الخطابة وصفات الخطيب
الأربعاء،4رمضان 1435الموافق2 تمور/يوليو2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
د. إبراهيم عوض
الخطابة وصفات الخطيب
الخطابة:
هي أن يقف المتكلم أمام جمهور من السامعين، يُحدثهم في موضوع من المواضيع مرتجلاً أو كالمرتجل، متدفقًا لا يتوقف، ولا يَتلعثم، ولا يظهر عليه القلق، مستوليًا على عقولهم وقلوبهم، متصرفًا في ألوان الكلام كما يحب، وهناك من المتحدثين من قد يُشبهون الخطيب، لكن عند التدقيق لا بد أن نُلاحظ بعض الفروق بينهما، ولتوضيح ذلك نقول: إن ثمة تمايزًا بين المدرس في حصة أو محاضرة مثلاً، وبين الخطيب يقوم في محفل من المحافل؛ فالأول يَقتصر على مخاطبة العقل، على حين يتغيَّا الثاني إقناع العقل، وإمتاع النفس جميعًا، علاوةً على أن المدرس يُفصِّل القول، ويُعيد الكلام، ويشرح ويسأل، وينتظر الإجابة، ويتوقف ويمضي، ويستعين بوسيلة من وسائل الإيضاح، ويفتح الكتاب أو الكراس، وينظر فيه؛ كي يتذكر شيئًا غاب عنه، ويكتب على السبورة… إلخ.
أما الخطيب، فالمفترض أنه يستمر كالسيل لا يقف إلا لكي يزيد الأنظار تعلُّقًا به، ويَحبس الأنفاس، فيشتد شوق أصحابها إلى سماع ما هو آت، ولا يُعرِّج على أي شيء آخرَ.
وإذا كنت قلت: إن الخطيب يلقي خطبته مرتجلاً أو كالمرتجل، فليس معنى هذا أنه يقولها عفو اللحظة، وإن كان من الممكن وقوع هذا، إلا أنه ليس هو القاعدة، كما أن الخطبة التي تأتي بهذه الطريقة قلَّما يُكتب لها النجاح المرتقب، ولا بد أولاً أن تتوفَّر الموهبة التي تُعين صاحبها على مواجهة الجماهير، دون خوف أو خجلٍ أو قلق أو توتُّرٍ، وهذا أوَّل شرط في الخطابة، فمهما كان المرء عالِمًا واسع الثقافة والحفظ، رائع الأسلوب، لكن تنقصه موهبة مواجهة الجمهور – فلا يستطيع الكلام في حضرة الجموع، فقل على كل ذلك السلام؛ إذ لا ينفع منه حينئذ شيء، وبطبيعة الحال فإن الدُّربة والتجارب، كفيلة بتقوية هذه الموهبة وإحكام مرّتها، وتسهيل مهمة الخطيب إلى أبعد مدًى، حتى إنه ليجيء عليه وقت يقدر فيه على ارتجال الخطبة إذا ما طلب منه ذلك بغتةً، وإن كانت الخطبة في تلك الحالة لا ترتقي عادةً إلى مستوى خطبة يكون قد أعدَّها واستعدَّ لها من قبلُ على راحته.
ويدخل في إعداد الخطبة:
أن يتبيَّن المتحدث – في وضوحٍ تام – موضوعه الذي يتعيَّن عليه أن يخطب الجمهور فيه، وأن يتوسَّع في القراءة حوله، ومراجعة من تناولوه قبله كتابةً وخطابةً، حتى لا يشعر أثناء الخطبة أنه غريب يَجوس بلادًا غريبةً، بعبارة أخرى ينبغي أن يعيش الخطيب في جو خطبته، وأن يتقمَّص الدور قبلها، حتى إذا ما حلَّت اللحظة التي يخطب فيها، أحسَّ كأنه في عُقر داره، دون أدنى شعورٍ بالغرابة أو التهيُّب أو الحَيرة، كذلك لا بد أن يكون على علمٍ بالنقاط التي سوف يتناولها في خطبته، وأن تكون مرتبةً في ذهنه بشيء من التفصيل، مع ما يَدعمها من الاستشهادات والإحصاءات، والأقوال السائرة والأبيات الشعرية، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي تتصل بها وتُقوي حُجته فيها، مع تَوشِيَتها كلما أمكَن بشيء من السجع مثلاً؛ حتى يكون لها إيقاع جذَّاب، والأفضل أن يتدرَّب على الخطبة قبل أن يواجه جمهوره، ويمكن أن يَصنع ذلك على انفراد، وربما وقف أمام مرآة، وشاهَد نفسه وهو يتكلَّم، وقد يتَّخذ جمهورًا مُصغرًا ممن يَعرفهم، فيلقي عليهم الخطبة أولاً؛ ليستطلع رأيهم فيما يقول.
