التربية الإسلامية و تحديات العصر
الخميس 07 جمادى الأولى1436//26 فبراير/شباط 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قالَ: قالَ رَسُولُ الله 4 : «مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ الله»(الترمذي،1994م ، جـ 6 ، ص61) .
والباحث بمقتضى هذا الحديث يتقدم بخالص الشكر والتقدير لسعادة الدكتور محمد علي أبو رزيزة ، فقد وجد الباحث منه الاهتمام والجدية في البحث والدراسة والحرص على إفادة الطلاب ، وقد استفاد الباحث منه كثيراً أثناء دراسته لمادة التربية الإسلامية وتحديات العصر ، فله من الباحث كل الثناء والتقدير ، أسأل الله أن يجزل له الأجر والمثوبة ، وأن يكتب له الخير حيث كان ، ومتى ما كان ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ….. وبعد ،
فإن التربية الإسلامية تستمد أصولها ومسلماتها وغاياتها وأهدافها من ديننا الحنيف وتصب في هذا الإطار أساليبها وعملياتها مستخدمة ومسخرة أدوات العصر وتقنياته في خدمة هذه الغايات .
وكما أن للعصر أدوات ، وتقنيات ، فإن فيه صعوبات ، وتحديات، تواجهها التربية الإسلامية التي يمكنها تجاوز الصعوبات والانتصار على التحديات بسبب خصائصها الفريدة ، وصلاحيتها لكل زمان ومكان .
والقضايا المطروحة كمشكلات وصعوبات وتحديات تواجه التربية الإسلامية كثيرة ، والتساؤلات التي تتصل بتلك التحديات كثيرة أيضاً ، وتؤدي هذه الكثرة والتعدد إلى تباين واختلاف وجهات النظر التي تعالج هذه القضايا ، والمعالجة التي ينطوي عليها هذا البحث تفترض مرونة التربية الإسلامية وقدرتها على التعامل مع مختلف التحديات والصعوبات ، بل والإفادة منها أيضاً .
وقد حاول الباحث من خلال فصول هذا البحث أن يوضح الصلة بين عناصر الموضوع والمتمثلة في تحديات العصر ومعالجة التربية الإسلامية لها .
وتنتظم فصول هذا البحث في تسلسل يهدف إلى معالجة القضايا الرئيسة في هذا الموضوع ، حيث تناول الباحث في الفصل الأول تحدي الحرية، ومفهومها في المنهج الإسلامي، وأنواعها، وواقعها،وكيفية تفعيلها .
كما تناول الفصل الثاني تحدي الحوار ، حقيقته ، وأهميته ، وأهدافه ، وأصوله ، وتقنياته ، والتعلم من خلال الحوار .
وتناول الفصل الثالث تحدي الغلو والتطرف الديني ، مفهومه ، ونشأته ، وأنواعه ، وموقف التربية الإسلامية منه ، وإفرازاته السلبية ، وسبل الوقاية والعلاج منه .
وتناول الفصل الرابع تحدي الإرهاب الفكري ، مفهومه ، وإشكالية تحديد الإرهاب ، وأنواع الإرهاب ، وأسبابه ، وموقف التربية الإسلامية منه ، وسبل الوقاية والعلاج منه .
وتناول الفصل الخامس تحدي غياب دور المرأة ، ومكانتها في الإسلام ، والفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل ، والمرأة المسلمة بين التهميش والتحرير ، وكيفية تفعيل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم .
وتناول الفصل السادس تحدي العولمة ، ومفهومها ، الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية ، وسلبيات العولمة وإيجابياتها ، وكيفية الاستفادة من إيجابياتها واتقاء سلبياتها .
وقد حاول الباحث تناول العناصر الرئيسة للبحث وعرضها بطريقة متوازنة ، ويرجوا الباحث أن يكون قد وفق في تحقيق الغرض المنشود ، والثغرات الموجودة هي نموذج من القصور الإنساني ، أسأل الله التوفيق والسداد ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين .
أهمية البحث
تنبع أهمية البحث من أهمية التربية الإسلامية التي تعمل كموجه للعملية التربوية والمناهج التعليمية والبرامج الإرشادية للفرد والجماعة ، محققة ما نصبو إليه من إعداد الإنسان الصالح الذي يعتبر قدوة لغيره من البشر في الاستقامة والخلق ، في المجتمع الصالح الذي يعد نموذجاً لغيره من المجتمعات البشرية في الحياة الفاضلة الكريمة .
تساؤلات البحث
التساؤل الرئيس :
ما أبرز التحديات التي تواجهها وتعالجها التربية الإسلامية ؟
التساؤلات الفرعية :
ما هو تحدي الحرية ؟
ما هو تحدي الحوار ؟
ما هو تحدي الغلو والتطرف الديني ؟
ما هو تحدي الإرهاب الفكري ؟
ما هو تحدي غياب دور المرأة ؟
ما هو تحدي العولمة ؟
أهداف البحث
التعرف على أبرز التحديات المعاصرة التي تواجه التربية الإسلامية .
التعرف على تحدي الحرية .
التعرف على تحدي الحوار .
التعرف على تحدي الغلو والتطرف الديني.
التعرف على تحدي الإرهاب الفكري .
التعرف على تحدي غياب دور المرأة .
التعرف على تحدي العولمة .
1=التربية الإسلامية و تحدي الحرية
?مفهوم الحرية لغةً واصطلاحاً
?مفهوم المنهج لغة واصطلاحاً
?مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي
?ضوابط الحرية وحدودها في المنهج الإسلامي
?أنواع الحرية
?مفهوم العالم الإسلامي
?واقع الحرية في العالم الإسلامي
?كيف نفعل الحرية في تربيتنا الإسلامية
مفهوم الحرية
تعريف الحرية لغةً :
” الحر ، بالضم : نقيض العبد ” (ابن منظور ، 1410هـ ، جـ 4 ، ص 181 ) .
” والحرة : نقيض الأمة ، والجمع حرائر ” ( المصدر السابق ) .
” وتحرير الولد : أن يفرده لطاعة الله عز وجل وخدمة المسجد ، وقوله تعالى (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران:35) ” ( المصدر السابق ) .
” والحر من الناس : أخيارهم وأفضالهم . وحرية العرب : أشرافهم ” ( المصدر السابق ).
” والحرة : الكريمة من النساء ” ( المصدر السابق ) .
” الحُرِّيَّةُ : الأرضُ اللينةُ الرمليةُ ” ( الفيروز بادي ،1993م )
تعريف الحرية اصطلاحاً :
يمكن تعريف الحرية اصطلاحاً بعدة تعاريف منها :
“1-(انعدام القيود)
2- (عبارة عن قدرة المرء على فعل ما يريده)
3- (إطلاق العنان للناس ليحققوا خيرهم بالطريقة التي يرونها طالما كانوا لا يحاولون حرمان الغير من مصالحهم…)
إلى غيرها من التعاريف التي لا مجال لذكرها في المقام.
ولكن بعد التأمل الدقيق ـ نجد ـ أن مرجع جميع هذه التعاريف إلى جامع واحد وحقيقة مشتركة واحدة ـ هي القدرة على الفعل والاختيار ـ دلت عليها ألفاظ متعددة، وبصور مختلفة… ولذا لم يتحصل لدى الانتقال من تعريف لآخر أمر آخر يضيف على التعريف الأول شيئاً يذكر سوى التبسيط، والتوضيح . ” ( حسين ، 1421هـ، 44 )
مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي
أولاً : مفهوم المنهج
المنهج في اللغة :
نهج
: طريقٌ نَهْج : بَـيِّنٌ واضِحٌ، وهو النَّهْج ، والـجمع نَهجات ونُهُج ونُهوج
و مَنْهَج الطريقِ : وضَحُه. والـمِنهاج : كالـمَنْهَج . وفـي التنزيل: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة: من الآية48)
وأَنهَج الطريقُ: وضَحَ واسْتَبانَ وصار نَهْجا واضِحاً بَـيِّناً ، والـمِنهاج : الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَج الطريقُ: صار نَهْجا ( ابن منظور ، 1410هـ ، ج2 ، ص 383 )
المنهج في الاصطلاح :
” الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة ، تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ، حتى يصل إلى نتيجة معلومة ” ( العساف ، 1424 هـ ، ص 169 )
” فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، من أجل الكشف عن الحقيقة ” ( أبو سليمان ، 1416هـ ، ص 60 )
” طريق كسب المعرفة ، أوهو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة لاكتشاف الحقيقة ، أو هو الخطوات المنظمة التي يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها ” ( الدغيمي ، 1417هـ ،ص 33 ) .
” كان ظهور الطريقة العلمية نتيجة للجهود المختلفة التي بذلها المهتمون خلال عصور طويلة ، لكن أول ملامح هذه الطريقة ظهرت على يد فرنسيس بيكون في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر حين اقترح بناء النتائج على أساس مجموعة كبيرة من الوقائع والملاحظات التي يمكن جمعها ، ثم تطور هذا المنهج نتيجة لجهود وأفكار نيوتن وجاليلو فظهر المنهج العلمي ، أو الطريقة العلمية التي تجمع بين الأسلوب الاستقرائي والأسلوب الاستنتاجي القياسي ، أو جمع بين الفكر الذي يمثله الأسلوب القياسي وبين أسلوب الملاحظة الذي يمثله الأسلوب الاستقرائي.
فالأسلوب العلمي أو الطريقة العلمية هي طريقة تجمع بين الفكر والملاحظة وبين القياس والاستقراء”(عبيدات،1424هـ،ص 44)
ثانيا : مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي
“خص المولى تبارك وتعالى “الإنسان” بالعقل والإدراك والتمييز , وأمر بحفظ حقه في حرية التفكير والتعبير مادام ذلك في حدود الشرع ومصلحة الجماعة , لا يقهر على أمر , ولا يقسر على رأي , ولا يمنع من إبداء الرأي والاجتهاد فيه , لأن هذا قوام :”نموه العقلي” واتساع مداركه وشحذ تفكيره , ومبادئه الإيجابية في بناء حياته الخاصة وفلسفته ونظرته للحياة , وتحقيق طموحاته المستقلة , ومساهمته الفعالة في بناء حياة الجماعة وتطوير نظمها وتراثها الفكري واعلمي والحضاري ,وتمكينها من بلوغ أهدافها المرجوة لخير جميع أفرادها .
ولأن في الحفاظ على حرية “الإنسان” في فكره وتعبيره , صونا “لآدميته” المكرمة من الله تعالى ,ودعما لكيانه المستقل والمتميز عن غيره , وتنمية لشخصيته لتكون قوية متماسكة ,وتعزيزا لاعتداده بذاته وثقته بنفسه , وراحة وسعادة له في حياته , وإعطاء هذه الحياة معاني الكرامة وأسباب الهناء.
والمولى سبحانه وتعالى , وهو يضرب لعباده المثل , وله وحده المثل الأعلى , أقر للإنسان حريته حتى فيما يتعلق بأمور الإيمان والعقيدة والتوحيد ، وهي أسمى الأمور ، وحمله مسؤولية حريته في إيمانه وكفره ، وهذا هو العدل التام ، وأقام عليه الحجة بما أعطاه من حرية قوامها الإرادة والاختيار والعقل ” (الزنتالي ، 1993م ، ص196 ) .
قال تعالى : (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)(الكهف: من الآية29)
وقال تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(البقرة: من الآية256)
وقال عز وجل : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية99)
وقال جل جلاله : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (الغاشية: 21،22)
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها كثيرة: وهي الأسر في الحروب، والخطف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن في الخوف، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر .
ضوابط الحرية
” على أن الحرية في التربية الإسلامية ليست سائبة ,ولا مطلقة العنان حتى تهوي بصاحبها إلى قاع الضلال الروحي ودرك الانحطاط الأخلاقي ,بل هي حرية واعية منضبطة ,فإذا خرج بها الإنسان عن أحكام الدين ونطاق العقل وحدود الأخلاق وصلحة الجماعة , تمت مساءلته ومحاسبته وإيقافه عند حده ورده عن غيه , منعا لضرر الفرد والجماعة, وفساد الدين والدنيا.” (الزنتالي ، 1993م ، ص459)
ومن تعاريف الحُرِّيَّة أنها التصرّف بالملك بدون عدوان على النفس أو الغير، سواء أكان الملك حسياً أو معنوياً.
فلا يُعتبر الاعتداء على النفس أو الملك الشخصي حرية للإنسان، لذلك حرم ” دين الإسلام ” الانتحار أو الإضرار بشيء من الجسد أو الملك في غير مصلحة صحيحة مبنية على مكارم الأخلاق، وكذلك فإن الناس يمنعون الأفراد الذين يريدون الانتحار أو الإضرار بأملاكهم من ذلك.
كما لا يُعتبر الاعتداء على الغير سواء باللسان ( كالسَّبِّ ) أو الأركان ( كالضرب ) من الحرية.
فمن فعل ذلك فهو من الأشرار لا الأحرار.
ومن حدود الحرية: قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ، وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ *يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات:11،13).
أنواع الحرية
” من أهم الخصائص التي تتميز بها التربية الإسلامية عن غيرها من أنواع التربية القديمة والحديثة ، وتسجل بها قصب السبق عليها ، هي خاصية الحرية ، حرية التفكير وحرية التعلم وحرية السعي ، بما يعزز الشخصية الإنسانية ويدعم استقلالها واعتدادها بذاتها في حدود الشرع والأخلاق ” (الزنتالي ، 1993م ،ص 456 ) .
“ويمكن تقسيم الحريات إلى :
1- الحريات الشخصية أو المدنية: ومن أمثلة هذا الصنف: حرية السكن وحرمته، وحرية المراسلات. كما تدخل فيها الحريات العائلية).
2-الحريات الاقتصادية: وتشمل: حق الملكية، وحرية العمل، وحرية التجارة والصناعة… الخ.
3- الحريات الفكرية: وتشمل: الحريات الفلسفية، والدينية، والفنية، والأدبية.”(حسين ، 1421هـ ، 44 )
ويندرج تحت التقسيمات السابقة عدة أنواع من الحقوق والحريات كحق الإنسان في الحياة ، وحقه في تولي الوظائف العامة ، وحقه في إنشاء الأسرة والرضا في الزواج ، وحق المرأة في الموافقة على الزواج أو رفضه ، وحرية التنقل والسفر …..الخ .
واقع الحرية في العالم الإسلامي
أولاً : مفهوم العالم الإسلامي
” يقصد بالعالم الإسلامي الدول التي تزيد فيها نسبة المسلمين عن 50% من سكانها ، أو يمثل المسلمون فيها الأغلبية ” ( الجاسر ، 1427هـ ، ص 12 )
” ويغطي العالم الإسلامي مساحة كبيرة تقدر بأكثر من 32 مليون كم2 أي ما يعادل خمس مساحة اليابسة ، ويزيد عدد المسلمين حالياً عن أكثر من 1300 مليون مسلم يعيشون في 56 دولة إسلامية تقريباً ونسبة منهم يعيشون كأقليات إسلامية في دول غير إسلامية ، وهذا يعني أن عدد المسلمين يقارب ربع سكان العالم البالغ 6 مليارات نسمة تقريباً ” ( المصدر السابق )
ثانياً : واقع الحرية في العالم الإسلامي :
“مازال الحوار يرتفع ويثور حول الكثير من المفردات التي تدخل ضمن نطاق حقوق الإنسان. فحرية الفكر والعقيدة وحق التنظيم والإعدام خارج القضاء وحالات الاختفاء والعزل السياسي والحق في محاكمة عادلة والامتناع عن التعذيب، كلها مصطلحات لها دلالات مختلفة بالنسبة للحكومات والأيديولوجيات والسياسات. ومشكلات مثل المجاعة والبطالة وتلوث البيئة ونتائج الحروب والوجود العسكري الأجنبي، تشغل حيزاً غير قليل من فكرة حقوق الإنسان، مثلما هي قضايا حق تقرير المصير والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، إضافة إلى قضايا حقوق المرأة والعنصرية والتطرف وحقوق الأقليات، يقابلها المشاركة والانتخابات، دون إهمال لحرمة المنازل وسرية الرسالة والهاتف والاتصالات والحقوق الفردية الأخرى. وإذا كانت تلك المفردات قد وجدت طريقها إلى التقنين الدولي في إطار حقوق الإنسان، فإن عالمنا العربي ما زال يعاني الكثير من النقص والقصور إزاء تناول هذه المشكلات ” ( شعبان ، 2001م ، ص 3 ) .
