الحوار النبوي
الأحد،16جمادى الثانية1436//5أبريل/نيسان 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الحوار هو مفتاح التواصل الحضاري، ووسيلة للتعارف بين الناس، وهو من أحسن الوسائل في إقناع المخالف وتبليغ الدعوات، قال الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(النحل الآية: 125)، قال ابن كثير: ” أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب ” . ولذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حواره يعرض دعوته ورأيه في حكمة ورفق من القول، مع الحلم والصبر، والتعليم والتوجيه .
والسيرة النبوية مليئة بالمواقف والأمثلة المضيئة، التي ترشد إلى هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حواره مع الآخرين على اختلاف نوعياتهم، ومنها :
مع أصحابه من الأنصار يوم حنين :
في غزوة حنين رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتألف البعض بالغنائم تأليفا لقلوبهم، وذلك لحداثة عهدهم بالإسلام، فأجزل العطاء لزعماء قريش وغطفان وتميم، إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل، وقد تأثر بعض الأنصار بحكم الطبيعة البشرية، وظهر بينهم نوع من الاعتراض على ذلك، فراعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الاعتراض وعمل على إزالته بحوار رقيق، يتسم بالحكمة والرفق، والود والحب .
عن أبى سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : ( لما أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد(غضب) هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم : لقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟، قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا من ذلك، قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال : فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال : فأتاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال : يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله، وعالة (فقراء) فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟، قالوا: بل الله ورسوله أمنّ وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رحالكم؟، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتفرقوا ) رواه أحمد .
لقد اتبع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حواره مع الأنصار أسلوبا تربوياً حكيما ورقيقاً، خاطب فيه عقولهم وعواطفهم، فكانت النتيجة أن انقادوا طائعين راضين بقسمة الله تعالى ورسوله .
قال ابن القيم ينوه بما في هذا الحوار النبوي من النفع: ” ولما شرح لهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بلادهم ” .
مع الجاهل :
عن أنس – رضي الله عنه ـ قال: ( بينما نحن في المسجد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ (ما هذا) ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لا تُزْرِموه (تقطعوا بوله) دعوه، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه (فصبه) عليه ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: ” وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا ” .
وقال النووي: ” وفيه الرّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافاً أو عناداً ، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما ” .
مع العاصي :
كان – صلى الله عليه وسلم ـ في حواره مع صاحب المعصية يترفق به، ولا ينظر إلى جرأته على معصية الله فيعنفه، بل يلمس جانب الخير فيه فيحركه بمنطق الحوار العقلي والقلبي، الذي يعلم الجاهل بحلم ورفق، ويأخذ بيد العاصي بحكمة وود، محاولاً إرجاعه إلى طريق العفة والاستقامة، بل ويدعو له بالهداية والطاعة .
عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: ( إن فتى شابا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ادْنُه، فدنا منه قريبا، فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك ؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟، قال : لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، ثم وضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرْجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ) رواه أحمد.
مع الكافر :
روى ابن هشام في السيرة النبوية: ” أن عتبة بن ربيعة ـ وكان سيداً ـ ألا أقوم إلى محمد فأكلمه؟، وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة ( أي الشرف) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها .
قال : فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قل يا أبا الوليد ، أسمع، قال : يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه .. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟، قال : نعم، قال: فاسمع مني، قال : أفعل، فقال: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ { حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ }(فُصّلَتْ الآية 1 : 5)، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك ” .
وقد جاء في صحيح البخاري كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل ملك الروم الذي دعاه فيه إلى الإسلام، وفيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأَرِيسيِّين (الفلاحين والأتباع)، { قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }(آل عمران: الآية 64) )
فمن آداب الحوار النبوي مع الآخرين الاستماع والمناقشة، وإنزال الناس منازلهم فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِعُتْبة: ( أفرغت يا أبا الوليد )، وقال لهرقل ملك الروم النصراني: (من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم )، وذلك الأدب النبوي في الحوار أصله قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الذي رواه مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ننزل الناس منازلهم )، ومن ثم فعلى المحاور والداعية ألا يعتدي في وصف محاوره ومخالفه ومن يدعوه بالجهل والسفه أو غير ذلك، فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء ) رواهالترمذي .
لا شك أن الحوار في عصرنا الحاضر استجدت له وسائل حديثة لم تكن موجودة من قبل، جعلته أكثر انتشارا وأعظم أثراً، وهذا يجعلنا نؤكد على التزامنا بالهدي النبوي في الحوار مع الكبير والصغير، والمسلم والكافر، والطائع والعاصي، والموافق والمخالف، ليكون بابا يدخل الناس منه إلى الحق، ويسارعون إلى الخير، ونعالج به كثيرًا من اختلافاتنا، ونصون به أخوتنا ..
*************************
– إسلام ويب