وبعض خُطباء الإغريق القدماء كان يقف أمام البحر يخطب فيه، وإن أمواجه لتَهدِر؛ كي يكتسب الشجاعة اللازمة التي بها يَقدر على مواجهة الجماهير، واستلاب عقولهم وعواطفهم.
وفي رأي الجاحظ أنه لا ينبغي للمرء أن يُقدِم على الخطابة مقتحمًا، دون تدبُّرٍ وطول استعداد ومرانة؛ قال في “البيان والتبيين”: “فإن أردت أن تتكلَّف هذه الصناعة، وتُنسب إلى هذا الأدب، فقرَضت قصيدةً، أو حبَّرت خطبةً، أو ألَّفت رسالةً، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عجَبك بثمرة عقلك إلى أن تَنتحله وتدَّعيه، ولكن اعْرضه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطبٍ، فإن رأيت الأسماع تُصغي له، والعيون تَحدِج إليه، ورأيت من يطلبه ويَستحسنه، فانتَحله، فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلُّفك، فلم ترَ له طالبًا ولا مستحسنًا، فلعله أن يكون ما دام ريِّضًا قضيبًا، أن يحلَّ عندهم محلَّ المتروك، فإذا عاوَدت أمثال ذلك مرارًا، فوجَدت الأسماع عنه منصرفةً، والقلوب لاهيةً، فخُذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يُكذبك حِرصهم عليه، أو زُهدهم فيه… قال البعيث الشاعر – وكان أخطب الناس -: إني والله ما أرسل الكلام قضيبًا خشيبًا، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك”؛ أي: إنه لم يكن يرتجل الخطبة ارتجالاً، بل كان يعدها من قبلُ، وينظر فيها مرات قبل أن يَرضى عنها.
ومن أقوال الجاحظ أيضًا: إن العرب في الجاهلية كانوا يرتجلون خُطبهم ارتجالاً، وليس في كلامه هناك وكلامه هنا تَناقض؛ فإن البعيث إنما كان من شعراء الدولة الأُموية، كما أن نصيحة الجاحظ موجَّهة إلى الخطباء الشُّداة من أهل عصره، الذين كانوا يختلفون عن عرب الجاهلية، ولا يتمتَّعون بالسليقة العربية مثلهم.
ومن الخطباء من قد يكتب خطبته ويقرؤها عدة مرات حتى يَحفظها – أو على الأقل – حتى تَنطبع صورتها العامة في ذاكرته، فيَلقى كل شيء سهلاً ميسرًا عندما يَجِدُّ الجد، والعبرة أن يبدو أمام المستمعين وكأنه يرتجل خطبته، وهذا يتحقَّق بأن يكون إلقاؤه طبيعيًّا، لا يكرُّ الكلام كرًّا، شأن الحفَظة الذين كل همِّهم أن يُثبتوا للحاضرين أنهم لم ينسوا شيئًا، وأن يقف في بعض الأحيان، ويعلو صوته في بعض الأحيان الأخرى، ويَنفعل ويَهدَأ، ويُسرع ويُبطئ، ويغضب ويرضى، ويستعين بإشارات يده وملامح وجهه، كل ذلك حسب المعاني والأفكار التي يتناولها، والمواقف التي تُقابله أثناء الخطبة، ولا يجري على وتيرة واحدة طوال الوقت؛ حتى لا يَملَّه الجمهور، ويتثاءَب ضيقًا به، ويستعجل انتهاءه؛ لكي يخلص منه ومما يقول، وإن كان هناك من لا يحبِّذ الاستعانة بالإشارة وحركة اليد وملامح الوجه؛ كالذي ذكره الجاحظ عن مُعمَّر أبي الأشعث، قال: “روى أبو شَمِر عن مُعمَّر أبي الأشعث، خلاف القول الأول في الإشارة والحركة عند الخطبة، وعند منازعة الرجال ومناقلة الأكفاء، وكان أبو شَمِر إذا نازَع لم يحرِّك يديه ولا مَنكِبيه، ولم يقلب عينيه، ولم يحرِّك رأسه، حتى كأن كلامه إنما يخرج من صَدْع صخرة، وكان يقضي على صاحب الإشارة بالافتقار إلى ذلك، وبالعجز عن بلوغ إرادته، وكان يقول: ليس من حق المنطق أن تَستعين عليه بغيره، وحتى كلَّمه إبراهيم بن سيَّار النَّظَّام عند أيوب بن جعفر، فاضطرَّه بالحجة وبالزيادة في المسألة، حتى حرَّك يديه وحلَّ حُبوته وحَبا إليه، حتى أخذ بيديه، وفي ذلك اليوم انتقل أيوب من قول أبي شَمِر إلى قول إبراهيم، وكان الذي غرَّ أبا شمر وموَّه له هذا الرأي، أن أصحابه كانوا يستمعون منه، ويسلمون له ويَميلون إليه، ويقبلون كل ما يُورده عليهم ويُثبته عندهم، فلما طال عليه توقيرهم له وترْك مجاذبتهم إياه، وخفَّت مؤونة الكلام عليه، نسِي حال منازعة الأكفاء ومجاذبة الخصوم، وكان شيخًا وقورًا، وزِمِّيتًا ركينًا، وكان ذا تصرُّف في العلم، ومذكورًا بالفَهم والحِلم”.