ويمكن القول إن مستوى الحرية في العالم الإسلامي بصفة عامة ما زال منخفضاً ، وذلك بالنظر إلى أصغر مؤسسات الدولة كأنموذج يُنقل الحكم منه إلى غيره من مؤسسات المجتمع وأنظمته ، ويمثل تلك المؤسسة المدرسة ، حيث يمكن ملاحظة النظام المركزي في إدارة المدرسة من قبل مديرها من حيث التسلط ، والتعسف الإداري ، ومحاباة بعض المعلمين على حساب غيرهم ، وإلزام المعلم بما يكلفه به مدير المدرسة دون نقاش واستطلاع لرأيه، والتصرف في جدول المعلمين بما يرضي مدير المدرسة دون النظر إلى رغبات المعلمين ، وينتقل ذلك إلى تصرفات المعلمين مع الطلاب ومنعهم من الكلام والحركة ، واستخدام طرق التدريس التي لا تساعد على الحوار وإبداء الرأي والتشجيع على التفكير ، وكل ذلك يسفر عن قلة الوعي ، والتقليد الأعمى لأصحاب المناصب الأعلى ، وعدم التنبه لنتائج كبت الحريات ؛ كالتمرد على الأنظمة ، وضعف الإنتاج ، والتخلف الفكري والاجتماعي ؛ نسأل الله السلامة والعافية .
كيف نفعل الحرية في تربيتنا الإسلامية؟
“التربية الإسلامية تؤكد “مفهوم الحرية” وتنادي بالحفاظ عليه , تشريفا للإنسان وتكريما له وإعلاء لشأنه وفق ما اقتضته إرادة الله تعالى بتفضيله على كثير ممن خلق , سواء فيما يتعلق بأمور الدين أو أمور الدنيا ” ( الزنتالي ، 1993م ، ص 456 )
“وسبيلها في ذلك فتح الباب أمام الإنسان ليمارس حريته وإرادته واختياره الواعي المسؤول دينيا وخلقيا ,وتمكينه من تكوين شخصيته على نحو متكامل وسوي ومتزن خال من الاضطراب العقلي والتوتر العصبي والقلق النفسي , وإتاحة الفرص العادلة المتكافئة أمامه لينمي عقله ويصقل قدراته وميوله ومواهبه , وتشجيعه على المبادءات الذاتية والنشاط الذاتي حتى يشارك بفعالية في بناء نفسه بنفسه من خلال العملية التربوية والتعليمية.ووسيلتها في تكوين الإنسان وتنشئته:الإقناع والحجة والبرهان ,والدعوة بالتي هي أقوم والمجادلة بالتي هي أحسن , والتذكير الواعي والنصح الرشيد , وتبصيره بشكل بناء إيجابي يخاطب عقله , ويستنير ذهنه ويقدح تفكيره , فتكون قناعاته بغير جبر أو إكراه , ويتحمل مسؤوليات حريته واختياره في دنياه وأخراه” ( المصدر السابق )
قال تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125)
وقال سبحانه:
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )(الكهف: من الآية29)
وقال عز وجل:
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )(البقرة: من الآية256)
وقال جل جلاله:
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111)
وقال جل شأنه:
(وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) (الفرقان:73)
“وقد عزز الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وسيرته العطرة , مبدأ “الحرية” سواء في التفكير أم في التعبير أم في إعمال الرأي والاجتهاد في أمور الدين والدنيا , حرصا منه على تكوين الشخصية المستقلة المتماسكة القوية لدى المسلم .
فأثناء الاستعداد لمعركة “بدر الكبرى” والتخطيط لها , قال الصحابي الجليل “الحباب بن المنذر” رضي الله عن :”يا رسول الله , إن هذا المكان الذي أنت فيه ليس بمنزل, فانطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم , فإني عالم بها وبقلبها , بها قليب قد عرفت عذوبة ماءه لا ينزح , ثم نبني عليه حوضا فنشرب ونقاتل . ونغور ماسواه من القلب فنزل جبريل عليه السلام على رسول صلى الله عليه وسلم فقال:
“الرأي ما أشار به الحباب ” .فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك .
ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث الصحابي الفقيه “معاذ بن جبل” رضي الله عنه إلى اليمن ,ليعلم الذين دخلوا إلى الإسلام ويفقههم , قال عليه الصلاة والسلام :”كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟”قال أقضي بكتاب الله قال “فإن لم تجد في كتاب الله ” قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟”قال: أجتهد برأي ولا آلو.فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ,فقال:”الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى مايرضي رسول الله” وعن عائشة وعن أنس بن ثابت رضي الله عنهما ,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”أنتم أعلم بأمور دنياكم” (الزنتالي ، 1993م ، ص458)
“عن محارب بن دِثَارٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ : «مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا قَاضِي دِمَشْقَ، قَالَ: وَكَيْفَ تَقْضِي ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيٍ وَأُؤَامِرُ جُلَسَائِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَحْسَنْتَ “( السيوطي ، 1994م ، جـ13 ، ص 472 )
2=التربية الإسلامية وتحدي الحوار
?مفهوم الحوار
?حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي
?أهمية الحوار
?أهداف الحوار
?أصول الحوار
?آداب الحوار
?التعلم من خلال لغة الحوار
مفهوم الحوار
الحوار في اللغة :
“وتَحاوَرُوا : تَراجَعُوا الكلامَ بينهمْ.” ( الفيروزبادي ، 1993م )
“حاورته : راجعته الكلام “(الفيومي،1987م ،ص 60 )
“وكلَّـمته فما رَجَعَ إِلَـيَّ حَوَاراً وحِواراً ومُـحاوَرَةٌ وحَوِيراً ومَـحُورَة ، بضم الـحاء، بوزن مَشُورَة أَي جواباً. وأَحارَ علـيه جوابه: ردَّه. وأَحَرْتُ له جواباً وما أَحارَ بكلـمة، والاسم من الـمُـحَاوَرَةِ الـحَوِير ، تقول: سمعت حَوِيرَهما وحِوَارَهما . والـمُـحَاوَرَة : الـمـجاوبة. والتَّـحاوُر : التـجاوب؛ وتقول: كلَّـمته فما أَحار إِلـيَّ جواباً وما رجع إِلـيَّ حَوِيراً ولا حَوِيرَةً ولا مَـحُورَةً ولا حَوَاراً أَي ما ردَّ جواباً. واستـحاره أَي استنطقه. ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ 4، ص218 )
” والـمُـحَاوَرَة : مراجعة الـمنطق والكلام فـي الـمخاطبة، ” ( المصدر السابق ، ص218) .
الحوار اصطلاحاً :
” ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .” ( ابن حميد ، د : ت ، ص 3 )
ويفهم من تعريف الحوار والمجادلة أنهما يشتركان في مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين إلا أن المجادلة تأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة،.والجدل لم نؤمر به، ولم يمدح في القران على الإطلاق، وإنما قيد بالحسنى كقوله تعالى 🙁 وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125) وقال تعالى(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46)
فلفظ الجدل مذموم إلا إذا قيد بالأحسن، ومما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ الآية:( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )(الزخرف: من الآية58) (الترمذي ، 1994م ، جـ9،ص106 )
حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي
أولاً : مفهوم المنهج
المنهج في اللغة :
نهج
: طريقٌ نَهْج : بَـيِّنٌ واضِحٌ، وهو النَّهْج ، والـجمع نَهجات ونُهُج ونُهوج
و مَنْهَج الطريقِ : وضَحُه. والـمِنهاج : كالـمَنْهَج . وفـي التنزيل: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة: من الآية48)
وأَنهَج الطريقُ: وضَحَ واسْتَبانَ وصار نَهْجا واضِحاً بَـيِّناً ، والـمِنهاج : الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَج الطريقُ: صار نَهْجا ( ابن منظور ، 1410هـ ، ج2 ، ص 383 )
المنهج في الاصطلاح :
” الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة ، تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ، حتى يصل إلى نتيجة معلومة ” ( العساف ، 1424 هـ ، ص 169 )
” فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، من أجل الكشف عن الحقيقة ” ( أبو سليمان ، 1416هـ ، ص 60 )
” طريق كسب المعرفة ، أو هو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة لاكتشاف الحقيقة ، أو هو الخطوات المنظمة التي يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها ” ( الدغيمي ، 1417هـ ،ص 33 ) .
ثانياً : حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي
الحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية المستندة أساسا إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحة وهو موقف فكرى يعبر عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية وهي سمة التسامح .
الحوار في المنهج الإسلامي أسلوب من أساليب التربية وطريقة للفهم والإقناع والدعوة إلى الله عز وجل بالعقل والمنطق ،” ويمكننا تمييز ستة أشكال من الحوار ذكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وهي :
1-الحوار الخطابي : وقد يتطرق إلى الناحية التعبدية ، وقد يتطرق إلى التذكير بنعم الله ، قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(البقرة: من الآية211) وقد يتطرق إلى التنبيه والإيضاح مثل قوله تعالى : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ*الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (النبأ:1-3) ، وقد يتطرق إلى إثارة العواطف الإنسانية والانفعالات الوجدانية مثل الخشوع لله والخوف من العذاب والشعور بالندم وشكر النعم ، قال تعالى : (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (الطور:29) .
2-الحوار الوصفي : ويقصد به وصف حالة نفسية أو واقعة بين المتحاورين ، وهدفه التربوي الاقتداء بصالح الأعمال والابتعاد عن سيئها ، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي توضح حواراً يصف أهل الجنة أو أهل النار ، قال تعالى : (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ *هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ*احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (الصافات:20-23) .
3-الحوار القصصي : ويأتي في إطار قصة واضحة في شكلها وتسلسلها القصصي ، ويغلب عليه الإخبار ، وتأثيره التربوي يستند إلى الإيحاء وتربية العواطف وإدراك التصور الرباني لأمور الحياة ، ومن أمثلته الحوار الذي دار بين شعيب وقومه في سورة هود .
4-الحوار الجدلي لإثبات الحجة : وغايته إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده ، ومن أمثلته قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى*مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (لنجم:1-5) ومن آثاره التربوية تربية العقل على التفكير السليم وتحري الصواب والرغبة في الوصول إلى الحقيقة”( غبان ، 1415هـ ، ص 121)
أهمية الحوار
” استخدم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب ( أسلوب الحوار ) في عديد من المواقف ، لذا حرص المربون المسلمون على إتباع هذا الأسلوب والإشادة بأهميته . وفي هذا المجال يؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب ، ويشير إلى أن “ملكة العلم” إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم ، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذي بال في العلم ” ( غبان ،1415هـ ، ص 122)
” والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوباً مفضلاً مجدياً في التعليم ، حيث يقول الزرنوجي :”إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار ” ( المصدر السابق ، ص 122 )
” والحوار الهادئ ينمي عقل الطفل ، ويوسع مداركه ، ويزيد من نشاطه في الكشف عن حقائق الأمور ، ومجريات الحوادث والأيام ، وإن تدريب الطفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدين إلى قمة التربية والبناء ، إذ عندها يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه ، وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيل لم يدركها ، وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له ، فيغدو في مجالس الكبار ، فإذا لوجوده أثر ، وإذا لآرائه الفكرية صدى في نفوس الكبار ، لأنه تدرب في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه ، وطرقه ، وأساليبه … واكتسب خبرة الحوار من والديه .” ( سويد ، 1422هـ ، ص 119 )
ويرى الشيخ سلمان العودة أن أهمية الحوار تبرز من جانبين:
الجانب الأول: دعوة الناس إلى الإسلام والسنة:
“فتعقد لذلك محاورات مع غير المسلمين؛ لإقناعهم بأن دين الله تعالى حق لا شك فيه، أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة؛ لدعوتهم إلى السنة، وأمرهم بالتزامها. والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم، حتى إن قوم نوح قالوا له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود:32]، فأكثر جدالهم حتى تبرَّموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار.
إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب والنظريات والأديان الأخرى؛ بهدف دعوتهم إلى الله تعالى، فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة.
ولا يجوز أبدًا أن نعتقد -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات والعقائد والمبادئ والمثل، فهذا غير صحيح؛ بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة من كثرة النظـريات والمبادئ والعقائد والمثل والفلسـفات وغيرها، صحيح أنها باطلة، ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية، والدعاة الذين تدرَّبوا وتعلَّموا كيف يدافعون عن الباطل حتى يصبح في نظر الناس حقًّا.
أما أهل الحق فكثير منهم لا يحسن الطريقة المثلى للحوار؛ لإقناع الخصم بما لديه من الحق والسنة .
وقد لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضًا، إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق، فإن لم يملكوها، فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة، ما هو أشد فتكًا من الرصاص والقذائف.
إذن، فإن الهدف الأول من الحوار هو دعوة الكفار إلى الإسلام، أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة.” ( العودة ، د : ت ، ص18 )
.الجانب الثاني: فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية:
“فالحوار يُعد وسيلة للوصول إلى اليقين والحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال المجتهدين، فيتكلم اثنان في محاورة أو مناظرة للوصول إلى الحق في مسألة اجتهادية ليس فيها نص صريح، أو إجماع لا يجوز تعديه.
وليس من الضروري -أيها القارئ الكريم- أن تعتقد أن نتيجة الحوار لابد أن تكون إقناعك الطرف الآخر بأن ما عندك حق، وما عنده باطل، فليس هذا بلازم، فقد تقنع إنسانًا بذلك، فإن لم تتمكن، فأقل شيء تكسبه من الحوار – إذا التزمتَ بالشروط الموضوعية له – أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية، وأنك محاور جيد، وأن يأخذ انطباعًا بأنك موضوعي متعقل، بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال.
فكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق، وليس عندهم شيء، وأنهم مجرد مقلِّدين، فإذا حاوروهم وناظروهم علموا أن لديهم حججًا قوية، فأقل ما تكسبه أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام.
فقد تلتقي بنصراني داعية إلى النصرانية، فتناقشه، فمن المحتمل أن يسلم، وهذا خير كثير، وهو أرقى وأعلى ما تتمناه، لكن قد لا يسلم، فهل تعتبر أنك قد خسرت المناظرة؟ لا؛ لأنه وإن لم يسلم، فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث، ثم قد يسلم ولو بعد حين، وإذا لم يفكر في ذلك، فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه، وإذا لم يحصل هذا، فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه، وصار عنده تردد في مذهبه الباطل.
ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون الاحتكاك بأهل الكتاب أو بالمنحرفين عن الإسلام ويسمعون منهم الكثير؛ نجد أن هؤلاء المسلمين وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم حتى وهم على الحق؛ وذلك من كثرة ما سمعوا من أعدائه، فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم؟ لابد أن يفتر حماسهم له، أو يشكّوا فيه،أو يتراجعوا عنه.”(المصدر السابق،ص20)
أهداف الحوار وغاياته
“الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.يقول الحافظ الذهبي:( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ،وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ).
هذه هي الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها :
-إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .
-التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .
-البحث والتنقيب ، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تالية .” ( ابن حميد ، د : ت ، ص 4 )
ومن أهداف الحوار :
أولاً: أن في الحوار مع الآخر اكتشاف الإنسان لما في نفسه من النقص والضعف والسلبيات التي لا تخلوا منها شخصية إنسانية.
ثانيا ً: أن في الحوار مع الآخر حصول الاحتكاك الفكرى والثقافى والتدافع الحضارى بين الناس .
ومن دون ذلك يركد الذهن ويفقد الدافع إلى المعرفة ، قال الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة: من الآية251).
ثالثاً : تحقيق الذات وإثبات الهوية .
رابعاً : الحصول على التغذية الراجعة .
خامساً : الإبداع والابتكار .
سادساً : إزالة الضغائن والمشاحنات .
أصول الحوار الهادف
ذكر الشيخ ابن حميد ثمانية أصول للحوار :
الأصل الأول :
سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :
1-تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
2-صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .
الأصل الثاني :
سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
2- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .
الأصل الثالث :
ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .
الأصل الرابع :
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً أمر مفروغ منه .
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .
وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك .
الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .
ومن هنا فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه القضايا ؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا ، لأن هذه القضايا ليست عنده مُسَلَّمة ، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيَّة الله ، وعبوديَّة ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصِدْق القرآن الكريم وإعجازه .
ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد الزوجات – وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ، وليس ذلك شأن طالبي الحق .
الأصل الخامس :
التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار :
إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم )
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .
وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .
الأصل السادس :
أهلية المحاور :
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .
إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .
والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .
فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
الأصل السابع :
قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .
وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .
الأصل الثامن :
الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها .
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء .
يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) ( ابن حميد ، د : ت ، ص 8 )
آداب الحوار
إن آداب الحوار الصحيح، هي بإيجاز:
أولاً: حسن المقصد:
فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض، ولا الفساد، ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق .
