه وعلاقاته حتى يوضع في موقف لا ينفعه فيه إلا الله، لذلك علينا دائماً الإكثار من الدعاء، والدعاء تثاب عليه لأنك تعترف فيه بعبوديتك لله وبعجزك وقدرته.

ربما تجد رجلاً مستقيم الخلق صاحب مبادئ، ولكنه لا يصلي ولا يصوم، فهل هذا الذي تعنيه الآية؟ فنجد الإجابة في آية أخرى لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً ﴾ [النساء: 69-70]، وقال تعالى: ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة:23]، فهذا هو النعيم الحقيقي؛ عدم الخوف من العباد والتوكل على الله، والإحساس بالأمان في معيته، والاهتداء بهدي الأنبياء من تواضع وعدم التهافت على ملذات الدنيا.

وبعض الناس يتخذون التقلب في نعيم الدنيا علامة على رضا الله عليهم، والله يرزق المؤمن والكافر، لذلك يؤكد الله تعالى أنه يعني نعيم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فالصراط المطلوب هو صراط الذين يرضون الله تعالى في أفعالهم وعقيدتهم، فربما تجد مسلماً ضالاً وربما تجد مسلماً مغضوباً عليه ومذموماً أيضاً عند الله، وما أكثر المسلمين بالاسم فقط، وهذا الوصف على البيان حتى لا نسلك مسلكهم، ولا يغرنا نعيمهم.

والصراط المستقيم هو صراط الله وهو صراط الصالحين الموصل إلى الجنة، ولكننا إذا لم نعلم صفات المغضوب عليهم والضالين ربما نفعل مثلهم بجهل، ونحن نظن أننا صالحون مؤمنون، ورحمة الله تأبى إلا أن يخبرنا ويحذرنا، فما صفات هؤلاء المغضوب عليهم والضالين؟ سيأتي ذلك على التفصيل في سورة البقرة.
-الألوكة-