والله تعالى يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار، والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة.
ثانيًا: التواضع بالقول والفعل:
من آداب الحوار: التواضع، وتجنُّب ما يدل على العجب والغرور والكبرياء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : “الكبر بطر الحق وغمط الناس”
ثالثًا: الإصغاء وحسن الاستماع:
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما تحدَّث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ من كلامه، قال له صلى الله عليه وسلم: “أوقد فرغت يا أبا الوليد؟” قال: نعم. فتكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من القرآن .
رابعًا: الإنصاف:
وهو أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، تبحث عنها في كل مكان، وفي كل عقل.
.خامسًا: البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات والبدهيات:
فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها؛ بل ابدأ بموضوع متفق عليه، أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، وتدرج منها إلى ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف.
.سادسًا: ترك التعصب لغير الحق .
.سابعًا: احترام الطرف الآخر:
فنحن مأمورون أن نُنـزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم – “ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء”، فالمؤمن ليس باللعان، ولا بالطعان في الناس وأعراضهم، ونياتهم ومقاصدهم وأحوالهم، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء.
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا” ، فهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وهذا كلامه في وصف المؤمن، أنه لا يحب الفحش ولا التفحش.
ثامناً : الموضوعية :
الموضوعية تعني رعاية الموضوع وعدم الخروج عنه .
تاسعًا: عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم:
والإلزام -بأن تلزم إنسانًا بمقتضى كلامه- من المشكلات؛ لأن اللازم يصلح في كلام الله تعالى، فتقول: الآية يلزم منها كذا، واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات، وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الإلزام، يعني: يلزم من هذا النص كذا وكذا.
فهذا يصح في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الناس فلا إلزام فيه بشيء ما، تقول: يلزم من كلامه كذا وكذا، رغم أنه ما خطر في باله هذا اللازم، ولا فكَّر فيه يومًا من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم قد لا يُقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟
.عاشرًا: اعتدال الصوت:
لا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار، فليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار؛ بل كلَّما كان الإنسان أهدأ كان أعمق؛ ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ، حيث الصخور والمياه الضحلة، وحيث لا جواهر ولا درر، فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء، حيث الماء العميق ونفائس البحر وكنوزه؛ لذلك يقول المثل الغربي: “الماء العميق أهدأ”. ( العودة ، د : ت ، ص 37 )
التعلم من خلال لغة الحوار
” استخدم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب ( أسلوب الحوار ) في عديد من المواقف ، لذا حرص المربون المسلمون على إتباع هذا الأسلوب والإشادة بأهميته . وفي هذا المجال يؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب ، ويشير إلى أن “ملكة العلم” إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم ، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذي بال في العلم ” ( غبان ،1415هـ ، ص 122)
” والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوباً مفضلاً مجدياً في التعليم ، حيث يقول الزرنوجي :”إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار ” ( المصدر السابق ، ص 122 )
” والحوار الهادئ ينمي عقل الطفل ، ويوسع مداركه ، ويزيد من نشاطه في الكشف عن حقائق الأمور ، ومجريات الحوادث والأيام ، وإن تدريب الطفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدين إلى قمة التربية والبناء ، إذ عندها يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه ، وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيل لم يدركها ، وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له ، فيغدو في مجالس الكبار ، فإذا لوجوده أثر ، وإذا لآرائه الفكرية صدى في نفوس الكبار ، لأنه تدرب في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه ، وطرقه ، وأساليبه … واكتسب خبرة الحوار من والديه .” ( سويد ، 1422هـ ، ص 119 )
ومن أهم التقنيات التي ينبغي مراعاتها في الحوار :
1-الاتجاه بالكلية إلى المحاور .
2-الاقتراب من المحاور .
3-التواصل البصري مع المحاور .
3=التربية الإسلامية وتحدي الغلو والتطرف الديني
?مفهوم الغلو والتطرف
?نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني في العالم الإسلامي
?أنواع الغلو
?موقف التربية الإسلامية من الغلو والتطرف
?الإفرازات السلبية للغلو
?سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني
مفهوم الغلو والتطرف
الغلو في اللغة :
“غَلاَ في الأَمْرِ غُلُوًّا: جاوَزَ حَدَّهُ، وـ بالسَّهْمِ غَلْواً وغُلُوًّا: رَفَعَ يَدَيْهِ لأقْصَى الغَايَةِ، كغالاهُ ، وـ به مُغالاةً وغِلاءً، فهو رجلٌ غَلاءٌ ، كسماءٍ، أي: بعيدُ الغُلُوِّ بالسَّهْمِ، وـ السَّهْمُ: ارْتَفَعَ في ذَهابِهِ، وجاوَزَ المَدَى” ( الفيروزبادي ، 1993م )
“وتَغَالَى النَّبْتُ: ارْتَفَعَ” ( المصدر السابق )
” والغلوة : الغاية وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه “(الفيومي،1987م ،ص 172 )
” وغلا في الدين غلواً من باب قعد تصلب وشدد حتى جاوز الحد ، وفي التنزيل ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)(النساء: من الآية171) وغالى في أمره مغالاة : بالغ ، وغلا السعر يغلو والاسم الغلاء بالفتح والمد : ارتفع ” ( المصدر السابق ، ص 172 ).
غَلا فـي الدِّينِ والأَمْرِ يَغْلُو غُلُوّا : جاوَزَ حَدَّه. وفي التنزيل ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)(النساء: من الآية171) ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ15 ، ص 132)
” قال بعضهم غَلَوْت فـي الأَمر غُلوّا وغَلانِـيَةً وغَلانِـيا إِذا جاوزْتَ فـيه الـحَدّ وأَفْرَطْت فـيه “(المصدر السابق،ص 132).
التطرف في اللغة :
” والطَّرَف ، بالتـحريك: الناحية من النواحي والطائفة من الشيء، والـجمع أَطراف . وفـي حديث عذاب القبر: كان لا يَتَطَرَّفُ من البَوْل ، أَي لا يَتباعَدُ؛ من الطرَف: الناحية. وقوله عز وجل: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(هود: من الآية114) يعنـي الصلوات الـخمس فأَحدُ طَرَفـي النهارِ صلاة الصبح والطرَفُ الآخر فـيه صلاتا العَشِيِّ، وهما الظهر والعصر، وقوله (عز وجل): ( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(هود: من الآية114) يعنـي صلاة الـمغرب والعشاء. وقوله عز وجل: ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)(طـه: من الآية130) أَراد وسبح أَطراف النهار؛ قال الزجاج: أَطْراف النهار الظهر والعصر، وقال ابن الكلبـي: أَطراف النهار ساعاته. وقال أَبو العباس: أَراد طرفـيه فجمع.”(ابن منظور،1410هـ ،جـ 9،ص 217 )
ويقال: طَرَّف الرجل حول العسكر وحول القوم، يقال: طرَّف فلان إِذا قاتل حول العسكر، لأَنه يحمل علـى طَرَفِ منهم فـيردُّهم إِلـى الـجُمْهور. ابن سيده: وطرَّف حول القوم قَاتَلَ علـى أَقصاهم وناحيتهم، وبه سمي الرجل مُطَرِّفا . وتطرَّف علـيهم: أَغار، وقـيل: الـمُطَرِّف الذي يأْتـي أَوائل الـخيل فـيردُّها علـى آخرها، ويقال: هو الذي يُقاتِل أَطراف الناس ” ( المصدر السابق ، ص 217 )
الغلو والتطرف في الاصطلاح :
” إن الغلو أو التطرف لم يعد في الدين فقط ، بل في مختلف ممارسات الحياة اليومية ، فقد يكون التطرف في الفكر أو السلوك أو فيهما معاً ، وقد يكون في الماديات كالجلوس أو المشي ، وفي المعاملات داخل الأسرة أو مع أفراد المجتمع ، وقد يكون التطرف في المجال السياسي حيث يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار والرأي الآخر والأحزاب الأخرى.”(فرج،1426هـ، ص 9).
” أما التطرف الديني فيعني سؤ الفهم للنصوص الدينية الذي يؤدي إلى التشدد والغلو ، ويطلق عادة على بعض الأفراد الذين يلجئون إلى التفسير عن جهل في أمورهم الدينية ويضللون الناس ” ( المصدر السابق ، ص 9 ) .
والغلو : ” مجاوزة الحد والإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد والعمل ” ( وزارة المعارف ،1423هـ ، ص 21 ) .
ومن الغلو : التنطع وهو ” التعمق في الشيء والتكلف فيه ومجاوزة الحد في القول والفعل والتشدد في غير موضع التشدد ” ( المصدر السابق ، ص 27 ) .
ومن الغلو أيضاً : الإطراء وهو ” المبالغة في المدح والتعظيم والكذب فيه ” ( المصدر السابق ، ص 27 ) كما جاء في الحديث : ” لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد . فقولوا : عبد الله ورسوله ” ( البخاري ، 6 / 3445 )
ويمكن القول بأن التطرف يتضمن التفريط والتساهل في الأمور وعدم إعطائها ما تستحقه ، كما يتضمن الإفراط والمبالغة في الأمور وإعطائها أكثر مما تستحق وكما قال أبو سليمان البستي :
ولا تَغْل في شيءٍ من الأمر واقتصد******كلا طرَفَي قصد الأمور ذميم
نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني في العالم الإسلامي
نشأ الغلو والتطرف منذ القدم ، حيث ذكر الله تعالى قصة غلو قوم نوح في صالحيهم ، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23) قال : ” هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تعبد حتى هلك أولئك ونسي العلم ، عبدت ” ( البخاري ، 4920/8 ) .
قال ابن تيمية رحمه الله : ” وأصل الشرك في بني آدم: كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين. فإنهم لما ماتوا: عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. فهذا أول شرك كان في بني آدم. وكان في قوم نوح. فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، يدعوهم إلى التوحيد. وينهاهم عن الشرك. ” ( ابن تيمية، د:ت ، جـ14 ، ص343 )
وقال ابن القيم رحمه الله ” وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. ” ( ابن القيم ، د:ت ، جـ1 ، ص 217 )
وقد أخبر الله تعالى عن غلو اليهود والنصارى فقال في محكم التنزيل : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)
وأما في العصر الإسلامي فقد ظهر الغلو مبكراً كما في حديث أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال: «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وعن عبدِ الله بنِ عمرو قال: «أنكَحَني أبي امرأةً ذاتَ حَسَبٍ، فكان يتعاهَدُ كَنَّتَهُ فيسألها عن بَعلها فتقول: نِعْمَ الرجُلُ من رجل، لم يطأ لنا فِراشاً ولم يُفتِّشْ لنا كَنَفاً مُنذ أَتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي بِه فَلَقِيته بَعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يَومٍ. قال: وكيف تخْتم؟ قلت: كل ليلةٍ.قال: صمْ في كلِّ شهر ثلاثةً، و?قرأ القُرآنَ في كلِّ شَهْرٍ. قالَ: قلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذ?لِكَ، قالَ: صُم ثلاثةَ أيام في الجمعة. قال: قلت: أطِيقُ أكثرَ من ذلك. قال: أفطر يومَين، وصُم يوماً. قال: قلت: أطِيقُ أكثر من ذلك، قال: صُم أَفضَل الصَّوم صوْم داود، صيامَ يومٍ وإفطارَ يَومٍ، واقرأْ في كلِّ سبع ليالٍ مرَّةً. فَلَيتَني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذاكَ أنّي كبرتُ وضَعُفت فكان يَقرأ على بعض أهله السُّبعَ من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يَعرضه من النهار ليكُونَ أَخَفَّ عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطَرَ أياماً وأحصى وصام مِثلَهُنّ، كراهيةَ أَن يَتركَ شيئاً فارقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه». ( البخاري ، 8 / 5052 ) .
وعن ابن عباس : « أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما شاء الله وشئت ، فقال : جعلتني لله عدلاً ؟ بل ما شاء الله وحده » ( أحمد 1 / 2565 )
ونلاحظ في الأحاديث السابقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحارب الغلو ويسارع إلى إنكاره بالتوجيه والإرشاد والحوار والدلالة إلى الخير والصواب والعمل الأفضل ، بل يحتج على المغالين بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه فيقول ” أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وكيف لا يكون ذلك وهو قدوة الصالحين كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) .
والغلو والتطرف من سنة الحياة التي لا يخلو عصر من عصورها منه ، فهو ملازم للبشر ، كالصراع بين الخير والشر الذي لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، والمتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن أبي سعيدٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال: «بُعِثَ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ، فقَسَمَهُ بين أربعةٍ وقال: أتألفُهم. فقال رجلٌ: ما عَدَلتَ. فقال: يَخرُجُ من ضِئْضىء هذا قومٌ يمرُقونَ منَ الدين».( البخاري ، 8 / 4667 ) يدرك أن التطرف والغلو من سنن الحياة التي لا بد من حصولها ، ولذا وجب التعامل مع الغلو والتطرف تعاملاً يتفق مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث السابقة كالنصيحة والبيان والتوضيح والحوار والدلالة والإرشاد والإنكار بدرجاته الثلاث والتي قد تصل إلى القتال كما أورد النسائي في سننه مرفوعاً : «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَأَنَّ هذَا مِنْهُمْ يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الاِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ لاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ».( النسائي 2 / 3532 ) .
ومقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) هو حلقة من حلقات الغلو والتطرف في التاريخ الإسلامي ، ثم ما حصل من الفتنة والقتال بين المسلمين بعد ذلك والله المستعان .
أنواع الغلو
سبق الكلام عن الغلو و التطرف وأنه ” لم يعد في الدين فقط ، بل في مختلف ممارسات الحياة اليومية ، فقد يكون التطرف في الفكر أو السلوك أو فيهما معاً ، وقد يكون في الماديات كالجلوس أو المشي ، وفي المعاملات داخل الأسرة أو مع أفراد المجتمع ، وقد يكون التطرف في المجال السياسي حيث يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار والرأي الآخر والأحزاب الأخرى .” ( فرج ،1426هـ، ص 9 ) .
وإذا أردنا أن نتكلم عن أنواع الغلو في الدين فنستطيع أن نصنفه في الأصناف التالية :
1-غلو اعتقادي ، كغلو الخوارج وأشباههم من الفرق المنحرفة ، حيث يكفّر الخوارج مرتكب الكبيرة ويقولون بتخليده في النار ، والرافضة يقولون بعصمة الأئمة ، وينزلون آل البيت ( رضي الله عنهم ) فوق المنزلة التي أنزلهم الله تعالى فيها .
2-غلو عملي ، كالغلو في العبادات ، والابتداع فيها ، وإيجاب ما لم يوجبه الله تعالى منها كتنزيل السنن والمستحبات منزلة الفرائض والواجبات ، والإنكار على من ترك السنة ، وكالزيادة في الوضوء على ثلاث غسلات ، ومنع المباحات ، والتضييق على الناس فيما وسّع الله تعالى لهم فيه .
3-غلو طبعي ، كالجفاء ، والغلظة ،والفظاظة في الدعوة ، وضيق النفس عن تقبل آراء الآخرين فيما يسوغ فيه الخلاف ، وترك الرفق واستبداله بالشدة في غير موضعها ، قال تعالى : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )(المائدة: من الآية54) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».( مسلم ، 16/6554) .
ويرى ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 13 ) أن التطرف على ثلاث مستويات هي :
“أ- المستوى العقلي أو المعرفي والمتمثل في انعدام القدرة على التأمل والتفكير.
ب- المستوى الوجداني والمتمثل بالاندفاعية في السلوك.
ج- المستوى السلوكي والمتمثل في ممارسة العنف ضد الآخرين. ”
موقف التربية الإسلامية من الغلو والتطرف
إن التربية الإسلامية تدعو المسلم إلى الاعتدال والتوازن ، لينشأ المسلم سوياً ، وبما يحقق له التربية السليمة بأبعادها المختلفة .
” والتربية الإسلامية ليست تربية مغالية أو مشطة في أساليبها واتجاهاتها ونظرتها إلى مختلف جوانب الشخصية الإنسانية ، بل تنظر إليها نظرة وسطية معتدلة متوازنة شمولية ” (الزنتاني،1993م،ص 446).
“وخاصية الاعتدال في التربية الإسلامية تكفل لفطرة الإنسان وطبيعته وكسبه ، كما شاء الله تعالى : هداية الإيمان والعقيدة فتزكي روحه ، وتفتح الفكر وحريته فتنمي عقله وتزيد معارفه وعلومه ، واتزان الوجدان بانفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه فترقي خلقه ” ( المصدر السابق ، ص 446 ) .
و ” يكسب الإسلام التربية توازناً بين النظرية والتطبيق ، وتوازناً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وتوازناً بين أشواق الفرد الروحية وتلبية حاجاته المادية والاجتماعية ، وهذا التوازن في التربية الإسلامية يجعلها أقرب ما تكون إلى طبيعة الأشياء ” ( غبان وآخرون، 1415 هـ ، ص 111 ) .
قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(لأعراف: من الآية32) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) .
وقال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77) .
وقال تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:1121) .
وقال تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)(النساء: من الآية171)
وقال تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ)(المائدة: من الآية77) .
ونلاحظ في الأحاديث التالية : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحارب الغلو ويسارع إلى إنكاره بالتوجيه والإرشاد والحوار والدلالة إلى الخير والصواب والعمل الأفضل ، بل يحتج على المغالين بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه فيقول ” أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
قوله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدينِ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُو فِي الدينِ» ( السيوطي ، 3/ 9309 ) .
وعن أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال: «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وعن عبدِ الله بنِ عمرو قال: «أنكَحَني أبي امرأةً ذاتَ حَسَبٍ، فكان يتعاهَدُ كَنَّتَهُ فيسألها عن بَعلها فتقول: نِعْمَ الرجُلُ من رجل، لم يطأ لنا فِراشاً ولم يُفتِّشْ لنا كَنَفاً مُنذ أَتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي بِه فَلَقِيته بَعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يَومٍ. قال: وكيف تخْتم؟ قلت: كل ليلةٍ.قال: صمْ في كلِّ شهر ثلاثةً، و?قرأ القُرآنَ في كلِّ شَهْرٍ. قالَ: قلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذ?لِكَ، قالَ: صُم ثلاثةَ أيام في الجمعة. قال: قلت: أطِيقُ أكثرَ من ذلك. قال: أفطر يومَين، وصُم يوماً. قال: قلت: أطِيقُ أكثر من ذلك، قال: صُم أَفضَل الصَّوم صوْم داود، صيامَ يومٍ وإفطارَ يَومٍ، واقرأْ في كلِّ سبع ليالٍ مرَّةً. فَلَيتَني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذاكَ أنّي كبرتُ وضَعُفت فكان يَقرأ على بعض أهله السُّبعَ من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يَعرضه من النهار ليكُونَ أَخَفَّ عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطَرَ أياماً وأحصى وصام مِثلَهُنّ، كراهيةَ أَن يَتركَ شيئاً فارقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه». ( البخاري ، 8 / 5052 ) .
وعن ابن عباس : « أن رجلاً قال:يا رسول الله،ما شاء الله وشئت،فقال:جعلتني لله عدلاً؟بل ما شاء الله وحده»(أحمد1 / 2565).
وبما سبق من أحاديث يتضح موقف التربية الإسلامية من الغلو كتحريمه والإنكار على مرتكبيه ومجادلتهم بالتي هي أحسن وبالحوار وإقامة الحجة عليهم .
ويمكن الاستشهاد على ذلك بتأمل كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب ( وهم من روّاد الغلو والتطرف ) حيث تظهر حكمة القول في التعامل مع أهل الكتاب و دعوتهم إلى الله تعالى ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحق ، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية ، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة ، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل لا بد أن يكون القصد بيان الحق ، وهداية الخلق ، كما قال عز وجل : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46) وقال عز وجل : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم القول الحكيم في دعوته إلى الله عز وجل ، ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : «دخلَ رَهطٌ من اليهود على رسولٍ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتُها فقلت: وعليكمُ السامُ واللعنة. قالت: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إنَّ اللهَ يحبُّ الرفقَ في الأمرِ كلِّه. فقلتُ: يا رسولَ الله، أولم تَسمعْ ما قالوا؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : قد قلتُ وعليكم». “(البخاري 12/5886)
وليس معنى هذا أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين والرفق والعفو ، بل تكون أحياناً بالموعظة الحسنة والترغيب والترهيب وبيان الحق علماً وعملاً ، وتارة تكون باستخدام الجدال بالتي هي أحسن ، وتارة تكون باستخدام القوة وبالجهاد في سبيل الله ،
وبالتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي كيفية تعامله مع أهل الكتاب يمكن للناظر إجمال ذلك فيما يلي :
1-دعوتهم إلى الحق والهدى والإيمان .
2-مناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن .
3-عقد العهود والمواثيق معهم والوفاء بها .
4-الإحسان إليهم وحسن معاملتهم .
5-مبايعتهم والاقتراض منهم والتعاون معهم .
6-قتالهم واستخدام القوة معهم .
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم تتجلى التربية الإسلامية الحقة في التعامل مع الغلاة والمتطرفين من المسلمين وغيرهم .
الإفرازات السلبية للغلو
لا شك أن للغلو والتطرف إفرازات ونتائج سلبية وعواقب وخيمة” كالجور على حقوق أخرى ينبغي أن تراعى ، وواجبات يجب أن تؤدى ، وسوء الظن بالناس ، والنظر إليهم من خلال منظار أسود يخفي حسناتهم على حين يضخم سيئاتهم ، والغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة ” ( فرج ،1426هـ،ص 10 ) .
ومن الإفرازات السلبية للغلو : ” الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بأسلوب مغلق جامد التفكير ، أو عدم القدرة على تقبل أي معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها ، وعدم القدرة على التأمل والتفكير والإبداع ” ( المصدر السابق ، ص 11 ) .
والغلو والتطرف يفرز جماعة من الناس ” لا يؤمنون بالحوار مع الآخر ، ولا يؤمنون بحرية الدين ، أو التعامل مع الأجنبي وبقائه في البلاد الإسلامية التي أقرها الإسلام في قوله تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )(البقرة: من الآية256) ” ( المصدر السابق ، ص 12 ) .
ومن الملاحظ أن” أصحاب الأفكار المتطرفة لديهم رغبة جامحة في إقصاء الآخر ، فهم الوحيدون القادرون حسب رؤيتهم على فهم الحقائق والأمور. ولديهم أحادية في النظر ، فالحقائق لديهم ليس لها إلا وجه واحد وطريق الحياة ليس له إلا مسار واحد في رؤيتهم.
وأنهم يحملون توجهات عقدية وفكرية تؤكد ما لديهم من قناعات ولا يرغبون في التنازل عنها كما أنهم غير مستعدين للتخلي عنها أو مناقشة الآخرين فيها.” ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 12 ) .
سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني
إن الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني تكون بالأمور التالية :
1- تطبيق مبدأ حسن التعامل والحكمة في التعامل مع الآخرين ، فبه تسعد الأمة ، وتسلم من الانهيار والسقوط ، ولا شك أن الحياة تحتاج إلى التعامل مع المسلمين و غير المسلمين من عموم الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين حيث لا يمكن أن تتم بدونه ، والتعامل الصحيح يسهم في تكوين نظام دقيق هو الأساس في نجاح التعايش وتقبل أفكار الآخرين من المسلمين وغيرهم والعدل معهم وعدم ظلمهم ، قال تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)
وإذا كان هذا مع الكفار ، فهو مع المسلمين من باب أولى .
ومن الملاحظ سوء الفهم في جانب التعامل مع أهل الكتاب (من خلال الاطلاع على الأحداث في السنوات الأخيرة من استباحة دمائهم وأموالهم والتعدي عليهم بالقتل والتفجير) ، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً». “(البخاري ، 6/3097)
وقد نسي الكثير هذا الحديث وغيره أو تناسوه بحجة العمل بأحاديث إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وكأنهم لا يعرفون أن قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كافراً مشركاً مجوسياً ومع ذلك فقد أدخله عمر رضي الله عنه لا لجزيرة العرب فقط بل إلى المدينة للحاجة إليه في مهنته ، حتى كتب الله الشهادة لعمر في المدينة وهو يصلي رضي الله عنه وأرضاه .
2-إيجاد الحوار المفتوح من رجال الفكر الديني والعلماء لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ، ومناقشة بعض الجوانب التي تؤدي إلى التطرف .
3-إشغال الفراغ الفكري للشباب وتوجيههم وتوعيتهم توعية دينية وإعلامية كافية .
4-معالجة أسباب التطرف والغلو كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ( الخلافات الأسرية ، الطلاق ، غياب الأب أو الأم عن القيام بدورهم في حياة الطفل ، الحرمان ، سوء المعاملة ، الفقر ، البطالة ، الجهل ، ضعف الدور التربوي للمؤسسات التربوية ) .
5-العمل بمبدأ التسامح ، وتقبل الآخرين كما هم ، والانفتاح الفكري .
6-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( باعتبار الغلو والتطرف منكر يجب إنكاره والدعوة إلى تركه ) وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .
4=التربية الإسلامية وتحدي الإرهاب الفكري
?مفهوم الإرهاب
?أنواع الإرهاب
?أسباب الإرهاب
?سمات الشخصية الإرهابية
?موقف التربية الإسلامية من تحدي الإرهاب
?سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب
مفهوم الإرهاب
الإرهاب في اللغة :
“رَهِبَ ، كَعَلِمَ، رَهْبَةً ورُهْباً، بالضم وبالفتحِ وبالتحريكِ، ورُهْباناً، بالضم ويُحَرَّكُ: خافَ، والاسْمُ: الرَّهْبَى، ويُضَمُّ ويُمَدَّانِ، والرَّهَبُوتَى، و«رَهَبُوتٌ ، مُحَرَّكَتَيْنِ، خيرٌ منْ رَحَمُوتٍ»، أي: لأَنْ تُرْهَبَ خَيْرٌ منْ أن تُرْحَمَ. وأرْهَبَهُ واسْتَرْهَبَهُ : أخافَهُ. وتَرَهَّبَهُ : تَوَعَّدَهُ. والمَرْهُوبُ : الأَسَدُ، كالرَّاهِبِ ، وفَرَسُ الجُمَيْحِ بنِ الطَّمَّاحِ. والتَّرَهُّبُ : التَّعَبُّدُ. والرَّهْبُ : النَّاقَةُ المَهْزُولَةُ، أو الجَمَلُ العالِي. وأرْهَبَ : رَكِبَهُ، والنَّصْلُ الرَّقيقُ، ج: كَحِبالٍ. وبالتَّحْرِيكِ: الكُمُّ. وكالسَّحابَةِ، ويُضَمُّ، وشَدَّدَ هَاءَهُ الحِرْمَازِيُّ: عَظْمٌ في الصَّدْرِ مُشْرِفٌ على البَطْنِ، ج: كَسحابٍ. والرَّاهِبُ : واحِدُ رُهْبَانِ النَّصارَى، ومَصْدَرُهُ: الرَّهْبَةُ والرَّهْبَانِيَّةُ، أو الرُّهْبَانُ، بالضم، قد يكونُ واحِداً، ج: رَهابِينُ ورَهابِنَةٌ ورَهْبانُونَ. و«لا رَهْبانِيَّةَ في الإسْلامِ»: هي كالاخْتِصاءِ، واعْتِناقِ السَّلاسِلِ، ولُبْسِ المُسوحِ، وتَرْكِ اللَّحْمِ ونَحْوِها. و أرْهَبَ : طالَ كُمُّهُ. و الأَرْهابُ ، بالفتحِ: ما لا يَصِيدُ من الطَّيْرِ، وبالكسرِ: قَدْعُ الإبِلِ عنِ الحَوْضِ. وكَسَكْرَى: ع. وسَمَّوْا: راهِباً ومُرْهِباً، كَمُحْسِنٍ، ومَرْهُوباً. ورَهَّبَتِ النَّاقَةُ تَرْهِيباً فَقَعَدَ يُحاييها: جَهَدَها السَّيْرُ، فَعَلَفَها حتى ثابَتْ إليها نَفْسُها..” ( الفيروزبادي ، 1993م ) .
“رهب رهباً من باب تعب خاف والاسم الرهبة فهو راهب من الله والله مرهوب والأصل مرهوب عقابه والراهب عابد النصارى من ذلك والجمع رهبان وربما قيل رهابين وترهب الراهب انقطع للعبادة والرهبانية من ذلك قال تعالى : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) (الحديد: من الآية27)” مدحهم عليها ابتداءً ثم ذمهم على ترك شرطها بقوله ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(الحديد: من الآية27) لأن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أحبطها “(الفيومي،1987م ،ص92)
“رَهِب ، بالكسر، يَرْهَبُ رَهْبَة و رُهْبا ، بالضم، و رَهَبَا ، بالتـحريك، أَي خافَ. ورَهِب الشيءَ رَهْبا ورَهَبا ورَهْبة : خافَه.
والاسم: الرُّهْب ، والرُّهْبى ، والرَّهَبوت ، والرَّهَبُوتـي ؛ ورَجلٌ رَهَبُوت . يقال: رَهَبُوت خَيرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، أَي لأَن تُرْهَب خَيرٌ من أَنْ تُرْحَمَ.
وتَرَهَّب غيرَه إِذا تَوَعَّدَه؛ وقال اللـيث: الرَّهب ، جزم، لغة فـي الرَّهَب ؛ قال: والرَّهْباء اسم من الرَّهَب ، تقول: الرَّهْباء من اللهِ، والرَّغْباءُ إِلـيه.
وفـي حديث الدُّعاءِ: رَغْبةً ورَهْبة إِلـيك. الرَّهْبة : الـخَوْفُ والفَزَعُ، جمع بـين الرَّغْبةِ والرَّهْبة ، ثم أَعمل الرَّغْبةَ وحدها، كما تَقدَّم فـي الرَّغْبةِ. وفـي حديث رَضاعِ الكبـير: فبَقـيتُ سنَةً لا أَحَدِّثُ بها رَهْبَتَه ، قال ابن الأثير هكذا جاء في رواية أَي من أَجل رهبته ، وهو منصوب علـى الـمفعول له.
وأَرْهَبَه ورَهَّبَه و استَرْهَبَه : أَخافَه وفَزَّعه. “. ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ )
ووردت كلمة الرهبة في القرآن الكريم بمعنى الخشية وتقوى الله سبحانه وتعالى وفيما يلي عدد من الآيات التي وردت فيها الكلمة:
{في نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَة للَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِم يَرْهَبُونَ } (الأعراف: 154).
{وأَوْفُوا بعَهْدِي أُوف بِعَهْدِكُمْ وإيَّايَ فَارْهَبُون } (البقرة: 40).
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وعَدُوَّكُم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } (الأنفال: 60).
{واسْتَرْهَبُوهُمْ وجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظيمٍ } (الأعراف: 116).
{لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم من الله } (الحشر: 13).
{إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُون فِي الخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَباً ورَهَبَاً } (الأنبياء: 90).
” وقد وردت في القرآن الكريم عدة ألفاظ تدور معانيها حول مادة الإرهاب وهي: الخوف وقد وردت مادته مئة وثلاثاً وعشرين مرة، ومادة الرعب وردت خمس مرات، ومادة الروع وردت مرة واحدة فقط، ومادة الفزع وردت ست مرات، ومادة الرهبة وردت ثماني مرات.”( اليوسف ، 1425هـ ، ص6 )
“كما وردت مصطلحات أخرى تندرج ضمن الإرهاب وهي البغي والطغيان والظلم والعدوان والخيانة والغدر والقتل والسرقة والحرابة، وهي صور ووسائل وأدوات هدامة تشيع الخوف في المجتمع وترهب الآمنين فيه وتعوق المسلمين من حسن خلافتهم في الأرض وحسن عبادتهم لله سبحانه وتعالى وإتقانهم لعمارة الكون، ولكن هناك جريمتين من بين هذه الجرائم أبرزهما الإسلام وحدد العقوبات لهما لأهميتهما وخطورتهما على المجتمع الإسلامي وهما: الحرابة والبغي.” ( المصدر السابق ، ص 6 )
الإرهاب اصطلاحاً :
“التطور التاريخي لتعريف الإرهاب:في اتفاقية لاهاي 1907 المادة “22”نصت على أن الضرب بالقنابل من الجو يعتبر عملا غير مشروعا إن كان يهدف إلى إرهاب السكان.
في عام 1934 اتخذت عصبة الأمم قرارا بتشكيل لجنة خبراء لدراسة ظاهرة الإرهاب .
في عام 1946 وبعد عام من إنشائها أصدرت الجمعية للأمم المتحدة قرارا باسم “مبادئ الحقوق الدولية”
صدر قانون “الجرائم التي تهدد السلام والأمن “في عام 1954
أول قرار اتخذته الأمم المتحدة مختصا بمحاربة الإرهاب كان القرار رقم”2197″بتاريخ 18/12/1972
ونص القرار على إجراءات منع الإرهاب الدولي ودراسة أسباب وأشكال الإرهاب.
في سبتمبر 1992 أدرج موضوع “الإرهاب” رسميا في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف وضع تعريف محدد للإرهاب ..ولكن تم تصريف الأمر ب”الاستعانة بلجنة القانون الدولي في هذا المجال
وهناك تعريف الدول العربية للإرهاب الذي تضمنته “الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب”التي وقعت في القاهرة في يوم”22/4/1988″ حيث نص التعريف للإرهاب بأنه:”كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أيا كانت بواعثه أو أغراضه ويقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر” .وخصصت الاتفاقية العربية فقرة منفصلة لتوضيح أن حالات الكفاح بمختلف الوسائل ضد الاحتلال الأجنبي لاتعد جريمة وفقا لمبادئ القانون الدولي .
من أشهر تعريفات الإرهاب من قبل الغربيين تعريف “جيفانوفيتش”حين قال أن “الإرهاب هو عبارة عن أعمال من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الإحساس بالتهديد مما ينتج عنه الإحساس بالخوف “ومن تعريفات الفقهاء العرب والمسلمين تعريف الدكتور صلاح الدين عامر حيث يقول:”إنه اصطلاح يستخدم في الأزمنة المعاصرة للإشارة للاستخدام المنظم للعنف لتحقيق هدف سياسي وبصفة خاصة جميع أعمال العنف التي تقوم منظمة سياسية بممارستها بخلق جو بعدم الأمن “ويرى بعض الباحثين أن التعريف الأمثل لابد أن يشتمل على أمرين :التجريد والموضوعية والحياد وعدم إغفال أي جانب من جوانب الظاهرة ” ( آل ناجي ، د: ت ، ص 4 ) .
“وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب لتحقيق أهداف سياسية.” ( اليوسف ، 1425هـ ،ص7 ) .
“استخدام العنف غير القانوني (أو التهديد به) بأشكاله المختلفة كالاغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب والنسف بغية تحقيق هدف سياسي معين، مثل كسر روح المقاومة والالتزام لدى الأفراد وهدم المعنويات لدى الهيئات والمؤسسات أو وسيلة من الوسائل للحصول على المعلومات أو المال، وبشكل عام استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية” ( المصدر السابق ،ص7)
” والإرهاب في قاموس علم الجريمة A Dictionary of Criminology نمط من العنف يتضمن الاستخدام المنظم للقتل أو التهديد باستخدامه أو الأذى الجسدي والتدبير لإنزال الرعب أو الذعر (الصدمة) بجماعة مستهدفة (أوسع مدى من الضحايا الذين أنزل بهم الرعب) لإشاعة أجواء من الرعب”( المصدر السابق، ص7)
“الإرهاب والعنف والتطرف هو أي سلوك يهدف إلى إشاعة الرعب أو فرض الرأي بالقوة. والفساد والتدمير كلها صور من صور الإرهاب والعنف والتطرف ، كما أن ترويع الآمنين وإحداث الفوضى في المجتمعات المستقرة هو شكل حديث من أشكال الإرهاب والعنف والتطرف الذي أصبح ينمو مع شيوع الأفكار المتطرفة التي تهدف إلى إقصاء الآخر وفرض الأفكار بالقوة والتهديد بالسلاح. على أن هذه الأفكار ليست محصورة بمكان أو زمان معين وإنما أصبح العالم كله مسرحاً لها.” ( المصدر السابق ، ص 8 ) .
“الإرهاب هو إستراتيجية عنف محرم دولياً ، تحفزها بواعث عقائدية ، وتتوخى إحداث عنف مرعب داخل شريحة خاصة من مجتمع معين ، لتحقيق الوصول إلى السلطة أو للقيام بدعاية لمطلب أو لمظلمة بغض النظر عن ما إذا كان مقترفو العنف يعملون من أجل أنفسهم أو نيابة عنها أو عن دولة من الدول ” (فرج ، 1426هـ ، ص 16 ) .
” الإرهاب كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع والمحرم شرعاً يلجأ إليه الجاني تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر ” ( المصدر السابق ، ص 16 )
ويتضح من التعاريف السابقة التي تم استعراضها ارتباط الإرهاب بالعنف وأن الإرهاب لا بد أن يجد فكراً معيناً لكي يساعد على انتشاره هذا الفكر يأخذ نمط التطرف وإقصاء الآخر.
أنواع الإرهاب
” إرهاب عقائدي ويشمل الإرهاب اليساري ، والشيوعي ، وإرهاب اليمين المتطرف ، والإرهاب الصهيوني ، والهندوسي .
إرهاب وطني ويشمل العمليات التي تستهدف إخراج المحتلين أو تدمير آلياتهم ومصالحهم أو اغتيال رموزهم .
الإرهاب الديني أو العرقي أو اللغوي مثل العمليات الإرهابية التي نفذها أفراد طائفة التاميل ضد الحكومة السريلانكية ومثلها عمليات السيخ الهندوسي ضد المسلمين .
الإرهاب المرضي الناتج عن اعتلال عقلي أو نفسي .” ( فرج ، 1425هـ ، ص19 )
ويمكن تقسيم الإرهاب أيضاً إلى أربعة أقسام :
” 1-إرهاب السلطة ضد رعاياها مثل محاكم التفتيش في ألمانيا ، وحملات التطهير الستالينية في الاتحاد السوفيتي .
2-إرهاب المقهورين والمظلومين وتمثله حرب الشعوب التي لا تملك قوة أو مدداً كافياً ليؤهلها للقيام بحرب تحرير ضد عدوها .
3-إرهاب الحروب الأهلية الناتجة عن صراع ديني بين مجموعتين سكانية تعيشان معاً .
4-إرهاب التخريب وهو إرهاب سياسي أيدولوجي غالباً ما ينفذ عن بعد بواسطة منظمة كبيرة مقرها خارج المدينة . ” ( المصدر السابق ، ص 19 ) .
“ويمكن تصنيف الإرهاب إلى صنفين رئيسين هما :
أ – صفة الإرهاب من حيث الفاعل ويندرج تحته نوعان من الإرهاب هما :
•الإرهاب الفردي : ما يقوم به شخص واحد أو عدة أشخاص محدودين من أعمال العنف .
•الإرهاب الجماعي : وهو إرهاب طائفة دينية ووطنية ضد أخرى أو شعب آخر أو أمة ضد أخرى ، ويتخذ شكلين هما : إرهاب المجموعات الوطنية ، وإرهاب المجموعات العقائدية .
ب – صفة الإرهاب من حيث الفعل :
•الاختطاف واحتجاز الرهائن ويقوم على مفهوم احتجاز أو أسر شخص أو أشخاص معينين في مكان سري ، وقد يكون الاختطاف للطائرات بكامل ركابها .
•الكمائن وهي من أنواع الهجوم المباغت والمفاجئ يتم بمقتضاه الاستيلاء على الهدف بعيداً عن أنواع الحماية والحراسة التي تخصص له أو يحيط بها نفسه في مكان إقامته أو عمله .
•أسلوب الاغتيال : الأسلوب المعروف بالعنف الإرهابي ويتم عادة للسياسيين والإعلاميين والليبراليين ، وقد يتم لرجال الدين المعارضين لفكر الإرهابيين .
•أسلوب العنف الطائفي في مهاجمة بعض المجموعات لبعض المواطنين ، إضافة إلى ممتلكاتهم الخاصة ، كذلك مهاجمة المساجد أو الكنائس أو المعابد .
•التفجيرات وهي عادة تتم لأماكن عبادة ، أو أماكن لإيواء أشخاص ينظر إليهم على أنهم أعداء أو من مواطني دول معادية رغم أن منهم ضحايا لسياسات معينة ، ومسالمين أبرياء ، وقد تحمل تلك التفجيرات رسالة للدولة التي نفذت فيها التفجيرات بهدف الابتزاز السياسي أو الديني أو المالي أو بهدف مواجهة نظام الحكم في تلك الدولة .
وهنالك عمليات أخرى كالقنص والتهديد بالإرهاب والحرب النفسية باستخدام البلاغات الإرهابية الكاذبة .. وغير ذلك “( فرج،1425هـ ، ص 20 )
أسباب الإرهاب
“هناك عوامل قد تهيئ لحدوث الفرصة السانحة للسلوك الإرهابي ومن هذه العوامل ما يأتي :
1-تردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
2-قيام أنماط من السلوك المشابهة في بقاع أخرى من العالم.
3-عدم وجود منافذ للجوار.
4-القناعة باستحالة تغيير الواقع بأي وسيلة أخرى.
5-وجود رموز فكرية تُنَظَّر للسلوك المنحرف.
6-التطرف على المستويات الثلاثة السابق ذكرها ” ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 14 ) .
7-” اتباع الفتاوى الشاذة والأقوال الضعيفة والواهية، وأخذ الفتاوى والتوجيهات ممن لا يوثق بعلمه أو دينه، والتعصب لها. مما يؤدي إلى الإخلال بالأمن وشيوع الفوضى وتوهين أمر السلطان الذي به قوام أمر الناس وصلاح أمور معاشهم وحفظ دينهم.
8- التطرف في محاربة الدين وتناوله بالتجريح والسخرية والاستهزاء والتصريح بإبعاده عن شؤون الحياة، والتغاضي عن تهجم الملحدين والمنحرفين عليه وتنقصهم لعلمائه أو كتبه ومراجعه وتزهيدهم في تعلمه وتعليمه.
9- العوائق التي تقام في بعض المجتمعات الإسلامية في وجه الدعوة الصادقة إلى الدين الصحيح النقي المستند إلى الكتاب والسنة وأصول الشرع المعتبرة على وفق فهم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين. فإن التدين فطرة فطر الله عباده عليها، ولا غنى لهم عنه، فمتى حرموا من العلم بالدين الصحيح والعمل به تفرقت بهم السبل وتلقفوا كل خرافة وتبعوا كل هوى مطاع وشح متبع.
10- الظلم الاجتماعي في بعض المجتمعات ؛ وعدم التمتع بالخدمات الأساسية، كالتعليم والعلاج، والعمل، أو انتشار البطالة وشح فرص العمل، أو تدهور الاقتصاد وتدني مداخيل الأفراد، فكل ذلك من أسباب التذمر والمعاناة، مما قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه من أعمال إجرامية.
11- عدم تحكيم الشريعة الإسلامية في بلاد غالبية سكانها من المسلمين، وإحلال قوانين وضعية محلها مع وفاء الشريعة بمصالح العباد وكمالها في تحقيق العدالة للمسلمين وغيرهم ممن يستظل بظلها، ويتمتع برعايتها، كيف لا وهي شرع الله الذي(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (سورة فصلت أية 42)
12- نزعة التسلط وشهوة التصدر التي قد تدفع ببعض المغامرين إلى نشر الفوضى وزعزعة أمن البلاد، تمهيداً لتحقيق مآربهم غير آبهين بشرع ولا نظام ولا بيعة. ” ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 235 )
ويرى فرج ( 1426هـ ، ص 26 ) أن أسباب الإرهاب تنقسم إلى قسمين :
أولاً : ألأسباب العامة بظاهرة الإرهاب في العالم :
1-أسباب جغرافية :
كاتساع حدود الدول بالنسبة للقوات المسلحة وأجهزة الأمن بها والتي تتسم بالضعف والانتماءات الطائفية لقياداتها ، وتوفر أماكن وتضاريس معينة ومناطق عشوائية تصلح كمخابئ للمترددين وتسهل العمليات الإرهابية .
2-أسباب سياسية :
كالرغبة في تنبيه الرأي العالمي نحو مشكلة يهتم بها المنفذون للعملية الإرهابية ، أو التأثير على القرارات السياسية ، والسياسة الدولية وعدم قدرتها على وضع حد للظلم والاضطهاد والعنصرية والاحتلال ، واستخدام الدول الكبرى لحق النقض ( الفيتو ) ضد أي قرار يصدر لصالح الدول المحتلة والشعوب المستضعفة ، وغياب الديموقراطية والفراغ السياسي .
3-أسباب مرضية ونفسية :
كالفشل والعجز واليأس والإحباط والملل والحياة الروتينية التي يحياها كثير من الشباب ، وسيادة مشاعر الأنانية عند الأغنياء ، وعدم الاحترام المتبادل ، والبطالة ، والاختلالات العقلية التي تؤدي بدورها إلى العنف والحقد على المجتمع وأفراده والانتقام منهم .
4-أسباب إعلامية :
غالبية وسائل الإعلام غارقة في برامج بعيدة عن واقع المسلمين المعاصر ، وبعيدة عن تطلعات الشباب وتلمس احتياجاتهم ومناقشة مشكلاتهم ، وبث الوعي الديني الصحيح مما يجعلها تساهم بشكل أو بآخر في تغذية الشعور بالتطرف والإرهاب .
5-أسباب اقتصادية :
الأزمات الاقتصادية للدول والمجتمعات المطحونة من الأسباب الخطيرة والمحركة لموجات الإرهاب في العالم كما أن التقدم العلمي والتكنولوجي للأنظمة المصرفية في العالم زاد من سهولة انتقال وتحويل الأموال بين شبكات الإرهابيين ولا ننسى معاناة الأفراد في دول العالم الثالث من مشكلات اقتصادية تتعلق بالإسكان والديون والبطالة والفقر والتضخم في الأسعار والمواصلات والصحة .
6-أسباب أسرية :
التفكك الأسري ، وغياب الدور الرقابي للوالدين على الأبناء ، وسوء المعاملة الوالدية ، والتدليل الزائد من الوالدين أو الإهمال ، وغياب لغة الحوار مع الأبناء وإشراكهم في اتخاذ القرارات خاصة إذا كانت تتعلق مباشرة بمصيرهم كالتعليم والعمل والزواج وغيرها .
7-جماعة الأصدقاء :
وهي من أهم العوامل التي تؤدي بالفرد إلى الانخراط في جماعات التطرف والإرهاب لما لها من دور في التأثير والتحريض ، وانخراط الشباب في هذه الجماعات يكون أحياناً بدافع الصداقة أو المصلحة المالية أو نتيجة التأثير والإيحاء من الأصدقاء .
8-أسباب تربوية :
نقص وضعف الثقافة الدينية في المناهج التعليمية من الابتدائي وحتى الجامعة في معظم البلاد الإسلامية ، والاعتماد على طرائق تدريس تقليدية كالتلقين والحفظ وإغفال طرائق التدريس التي تنمي الحوار والابداع والتحليل والتخيل ، كذلك إسناد المواد الدينية لغير المتخصصين في العلوم الشرعية وعدم وضع برامج تربوية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية ومنها الإرهاب ، ولا ننسى التطرف في تدريس المواد الدينية وفهمها بطريقة لا تتفق مع أهداف تعليمها وتعلمها ، كل ذلك هيأ لخروج تيارات متطرفة انتهى بها الحال إلى اللجوء إلى العنف والإرهاب كوسيلة لتحقيق أغراضهم .
9-أسباب فكرية :
يعاني العالم الإسلامي اليوم من انقسامات فكرية حادة بين تيارات مختلفة ، وأبرز هذه التيارات : تيار علماني يدعو إلى بناء الحياة على أساس علماني بمنأى عن القيود الشرعية والتقاليد والقيم الاجتماعية ، وفي الجانب الآخر نجد التيار الديني المتطرف البعيد عن الوسطية والاعتدال ، وكل جانب يرفض فكر الآخر ويقاومه وينظر إليه نظرة ريب وشك ، وقد أوحى هذا الوضع لبعض المتطرفين من جهلة المسلمين لسلوك طريق الإرهاب الذي لا يقره الدين ولا يتفق مع أي توجه حضاري . ” (فرج ،1426هـ ، ص 26 )
ثانياً : الأسباب الخاصة :
“1-نقص التربية الدينية في بعض المجتمعات الإسلامية .
2-إساءة الطريقة والأسلوب التربوي في توصيل الثقافة الدينية .
3-الجهل بالدين وبفقه العصر ومقتضياته أدى بالشباب إلى إصدار الفتاوى والأحكام والاستشهادات المختلفة للنصوص دون الرجوع للمختصين في العلوم الشرعية .
4-التطورات على الساحة الإسلامية والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
5-الفراغ الديني لدى الشباب وانشغالهم بمسائل فرعية وخلافية في الدين .
6-عدم فهم حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن بيده تغيير المنكر بالقوة .
7-الخضوع التام والطاعة العمياء لقادة الجماعات الإرهابية في بعض المجتمعات الإسلامية وذلك أيضاً لسد حاجاتهم المادية .
8-عدم المشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية . ” ( المصدر السابق ، ص32 ) .
سمات الشخصية الإرهابية
“1/الجور على حقوق أخرى يجب أن تُراعى, وواجبات يجب أن تؤدى . حفطها الشارع الحكيم ورتب الأجر على من حافظ عليها
2/ الالتزام المتشدد في محاسبة الناس على النوافل والسنن وكأنها فرائض والاهتمام بالجزئيات والفروع والحكم على إهمالها بالكفر والإلحاد مع فضل من قام بها في الدنيا والآخرة
3/ سوء الظن بالناس ، والنظر إليهم من خلال منظار أسود يخفي حسناتهم على حين يضخم سيئاتهم .
4/ الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة
5/ إدخال الخوف على نفس المسلمين والترويع بالحديث عن مؤامرات تدبر للإسلام وتُحاك ضدهم لا صحة لها
6/ أغلب المتطرفين من أنصاف المتعلمين ومصادر تعلمهم بالسماع من الخطباء والوعاظ مباشرة أو عبر التقنيات الجديدة
7/ يبيح المتطرفون القتل والتمرد على الشعوب الكافرة على حد قولهم وسرقة أموالهم بحجة توزيعها على فقراء المسلمين
8/ تفشي حالات التزاوج بين المتطرفين أنفسهم فكل واحد يزوج ابنته أو أخته لصاحبه ونحو ذلك
9/ العزلة في المجتمع وهجر الوظائف الحكومية وفي بعض الدول التي تفرض التجنيد الإجباري نجدهم يهربون من الخدمة العسكرية .
10/ يحرّمون جميع أنواع التعامل مع البنوك دون تفصيل وإيضاح لتعاملات البنك ويعتبرونها ممن يتعامل بالربا وأنهم محاربون لله .
11/لا يعترفون بالبطاقات الشخصية أو العائلية أو وجود التلفزيون والراديو في حالات نادرة ويعتبرونها وسائل للشيطان ودليل على الفساد بوجه عام دون النظر للفائدة والخير المتاح من استخدامها
12/ تتسم الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بأسلوب مغلق جامد عن التفكير أو ليس لديه القدرة على تقبُل أية معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها وعدم القدرة على التأمل والتفكير والإبداع .
12/ يتسم المتطرَّفون بشدة الانفعال والاندفاع والعدوان والعنف والغضب عند أقل استثارة ، فالكراهية مطلقة وعنيفة للمخالف أو للمعارض في الرأي والحب الذي يصل إلى حد التقديس والطاعة العمياء لرموز هذا الرأي خاصة في فئات الشباب
13/ الخروج على الحكام من أبرز سماتهم ، ومسوغهم في ذلك دعوى تكفيرهم لعدم حكمهم بما أنزل الله أو لمخالفتهم للشرع أو لعمالتهم للغرب الكافر على حد زعمهم.
15/ الحكم على المجتمعات الإسلامية المعاصرة بأنها مجتمعات جاهلية والحكم على من لا يهجرها بالكفر ( أي تكفير المجتمعات القائمة ).
16/ الحكم على بلاد المسلمين التي لا يقيم حاكمها الحدود الشرعية بأنها دار كفر لا دار إسلام .
17/ يرجعون في جذورهم للخوارج في مسألة التكفير والحاكمية
18/ التعصب من أبرز سماتهم حيث يصادرون الآخرين رأيهم ويرون أنهم على حق ومن عداهم على الضلال والباطل .
19/ يبلغ هذا التطرف مداه حين يُسقط المتطرف عصمة الآخرين ويستبيح دمائهم أو أموالهم لأنهم خارجين عن الإسلام وكفار على حد زعمهم .
20/ منهجهم المتطرف يقوم على تفسير النصوص حرفيا دون مراعاة مقاصد الشريعة التي ضمنت حقوق الآخرين وتحريم الاعتداء عليها 21/ يقوم المتطرفون والإرهابيون بتكوين منظمات وخلايا سرية يتم من خلالها التغرير بالشباب للقيام بأعمال عنف وإرهاب ضد القادة أو معارضيهم من العلماء والدعاة الآخرين أو من العلمانيين على حد قولهم ، والهدف إشاعة الفوضى والانتفاضة على مرافق الحكم للوصول إلى سدة الحكم تحقيقا لمبدأ الحاكمية الذي يؤمنون به ويحلمون بالوصول إليه .
22/ لا يؤمنون بالحوار مع الآخر ولا يؤمنون بحرية الدين أو التعامل مع الأجنبي وبقائه في البلاد الإسلامية التي أقرها إلا سلام مستندين على فهم خاطئ لشبهة إخراج المشركين من جزيرة العرب ولو درسوا سيرة النبي ? في تعامله مع اليهود في المدينة وكفار قريش في مكة ، وسيرة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تعامله مع اليهودي واحتكامه إلى القاضي في قضية الدرع الذي أخذه اليهودي بحكم القاضي ، لعرفوا خطأ اعتقادهم وسوء فهمهم وجهلهم بمقاصد الشريعة الإسلامية .” ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 50 )
موقف التربية الإسلامية من تحدي الإرهاب
إن موقف التربية الإسلامية من قضية الإرهاب موقف واضح حيث أن الإسلام ” يمنع ويعاقب بأشد العقوبات في مسألة أمن وسلامة المجتمع .. فيقطع يد من يرهب الناس ويأخذ أموالهم ( ويقطع من خلاف ) من عمل على مقاطعة الركبان وقطع طرق معاش الناس وأسفارهم .. وكذلك يعاقب بأقسى العقوبات الرادعة من تعدى على أعراض الناس وارتكب الفاحشة .. وهكذا تتواصل العقوبات إلى أعلى سقف في الجريمة ( قتل النفس ) . هذه العقوبات التي تحفظ أمن وسلامة المجتمع لم يترك تشريعها حتى للرسول محمد صلى الله عليه وسلم .. إنما أنزلها الله تعالى بواسطة الوحي .. أما قي ما يتعلق بإرهاب المسلم للكافر فهذا أيضاً من أوامر الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى الحكم بالعدل يعلم بوسائل ضبط المجتمع ولا يرهب المسلم إلا من اعتدى عليه يقول الله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(البقرة: من الآية194)
ويقول تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ )(لأنفال: من الآية60) .
ولكن هؤلاء الأعداء .. ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )(لأنفال: من الآية61) أذاً ليس في الإسلام شهوة الانتقام .” ( آل ناجي ، د: ت ، ص 4 ) .
إن التربية الإسلامية تدعو المسلم إلى الاعتدال والتوازن ، لينشأ المسلم سوياً ، وبما يحقق له التربية السليمة بأبعادها المختلفة .
” والتربية الإسلامية ليست تربية مغالية أو مشطة في أساليبها واتجاهاتها ونظرتها إلى مختلف جوانب الشخصية الإنسانية ، بل تنظر إليها نظرة وسطية معتدلة متوازنة شمولية ” ( الزنتاني ، 1993م ، ص 446 ) .
“وخاصية الاعتدال في التربية الإسلامية تكفل لفطرة الإنسان وطبيعته وكسبه ، كما شاء الله تعالى : هداية الإيمان والعقيدة فتزكي روحه ، وتفتح الفكر وحريته فتنمي عقله وتزيد معارفه وعلومه ، واتزان الوجدان بانفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه فترقي خلقه ” ( المصدر السابق ، ص 446 ) .
و ” يكسب الإسلام التربية توازناً بين النظرية والتطبيق ، وتوازناً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وتوازناً بين أشواق الفرد الروحية وتلبية حاجاته المادية والاجتماعية ، وهذا التوازن في التربية الإسلامية يجعلها أقرب ما تكون إلى طبيعة الأشياء ” ( غبان وآخرون، 1415 هـ ، ص 111 ) .
سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب
إن الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب والتطرف الديني تكون بالأمور التالية :
“1) المبادرة إلى إزالة الأسباب المؤدية للجريمة، والعمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، والاحتكام إلى شرع الله تعالى وتطبيقه في مختلف شؤون الحياة، فلا شرع أو في ولا أكمل منه في جلب مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم،ولا أرفق منه ولا أقوم بالعدل ولا أرحم ) وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ( سورة المائدة أية 50)
2) بيان فداحة الضرر العام والخاص الذي يصيب الدولة والأمة والمجتمع والأفراد من جراء أعمال العنف والتخريب والتدمير.
3) التربية الواعية الهادفة المخطط لها من أهل العلم والصلاح والخبرة، ووضع منهاج عملي واضح سهل ميسر لتحقيق ذلك.
4) تحرير المصطلحات الشرعية وضبطها بضوابط واضحة، وذلك كمصطلح الجهاد، ودار الحرب، وولي الأمر، ما يجب له وما يجب عليه، والعهود: عقدها ونقضها. ” ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 239) .
5) تطبيق مبدأ حسن التعامل والحكمة في التعامل مع الآخرين ، فبه تسعد الأمة ، وتسلم من الانهيار والسقوط ، ولا شك أن الحياة تحتاج إلى التعامل مع المسلمين و غير المسلمين من عموم الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين حيث لا يمكن أن تتم بدونه ، والتعامل الصحيح يسهم في تكوين نظام دقيق هو الأساس في نجاح التعايش وتقبل أفكار الآخرين من المسلمين وغيرهم والعدل معهم وعدم ظلمهم ، قال تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)
وإذا كان هذا مع الكفار ، فهو مع المسلمين من باب أولى .
ومن الملاحظ سوء الفهم في جانب التعامل مع أهل الكتاب (من خلال الاطلاع على الأحداث في السنوات الأخيرة من استباحة دمائهم وأموالهم والتعدي عليهم بالقتل والتفجير) ، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً». “(البخاري ، 6/3097)
وقد نسي الكثير هذا الحديث وغيره أو تناسوه بحجة العمل بأحاديث إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وكأنهم لا يعرفون أن قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كافراً مشركاً مجوسياً ومع ذلك فقد أدخله عمر رضي الله عنه لا لجزيرة العرب فقط بل إلى المدينة للحاجة إليه في مهنته ، حتى كتب الله الشهادة لعمر في المدينة وهو يصلي رضي الله عنه وأرضاه .
6)إيجاد الحوار المفتوح من رجال الفكر الديني والعلماء لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ، ومناقشة بعض الجوانب التي تؤدي إلى التطرف .
7)إشغال الفراغ الفكري للشباب وتوجيههم وتوعيتهم توعية دينية وإعلامية كافية .
8)معالجة أسباب التطرف والغلو كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ( الخلافات الأسرية ، الطلاق ، غياب الأب أو الأم عن القيام بدورهم في حياة الطفل ، الحرمان ، سوء المعاملة ، الفقر ، البطالة ، الجهل ، ضعف الدور التربوي للمؤسسات التربوية ) .
9)العمل بمبدأ التسامح ، وتقبل الآخرين كما هم ، والانفتاح الفكري .
10)الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( باعتبار الغلو والتطرف منكر يجب إنكاره والدعوة إلى تركه ) وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .
5= التربية الإسلامية وتحدي غياب دور المرأة
?مكانة المرأة في الإسلام
?الفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل
?المرأة المسلمة بين التهميش والتحرير
?كيف نفعّل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم
مكانة المرأة في الإسلام
“قلما نجد في أي دين من الديانات أو نظام من المجتمعات ذلك التكريم الذي أعطاه الإسلام للمرأة . ففي كل المجتمعات التي سبقت ظهور الإسلام على اختلاف زمانها ومكانها لم تكن المرأة تتمتع بنظرة محترمة . وكانت مكانتها الاجتماعية تتسم بالدونية بدرجات متفاوتة في هذه المجتمعات تشتد حيناً وتخف حيناً آخر ” ( مرسي ، 1996م ، ص 157 ) .
ثم جاء الإسلام فرفع مكانة المرأة ، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه ،
حيث أثبت لها حقوقها المسلوبة في الإرث والنفقة وفي الحياة وفي التقدير والبر والإحسان وفي البيع والشراء وفي سائر العقود . وقبل ذلك حفظ لها في صغرها حق الرضاع، والرعاية، وإحسان التربية وفي هذا حفظ لحقوقها المادية والمعنوية .
فجعل النساء شقائق الرجال ، وخير الرجال خيرهم لأهله .
” ويبرز تكريم الإسلام للمرأة في جميع شؤون حياتها منذ ولادتها ، وحتى بعد وفاتها ، ومن صور التكريم :
1-خلق الله الخلق ، وكلفهم بعبادته ، وجعلهم مسؤولين عن ذلك رجالاً ونساءً ، ولم يفرق بينهم ، ورتب الجزاء على هذا التكليف ، قال تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء:123،124) 2-من حكمة الله تعالى – وهو العليم بخلقه – أن جعل لكل جنس منهم سمات تغلب عليه ، وصفات تظهر عليه ، فالعاطفة الجياشة ، والإحساس الرقيق ، والتأثر السريع من صفات المرأة الجبلية ، ولذا جعل الله سبحانه التكليف مناسباً لصفاتها ، فلم يكلفها بما لا تطيق ، وجعل للرجل القوامة عليها بمقتضى تكليفه وصفاته التي ميزه الله بها ، فلله الحكمة البالغة .
3-عظم الأجر برعايتها صغيرة محبوبة ، روى مسلم ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” من عال جاريتين حتى تبلغا ، جاء يوم القيامة أنا وهو ” وضم أصابعه . ( )
4-أرشد الإسلام إلى ضرورة تربيتها منذ الصغر على الدين والأخلاق والطهر والعفاف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ” ( )
5-ولأهمية حياتها مع زوجها أمر الإسلام باستشارتها فيمن تقدم لخطبتها ، وحدد معالم من يقبل وهو الدين والخلق ، قال صلى الله عليه وسلم : ” إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ”
6-أمر بتكريمها ورعايتها من قبل زوجها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ” ( )
وقال صلى الله عليه وسلم : ” وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، “( )
7-أما كونها أماً فقد أوجب لها من الحقوق ما لا يخطر على نظام بشري قديماً وحديثاً ، ويكفي أن الله سبحانه جعل حقها بعد حقه جل وعلا فقال : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (الإسراء:23 ، 24 ) (وزارة المعارف ، 1422هـ ، ص 153 ) .
” ويسوي الإسلام بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانية الانطولوجية ( الوجودية ) ، حيث خلق الله الاثنين من طينة واحدة ومن معين واحد ، فلا فرق بينهما في الأصل والفطرة ، ولا في القيمة والأهمية ، والمرأة هي نفس خلقت لتنسجم مع نفس ، وروح خلقت لتتكامل مع روح ، وشطر مساو لشطر .
قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً*أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى*ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى*فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) (القيامة:36– 39 ) وقال تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً)(فاطر: من الآية11) والإسلام يقرر أن قيمة أحد الجنسين لا ترجع إلى كون أحدهما ذكراً والآخر أنثى بل ترجع إلى الكفاية الشخصية والعمل الصالح ، يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) فهذه الآية الكريمة تنص فيما تنص على أن ليس للجنس من حساب في ميزان الله إنما هناك ميزان واحد يعرف به فضل الفرد وتتحدد به قيمته (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : من الآية 13 ) وهكذا يقرر منهج الله سقوط جميع الاعتبارات الأخرى المزعومة لأحد الجنسين دون الآخر ، ويرفع ميزاناً واحداً بقيمة واحدة ، فلا اعتبار للذكورة والأنوثة في حد ذاتها ، وإنما الاعتبار بالعمل الصالح وحده والذي يجزى عليه الجميع ذكراناً وإناثاً ، بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس ، فالكل سواء في الإنسانية بعضهم من بعض والكل سواء في الميزان ، يقول تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(آل عمران: من الآية195) وهكذا يمحو الإسلام كل التصورات السخيفة التي كانت تتصورها الإنسانية عن المرأة والتي كانت ترى فيها منبعاً للرجس والشر والبلاء ، وهكذا يعطي الإسلام للمرأة حقوقها كاملة في القيمة الإنسانية ، ويرد إليها كرامتها ، بعد أن كانت مجردة منها في الحضارات السابقة التي سلبتها كل خصائص الإنسانية وحقوقها . ( الخشت ، 1404هـ ، ص 85 ) .
الفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل
قال الله تعالى في محكم التنزيل : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )(آل عمران: من الآية36) .
” وجرياً على سنة الله تعالى في الطبيعة كان لابد أن يختلف كل من الرجل والمرأة في طبيعة التكوين والفطرة ، حتى إذا ما التقى الاثنان وجد كل منهما عند الآخر ما ليس موجوداً عنده و عند أمثاله . ولذا نرى كلاً من الاثنين يسعى سعياً حثيثاً إلى الاتحاد بصنوه المتمم له ، ويلتمس السعادة والكمال في الامتزاج به” ( الخشت ، 1404هـ ، ص6 ) .
ويمكن إجمال الفوارق بين المرأة والرجل في قسمين :
القسم الأول ، بنيان الجسم ووجوه النشاط الفسيولوجي :
كالبلوغ وتغيراته ، والحساسية البدنية ، والحمل ، والحيض …
القسم الثاني ، السمات النفسية والعقلية :
كسرعة الاستجابة للدوافع ، وسرعة التأثر العاطفي ، والأمومة …
ومن خلال هذا تتضح ” طبيعة التباين الموجود بين المرأة والرجل ، وكيف أن هذا التباين لا يأتي فقط من الشكل الخاص للأعضاء الجنسية والحوض ، ومن وجود الرحم والحيض والحمل وخلافه . بل ينبع من طبيعة أكثر عمقاً ؛ حيث ينشأ الخلاف بين الجنسين من تكوين الخلايا والأنسجة ، ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيميائية محددة تفرزها الغدد المختلفة . فالأنثى تحمل طابعاً أنثوياً في كل خلية من خلايا جسمها ، وفي كل هرمون من هرموناتها ، وفي كل عضو من أعضائها ، وفوق كل شيء في جهازها العصبي . والرجل أيضاً يحمل طابعاً ذكورياً في كل هذه النواحي . ” ( الخشت ، 1404هـ ، ص79 ) .
وما سبق من الفروق والاختلافات الوظيفية ” تتصاعد حتى تصبح اختلافات في النفس والعقل والوجدان ” ( المصدر السابق ، ص79 ) .
” وبناءً على هذه الاختلافات العميقة والمتشعبة بين طبيعة المرأة وطبيعة الرجل كان منطقياً أن ينشأ اختلاف حاسم بينهما في المهمة والأهداف ، حتى يواجه كل منهما مطالب الحياة مواجهة عادلة حسب إمكانياته وقدراته . ” ( المصدر السابق ، 79 ) .
المرأة المسلمة بين التهميش والتحرير
“ساوى الإسلام بين الذكر و الأنثى في حق التعليم والعمل (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)(النساء: من الآية124) وساوى كذلك بين الجنسين في اكتساب أجر يقابل نوع العمل (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(النساء: من الآية32) وقد ساوى الإسلام بين الذكر والأنثى في الولاية ، فقال الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(التوبة: من الآية71) وفي تولي المسؤوليات ، إذ زادت الآية الكريمة تقول : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(التوبة: من الآية71) وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلطة خاصة من أهم سلطات الدولة في إدارة الأمن عهد الله بها إلى المؤمنين والمؤمنات على السواء ” ( الأسرة ، 1424هـ ، ص28 ) .
“ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ولّى أم الشفاء بنت عبد الله ، على مرفق اقتصادي مهم هو حسبة السوق بما يتطلبه ذلك من مراقبة للأسعار وقمع الغش ” ( )( المصدر السابق ، ص28 ) .
” كما روي أن سمراء بنت نهيك الأسدية( ) كانت تمر في السوق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وبيدها سوط يرمز إلى هيبتها ويشير إلى وظيفتها الأمنية . وبصفة عامة فإن النساء لم يكن مغيبات عن المهام السامية في عهد الإسلام الأول . وقد أفردت كتب الحديث نساء راويات ومفتيات .( المصدر السابق ، ص28 ) .
” واشتهرت المرأة بالتثبت والصدق في رواية الحديث . ولا يعرف في تاريخ الرواية أن واحدة من النساء كانت من بين من ثبت عليه وضع الحديث الكاذب . وقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من مكثرات رواية الحديث ، حتى أنها روت ألفاً ومائتين وعشرة أحاديث . وعنها قال عروة بن الزبير : ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة ( ). فكانت عالمة تدرس الأبناء في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما إلى أن توفيت رضي الله عنها .” المصدر السابق ، ص28 ) .
تلك مقدمة أوضح فيها أن المرأة في الإسلام وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم لم تكن مهمشة ، بل كانت تحظى بحقوقها كاملة وهي طفلة أو شابة أو زوجة أو أماً .
وبالنسبة إلى التهميش فلا يمكن الحديث عنه دون فهم المجتمع الذي نعيش فيه ، فإذا أردنا الحديث عن تهميش المرأة في المجتمع السعودي فيجب علينا أولاً فهم طبيعة المجتمع السعودي وتعدد ثقافاته بين مناطق المملكة المختلفة في الريف أو المدن ، وإذا حصل هذا الفهم فقد تظهر لنا بعض صور التهميش الناتجة عن تصورات خاطئة وثقافات لا تتفق مع وجهة النظر الشرعية ، ومن تلك الصور على سبيل المثال لا الحصر :
1-النظرة الدونية للمرأة في بعض مناطق السعودية ، والخجل من ذكر اسمها .
2-منع المرأة من المطالبة بحقوقها دون حضور ولي أمرها ، الأمر الذي يوضح عدم اعتبار شخصيتها واستقلال مسؤوليتها .
3-اختيار الزوج المناسب لها ( من وجهة نظر وليها ) دون اعتبار موافقتها أو رفضها .
4-منع المرأة من ممارسة بعض الأعمال كقيادة السيارات ، وإلزامها بالركوب مع سائق خاص ، أو مع ولي أمرها . ( أتفق مع من يمنع المرأة من قيادة السيارة في الوقت الراهن ، حتى تتم تهيئة المجتمع ووضع الضوابط وتحسين الوضع الأمني والحد من الفوضى المرورية ، الأمر الذي يصعب توفيره حالياً على الأقل ) .
5-تفضيل الولد على البنت ، وتقديم العديد من التسهيلات له على حساب التفريط في حقوق البنات ( شراء السيارة ، المصروف الشخصي ،الهدايا والهبات ) .
6-عدم البت في كثير من القضايا الزوجية ، أو التأخر في ذلك ، أو عدم تنفيذ الأحكام القضائية ، الأمر الذي يؤدي إلى تضييع كثير من حقوق المرأة في القضايا التي تخصها كالنفقة ، والحضانة … .
7-عدم تخصيص محاكم شرعية خاصة بقضايا الأسرة والزواج وما يتعلق بها .
8-عدم تخصيص فروع من المؤسسات الحكومية لتقديم خدماتها للنساء ( مع تخصيص المرأة بالعمل في هذه الفروع ) .
وتكمن خطورة تهميش المرأة في ظهور المطالبات بحقوق ليست لها والدعوة لها بالبحث عن العمل بجانب الرجل ودعوتها للسفور وترك حجابها … “فإن أعداء الأمة الإسلامية ما برحوا يحاربون دين هذه الأمة ويسعون في سبيل ذلك بكل ما أوتوا من قوة مادية ، وفكرية ، وسياسية ، واقتصادية ، وقد تفتقت قرائحهم في هذا المجال عن أمر مهم وخطير ، وجعلوا له عناوين براقة ، مثل : (قضية المرأة ) أو (حقوق المرأة ) . ” ( العبد الكريم ، 1425هـ ، ص5 ) .
كيف نفعّل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم؟
” القول بأن المرأة هي نصف المجتمع … حقيقة اجتماعية لا شك فيها ، ولكن هل الأساس القاعدي لنا للمناداة بضرورة تعليمها وتمتعها بما يتمتع به شريكها الرجل من الحقوق والمزايا وما يلتزم به من الواجبات والتكاليف ؟ إننا لو اقتصرنا على هذه المقولة فإنما نمهد منذ البداية إلى فشل القضية وخسارتها ، لأننا بذلك نحصرها في نطاق كمي بحت … القضية إذن ( إنسانية )…( اجتماعية )…( دينية )” ( علي ، 1412هـ ، ص243 ) .
وفيما بعض التصورات التي من شأنها تفعيل دور المرأة المسلمة لبناء المجتمع الإسلامي :
1-التعريف بموقف الإسلام من قضايا المرأة وبخاصة ما يتعلق بحقوقها وواجباتها من المنظور الإسلامى .
2-المشاركة الفعالة في المؤتمرات الدولية التي تعقد بشأن المرأة وطرح البديل الإسلامى في المسائل الاجتماعية .
3-أن تولي السلطات الصحية جُلَّ جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية . ( )
4-تمكين المرأة من ممارسة الأعمال التي لا تتنافى مع الشريعة المطهرة ، وقد سمح الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تقوم ببعض الأعمال كما في حديث هشام بنِ عُرْوَةَ عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن عبد الله عن رَيْطَةَ بنتِ عبدِ الله امرأةِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ أُمّ وَلَدِهِ وكانتِ امرأةً صَنَاعَةً وليسَ لعبدِ الله بنِ مسعودٍ مالٌ، وكانَتْ تُنْفِقُ عليهِ وَعَلَى وَلَدِهِ من ثَمِنِ صَنَعْتَهَا، فقالتْ: والله لَقَدْ شَغَلْتَنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ عن الصَّدَقَةِ فما أسْتَطِيْعُ أَنْ أَتَصَدَّقَ مَعَكُمْ، فقالَ: ما أُحِبُّ إِنْ لم يَكُنْ لَكِ في ذَلِكَ أجرٌ أَنْ تَفْعَلِي، فَسَأَلَتْ رسولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وهُو فقالتْ: يا رسولَ الله إِنَّنـي امرأةٌ ذاتُ صَنْعَةٍ أَبِيْعُ مِنْهَا، وليسَ لِـي ولا لِوَلَدِي ولا لِزَوْجِي شىءٌ، فَشَغَلُونِي فلا أَتَصَدَّقُ فَهَلْ لِـي فـي ذَلِكَ أَجْرٌ، فقالَ النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ فـي ذَلِكَ أَجْرُ ما أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ، فَأَنْفِقِي عَلَيْهِمْ».( )
5-إقامة مستشفيات ومرافق وأسواق تجارية ومؤسسات حكومية وأهلية خاصة بالنساء أو كفروع تختص بتقديم الخدمة للنساء على غرار المدارس والجامعات .
6-تقديم الحلول العملية لتسهيل عمل المرأة في بيتها لتحسين دخلها وإشغال وقتها وتنمية قدرتها في الاعتماد على نفسها ، كالخياطة ، والأعمال اليدوية البسيطة ، وتصميم برامج الحاسوب ، وطباعة الأبحاث والتقارير ، وتقديم الدروس الخاصة لبعض النساء أو الأطفال ، وتجهيز بعض أنواع الطعام … على أن تتولى عرض الأعمال وتسويقها وجني أرباحها مؤسسة اجتماعية تعنى بهذا الأمر وفق ضوابط محددة .
7-إقامة دورات تدريبية (وفق حاجة المجتمع) لتنمية مهارات المرأة في معاهد ومؤسسات تعليمية معترف بها وعلى قدر عال من الجودة في التدريب .
6=?مفهوم العولمة
?نشأة العولمة
?الفرق بين العولمة وعالمية التربية _….الإسلامية
?سلبيات العولمة وإيجابياتها
?كيف نستفيد من إيجابيات العولمة -..ونتقي سلبياتها
?مستقبل العولمة
مفهوم العولمة
العولمة لغة :
” العولمة ثلاثي مزيد، يقال: عولمة على وزن قولبة،وكلمة “العولمة ” نسبة إلى العَالم -بفتح العين- أي الكون، وليس إلى العِلم -بكسر العين- والعالم جمع لا مفرد له كالجيش والنفر” ( الرقب ، 1423هـ ، ص 4 )
” العالَمُ : الخَلْقُ كُلُّهُ ” ( الفيروز بادي ، 1993م )
العولمة من حيث اللغة كلمة غريبة على اللغة العربية ويقصد منها عند الاستعمال- اليوم- تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله .
العولمة اصطلاحاً :
إن كلمة العولمة جديدة، وهي مصطلح حديث لم يدخل بعد في القواميس السياسية والاقتصادية ، ومن تعاريف العولمة : ” العولمة هي الحالة التي تتم فيها عملية تغيير الأنماط والنظم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ومجموعة القيم والعادات السائدة وإزالة الفوارق الدينية والقومية والوطنية في إطار تدويل النظام الرأسمالي الحديث وفق الرؤية الأمريكية المهيمنة، والتي تزعم أنها سيدة الكون وحامية النظام العالمي الجديد ” ( الرقب ، 1423هـ ، ص 9 )
ومن تلك التعاريف أيضاً ما اختاره الشيخ ناصر العمر :
“اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق” ( العمر ،1424هـ ، ص 2 )
وأعتقد أن التعريفين السابقين يوضحان المفهوم العام للعولمة ، ولذا اكتفيت بذكرهما لبساطتهما ووضوحهما .
نشأة العولمة
“اختلف الباحثون في التأريخ لنشأة العولمة على قولين:
الأول:
يرى هؤلاء الباحثون أن ظاهرة العولمة قديمة، عمرها خمسة قرون، أي ترجع إلى القرن الخامس عشر- زمن النهضة الأوربية الحديثة-. حيث التقدم العلمي في مجال الاتصال والتجارة .
الثاني:
يرى فريق آخر أنً العولمة ظاهرة جديدة، فما هي إلا امتداد للنظام الرأسمالي الغربي بل هي المرحلة الأخيرة من تطور النظام الرأسمالي العلماني المادي النفعي، وقد برزت في المنتصف الثاني من القرن العشرين نتيجة أحداث سياسية واقتصادية معينة منها: انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية عام 1961م ثم سقوط الاتحاد السوفيتي سياسياً واقتصادياً عام 1991م، وما أعقبه من انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وانفرادها بقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية ومنها: بروز القوة الاقتصادية الفاعلة من قبل المجموعات المالية والصناعية الحرة عبرة شركات ومؤسسات اقتصادية متعددة الجنسيات مدعومة بصورة قوية وملحوظة من دولها.” ( الرقب ، 1423هـ ، ص 10 )
ومن الملاحظ أن العولمة بدأت من زمن النهضة الأوربية الحديثة كبداية عامة لم تتضح معالمها إلا بعد انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وانفرادها بقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية ، ولذا يستخدم البعض لفظ الأمركة بدلاً من العولمة .
الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية
التربية الإسلامية تربية عالمية بعيدة عن التعصب العرقي أو الاجتماعي ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات: من الآية 10)
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ( سورة الحجرات 13)
وخلافاً للتربيات الوضعية التي تتجه إلى أمة من الأمم أو جماعة من الناس ، فإن التربية الإسلامية ” تربية عالمية ، والإسلام رسالة عالمية جاءت للناس كافة ، وعالمية الرسالة الإسلامية تعني أيضاً عالمية التربية الإسلامية ” ( مرسي ، 1996م ، ص 79 ) .
وعالمية التربية الإسلامية تحترم خصوصيات كل شعب من الشعوب وكل أمة من الأمم ، ما دامت تلك الخصوصيات وطرق المعيشة والعادات الاجتماعية والاقتصادية … لا تخالف الشريعة الإسلامية التي أنزلها الله تعالى ليهتدي بها العباد .
كما أن عالمية التربية الإسلامية تنتشر برغبة الشعوب والأمم في محاسنها انتشاراً تلقائياً لا إجبار فيه ولا إكراه ، قال تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (سورة البقرة: من الآية 256) .
وفي المقابل نجد أن العولمة أو الأمركة لا تحترم خصوصيات الشعوب المختلفة ، كما أنها تلجأ في بعض أمورها إلى القوة والإجبار والإكراه لفرض ما تريد .
وبهذا يتضح الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية .
سلبيات العولمة وإيجابياتها
“لقد روَّج دعاة العولمة في الغرب وعملاؤهم في المنطقة العربية مجموعة من المقولات لصالح العولمة،ومن ذلك: أنّ العولمة تبشر بالازدهار الاقتصادي والتنمية والرفاهية لكل الأمم والعيش الرغيد للناس كلهم، والانتعاش،ونشر التقنية الحديثة، وتسهيل الحصول على المعلومات والأفكار عبر الاستفادة من الثورة المعلوماتية الحديثة، وإيجاد فرص للانطلاق للأسواق الخارجية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية التي تتمتع بكفاءة عالية، وبالتالي ينتعش الاقتصاد الوطني والقومي.
ولكن سرعان ما اكتشف الباحثون والمفكرون أن تلك المقولات ما هي إلا شعارات استهلاكية جوفاء” ( الرقب ، 1423هـ ، ص 20 ) .
وما روّج له دعاة العولمة من إيجابيات يفتقد للتطبيق العملي في الواقع لأن تلك الإيجابيات تنصب غالباً للطرف الأقوى على حساب الطرف الضعيف .
وللعولمة الكثير من السلبيات التي تتعلق بمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ونكتفي هنا بذكر الآثار العقدية للعولمة :
“1- خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها …
2- إضعاف عقيدة الولاء و البراء، والحب والبغض في الله
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات، والاستماع إلى الإذاعات، والأشكال الأخرى لاستيراد الثقافات سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله…
3- نشر الكفر، والإلحاد، حيث إن كثيراً من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلاماً تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر، ومن أمثلتها أفلام السحر التي يقحمونها ببعض الألعاب القتالية، وهي منتشرة…
4- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية فالعولمة الغربية تتيح للتيارات الفكرية الموجودة بها نشر أفكارها، عن طريق الاستفادة من تقنياتها…
5- تقليد النصارى في عقيدتهم
وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة والخاصة، وقد رأينا القصات العالمية، وأشهر (الموضات)، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة… ” ( العمر ،1424هـ ، ص 29 )
كيف نستفيد من إيجابيات العولمة ونتقي سلبياتها؟
لكي نستفيد من إيجابيات العولمة ونتقي سلبياتها علينا أن نستخدم المنهج الانتقائي ، وذلك بقبول – فقط – ما لا يخالف هويتنا الدينية وثوابتنا التي لا نساوم عليها ، وبرفض ما يعارض ذلك .
ويعتبر ذلك نشراً لثقافة المقاومة وليس منعاً للعولمة بخيرها وشرها .
“و ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب أن لا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.
إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي عمل الصدر الأول تقرير لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته -صلى الله عليه وسلم- من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد لبس -صلى الله عليه وسلم- جبة من صوف رومية، وعرف الإستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم فقالوا بختي و بختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، و قرأوا المجال -مفرد مجلة- وهي وافدة، وأقر نبينا -صلى الله عليه وسلم- الدركلة ضرب من لعب الحبشة “( العمر ،1424هـ ، ص 27 )
“وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أو بيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) ، وعرفوا لعبة السُّدُّر -نوع من القمار- وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها.
و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟) قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.
قال: (فلا تفعل) .” ( المصدر السابق ، ص 28 )
“بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها –حكماً خاصاً- قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت:لما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) .” ( المصدر السابق ، ص 28 )
“فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها.” (المصدر السابق ، ص 29 ) .
مستقبل العولمة
الغيب لله..
(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)( سورة النمل الآية 65 )
ولكن هناك سننا ربانية تجري في حياة البشر، وهي سنن لا تتخلف ولا تتبدل، وهناك وعد ووعيد من عند الله، لا يتخلفان كذلك، وهناك واقع مشهود، يمكن رؤيته وتقدير احتمالاته على ضوء تلك السنن، وذلك الوعد والوعيد..
وكلها تقول إن هذه العولمة، سواء كانت – كما قلنا في نهاية الفصل السابق – أمريكية بحتة، أو يهودية بحتة، أو خليطا متجانسا متعاونا من الأمريكية واليهودية، لن تعيش طويلا كما يتمنى أصحابها!
إنها بادئ ذي بدء مخالفة لقدر مسبق من أقدار الله، ألا يكون الناس أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (سورة هود الآية118 – 119) (.. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ..) (سورة المائدة : الآية48)
فكل محاولة لصبغ الناس كلهم صبغة واحدة، تفرضها القوة الغاشمة، هي محاولة فاشلة منذ البدء، وإن قدّر لها شيء من النجاح في بعض أرجاء الأرض لفترة محدودة من الزمان.
فاشلة لأنها مخالفة لإرادة ربانية أزلية، والله هو الذي يقدر المقادير، وليس البشر، وإن ظنوا في لحظات غرورهم وتألههم أنهم قادرون!
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) ( سورة فصلت الآية:15 – 16) (.. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) (سورة الأنبياء الآية:44) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة الرعد الآية :41)
وهي فاشلة ثانيا لأنها مخالفة لسنة أخرى من سنن الله، وهي مداولة الأيام بين الناس (بمعنى النصر والهزيمة، والتمكين والزوال).
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)( سورة آل عمران الآية :140)
ثم إنها – في الواقع المشهود الآن – تجد مجابهة ومعارضة في أكثر من مكان! ففرنسا وألمانيا في أوربا تستنكفان أن تصوغ لهما أمريكا طريقة حياتهما، وتقفان بشدة أمام كل محاولة لمحو شخصيتهما، وطبعهما بطابع غير طابعهما الذاتي، سواء في عالم اللغة أو الفكر أو الثقافة أو السلوك اليومي، فضلا عن السياسة والاقتصاد.
وفي آسيا توجد الصين واليابان، وكلتاهما قوة راسخة في الأرض، لا يسهل محوها، ولا إخضاعها، ولا طمس معالمها، ولا إذابة شخصيتها كما تشتهي العولمة.
وذلك فضلا عن الحركة الإسلامية، المكبوتة الآن بكل وسائل الكبت، ولكنها حية تستعصي على كل محاولة لوأدها، أو منعها من الانتشار.
* * *
وعلى فرض أن العولمة أمريكية، فأمريكا ذاتها مهددة – من داخلها – بالانهيار! ولسنا نحن الذين نقول ذلك إنما تقوله صحفهم وكتابهم ومفكروهم.
حقا إن القوة المادية لأمريكا من الضخامة بحيث يصعب حتى على القوى العالمية الأخرى مجاراتها أو التصدي لها، ولكن القوة المادية ليست هي في النهاية التي تقرر مصاير الأمم، أو على الأقل ليست وحدها التي تقرر مصايرهم.. وحين يتفشى الترف، ويتفشى الترهل (مما نبه إليه كلنتون ذاته في كلمات وجهها إلى شعبه) وحين تتفشى الفوضى الجنسية والشذوذ والانحراف، ويتعالن الشواذ بشذوذهم ويطلبون من دستورهم وبرلمانهم أن يقر بشرعيتهم وشرعية سلوكهم المنحرف.. وحين تتفشى الخمر والمخدرات والجريمة.. فكل ذلك من عوارض الدمار، مهما كانت القوة المادية..
ولسنا نقول إن أمريكا ستنهار غدا صباحا! فإن ما لديها من عوامل القوة الإيجابية يمكن أن يمد لها فترة من الزمن بحسب سنة الله. ولكنا نقول – فقط – إن هذا الأمر لا يتوقع كثيرا أن يطول.
وأما إن كانت العولمة يهودية، تعمل من خلال أمريكا، وهو الأرجح في نظرنا، فلليهود في كتاب الله وعد ووعيد: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا…) (سورة الإسراء الآية:4 – 8)
ويستوي – كما أشرنا من قبل – أن تكون المرتان المذكورتان تاريخيتين، أو تكون إحداهما تاريخية والثانية هي الواقعة اليوم.. فقوله تعالى: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فيه الفيصل فيما نحن بصدده. فالآيات تقول إنه كلما علا اليهود في الأرض وأفسدوا – سواء مرة أو مرات – جاء العقاب الرباني فأنزلهم من علوهم وأجرى عليهم وعيده: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)( سورة الأعراف الآية:167)
وهم اليوم في قمة العلو.. ولم يسبق لهم في تاريخهم كله أن علوا وسيطروا بمقدار ما لهم اليوم من العلو والسيطرة في أرجاء الأرض.
والله هو الذي يقدر، وله حكمته في تقديره سواء عرفنا نحن الحكمة أم لم نعرفها.
وله حكمة ولا شك في الإملاء لليهود وتمكينهم في الأرض: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ..) (سورة آل عمران الآية:112)
فهم ممكنون بحبل من الله ابتداء، أي بتقدير من الله وإمداد، ثم بحبل من الناس الذين يعينونهم على تنفيذ مخططاتهم.
أما الحكمة في ذلك فلا نعرفها، لأنها ليست مذكورة في كتاب الله ولا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ربما كان الله يعاقب البشرية التي كفرت اليوم كفرا لم تكفره من قبل، فأنكرت وجود الله (في جزء غير قليل منها) وشردت عن هديه (في الجزء الأكبر منها) ويعاقب الأمة الإسلامية بالذات على تفريطها وتقاعسها.. يعاقب الجميع بتسليط اليهود عليهم تحقيقا لقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)( سورة الأنعام الآية:65)
وأيًّا تكن الحكمة فالذي يهمنا هنا أن هذا العلو والإفساد في الأرض محدود بزمن معين يقدره الله، وليس طويل الأمد، لأنه استثناء من القاعدة، وليس هو القاعدة، وإن تكن القاعدة من تقدير الله، والاستثناء كذلك من تقدير الله..
* * *
وليس معنى هذا كله أن العولمة أمر هين ولا خطر منه، ولا يستأهل منا اهتماما ولا حركة..
إنه عاصفة جائحة هوجاء..
والعاصفة تهدأ بعد حين، ولكنها تكون قد دمرت ما دمرت، وخربت ما خربت، مما قد يحتاج في إصلاحه إلى عشرات السنين..
وإنما نقول للناس في العالم الإسلامي تحصنوا قدر الطاقة من العاصفة الهوجاء. تحصنوا أولا بالتمسك بدينكم وأخلاقكم وثوابتكم، ثم تحصنوا ثانيا ببذل أقصى الجهد في تحصيل العلم والتقنية وزيادة الإنتاج، لعلكم بذلك تقللون آثار الدمار الذي تخلفه العاصفة.
ثم نقول لهم كما قال موسى عليه السلام لقومه وهم في أتون الابتلاء: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)( سورة الأعراف الآية:128)
9
وفي ختام هذا البحث أشير إلى أهمية معالجة قضايا التربية الإسلامية والتحديات المعاصرة التي تواجهها بطريقة موضوعية ونظرة واقعية ، خاصة وأن التربية الإسلامية تنفرد بينابيع متدفقة لكل بحث تربوي ينهل منها ويحسن استغلالها ويجيد استنباط الفوائد منها إذا سلك طريق الدقة والأمانة وحسن التأمل والنظر والبعد عن الهوى والتجرد التام لما يفيده النص والربط بين النصوص الشرعية مع استخدام خطوات البحث العلمي المعروفة .
وفي التربية الإسلامية كنوز تحتاج لمن يصدق معها ويحسن النية في التصدي لمهمة العناية بالجوانب التربوية التى تحويها ليقدمها للعالم فيستفيد منها علماء النفس ، وعلماء الاجتماع ، وعلماء التربية ، بل ليستفيد منها كل إنسان ليربي نفسه ومن تحت يده من الأولاد ذكوراً وإناثاً .
والباحث يأمل في نهاية بحثه أن يكون هذا البحث قد قدم جزءاً ولو يسيراً في موضوع التربية الإسلامية وتحديات العصر .
ويأمل الباحث حصول الفائدة من هذا البحث للباحث أولاً ، ولكل من يقرأ البحث ، والباحث يسأل الله التوفيق والسداد ، ويختم بحثه بالصلاة والسلام على سيد الأنام محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم .
المراجع:
1-ابن القيم ، محمد بن أبي بكر ( د : ت ) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ، دار المعرفة .
2-ابن تيمية ، أحمد بن عبد الحليم ( د : ت ) فتاوى ابن تيمية ، دار عالم الكتب .
3-ابن حميد ، صالح بن عبد الله ( د : ت ) أصول الحوار وآدابه في الإسلام ، مكتبة صيد الفوائد .
4-ابن منظور ، جمال الدين محمد (1410هـ ) لسان العرب ،دار صادر ، بيروت .
5-أبو سليمان ، عبد الوهاب إبراهيم ( 1416 هـ ) كتابة البحث العلمي صياغة جديدة ، ط 6 ، دار الشروق ، جدة .
6-أحمد ، أحمد بن حنبل ( د : ت ) مسند الإمام أحمد ، دار إحياء التراث العربي .
7-آل عبد الكريم ، فؤاد بن عبد الكريم ( 1425هـ ) المرأة المسلمة بين موضات التغيير وموجات التغرير .
8-آل ناجي ، محمد عبد الله ( د: ت ) دور الجامعات في مواجهة تحديات العصر جريمة الإرهاب ،مركز البحوث التربوية ، جامعة الملك خالد .
9-البيهقي ، أحمد بن الحسين بن علي ( د : ت ) السنن الكبرى للبيهقي ، دار الفكر .
10-الترمذي ، محمد بن عيسى ( 1994م) سنن الترمذي ،دار الكتب العلمية .
11-الجاسر ، هيلة ناصر ، وآخرون ( 1427هـ ) جغرافية العالم الإسلامي للصف الثاني المتوسط ، وزارة التربية والتعليم ، المملكة العربية السعودية .
12-الحاكم ، محمد بن عبد الله ( د : ت ) المستدرك على الصحيحين ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
13-حسين ، حيدر ( 1421هـ ) مجلة النبأ ، العدد 44 .
14-الخشت ، محمد عثمان ( 1404هـ ) وليس الذكر كالأنثى ، مكتبة القرآن ، القاهرة .
15-الدغيمي ، محمد راكان ( 1417هـ ) أساليب البحث العلمي ومصادر الدراسات الإسلامية ، ط2 ، مكتبة الرسالة ، الأردن .
16-الرقب ، صالح ( 1423 هـ ) العولمة ، الجامعة الإسلامية .
17-الزنتالي ، عبد الحميد الصيد ( 1993 م ) فلسفة التربية الإسلامية في القرآن والسنة ، الدار العربية للكتاب .
18-السجستاني ، أبو داود سليمان بن الأشعث ( د : ت ) سنن أبي داود ، دار إحياء التراث العربي .
19-سويد ، محمد نور بن عبد الحفيظ ( 1422هـ ) منهج التربية النبوية للطفل ، ط3 ، دار ابن كثير ، دمشق-بيروت .
20-السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ( 1994 م ) جامع المسانيد والمراسيل ، دار الفكر .
21-شعبان ، عبد الحسين ( 2001م ) ثقافة حقوق الإنسان ، ط1 ، رابطة كأوا للثقافة الكردية ، بيروت .
22-العبد الجبار ، عادل ( د: ت ) الإرهاب في ميزان الشريعة ، صيد الفوائد .
23-عبيدات ، ذوقان ( 1424 هـ ) البحث العلمي ، إشراقات .
24-العساف ، صالح بن حمد ( 1424 هـ ) المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية ، ط3 ، مكتبة العبيكان .
25-العسقلاني ، أحمد بن علي بن حجر ( 1409 هـ ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، دار الريان للتراث ، القاهرة .
26-علي ، سعيد إسماعيل ( 1412هـ ) الأصول الإسلامية للتربية ، دار الفكر العربي ، القاهرة .
27-العمر ، ناصر بن سليمان ( 1424هـ ) رسالة المسلم في حقبة العولمة ، مركز الدراسات الإسلامية ، قطر .
28-العودة ، سلمان بن فهد ( د : ت ) أدب الحوار ، مكتبة صيد الفوائد .
29-غبان ، محروس أحمد إبراهيم، وآخرون ( 1415 هـ ) أصول التربية الإسلامية ، دار الخريجي للنشر والتوزيع ، الرياض .
30-فرج ، عبد اللطيف حسين ( 1426 هـ ) تربية الشباب للبعد عن التطرف والإرهاب ، مكة المكرمة .
31-الفيروز بادي ، محمد بن يعقوب ( 1993م ) القاموس المحيط ، مؤسسة الرسالة .
32-الفيومي ، أحمد بن محمد بن علي ( 1987م ) المصباح المنير ، مكتبة لبنان ، بيروت .
33-قطب ، محمد ( د : ت ) المسلمون والعولمة ، مكتبة صيد الفوائد .
34-مجلة الأسرة ( 1424هـ ) موضوع الغلاف : وليس الذكر كالأنثى ، العدد 124 رجب .
35-مرسي ، محمد منير ( 1996م ) التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية ، الطبعة الثانية ، عالم الكتب ، القاهرة .
36-مسلم ، مسلم بن الحجاج بن مسلم ( 1992م ) صحيح مسلم ، دار الكتب العلمية .
37-النسائي ، أحمد بن علي ( د : ت ) سنن النسائي الكبرى ، دار الفكر .
38-وزارة المعارف ( 1422هـ ) الحديث والثقافة الإسلامية ،شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر ، السعودية .
39-وزارة المعارف ( 1423 هـ ) مقرر التوحيد للصف الثاني المتوسط ، السعودية .
40-اليوسف ، عبد الله بن عبد العزيز ( 1425هـ ) دور المدرسة في مقاومة الإرهاب والعنف والتطرف ، اللجنة العلمية للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب .
——————————–
بحث متطلب لمادة التربية الإسلامية وتحديات العصر يقدم لسعادة الدكتور محمد علي أبو رزيزة من قسم التربية الإسلامية والمقارنة بكلية التربية بجامعة أم القرى ذو الحجة 1427هـ -يناير 2007م
الباحث:عبد الرحمن بن عبد الله الفاضل