ومن الواضح أن الخطيب لا يَصلح منه ولا له أن يبقى طوال الوقت ساكنًا متخشبًا، فضلاً عن أن هذا ضد الطبيعة الإنسانية في عفَويَّتها وتلقائيَّتها، وحبها للحركة والاستعانة بإشارات اليد والوجه على تأكيد ما تريد التعبير عنه، وكانت العرب في الجاهلية تُمسك بالعصا عند الخطابة، فعابَتها الشعوبية بذلك، ولا أدري لماذا؛ إذ ليس في الإمساك بالعصا لأي غرض ما يعاب، وقد دافع الجاحظ في “البيان والتبيين” أقوى دفاعٍ عن هذه العادة، وبيَّن سُخف عقول الشعوبيين الذين يتمحَّلون العيوب على العرب في غير مُتمحل، رغم أنه لم يكن عربيًّا بالدم، بل باللغة والثقافة والنزعة الإسلامية، ومن الخطباء مَن يُمسك سيفًا من خشبٍ؛ كما كان الحال في خطبة الجمعة في كثير من المساجد المصرية حتى وقت قريب، إذ يجد الخطيب السيف في انتظاره أعلى المنبر، فيتناوله ويظل ممسكًا بمِقبضه طوال إلقائه الخطبةَ، كذلك كان الخطباء العرب يُلقون خطبهم واقفين، إلا إذا كانت خطبة زواجٍ، فإنهم كانوا يقعدون كسائر الحضور.
وكثيرًا ما يقف الخطباء – إذا وقَفوا – على شرف من الأرض؛ كي تراهم العيون براحتها، كذلك ينبغي أن يكون الخطيب جهير الصوت، وأن يكون على علم بنفسية جمهوره، وبالطريقة التي يستطيع أن يكسبهم بها إلى صفِّه، ويستولي على آذانهم وعقولهم وقلوبهم، وأن يكون جاهزًا لمفاجآت الوقت والمكان، فلا يَرتبك إذا ما وقع ما لم يُقدِّر حسابه من قبلُ، بل يعرف كيف يواجهه في الحال ولو بدعابة، أو بكلمة من كلمات الحكمة، أو مثلٍ من الأمثال السائرة…، ولا شك أن الخطيب كلما اتَّسعت ثقافته وقراءته، سَهُلت عليه مهمَّته، وشعر كأنه يَمتاح من بحرٍ ولا يَنحِت من صخرٍ، وعليه أيضًا أن يراعي مستوى جمهوره من الوعي والثقافة والإحاطة بالموضوع الذي يخطبهم فيه، وكذلك مستواهم في اللغة، فلا يتأنَّق مثلاً في وجه جمهور محدود الثقافة لا يبالي بالأداء اللغوي، وهو ما عناه العرب قديمًا حين قالوا: “لكل مقامٍ مقال”، وإن كان الأفضل بوجه عام مراعاة السهولة اللفظية، وقِصَر الجُمَل ما أمكَن، أو على الأقل: تجنُّب التقعُّر اللغوي والإغراب اللفظي والتركيبي، فليست الخطبة بالسياق الذي يحتمل هذا؛ إذ لا يستطيع الذهن متابعة الخطبة التي تتدفَّق ولا تتوقف، وفي ذات الوقت يفكِّر في معنى كلمة صعبة، أو يتابع انعطافات تركيب طويل مُعقدٍ، وعلى الخطيب أيضًا أن يُراوح بين الجمل الخبرية والجمل الإنشائية، وألا يكون كلامه ماءً واحدًا منعًا للإملال، وأن يُراوح كذلك بين رفع الصوت وخفضه، وبين سرعة الإلقاء وبُطئه، حسبما يُمليه السياق والمعنى الذي يكون بصدده، ومما يجعل للخطبة طلاوةً أن يتَّجه الخطيب إلى مُستمعيه بين الحين والحين بسؤالٍ أو تعجيبٍ؛ فهذا دليل على اهتمامه بهم، ومن شأنه أن يُثير أذهانهم ويحمي مشاعرهم.
وفي “البيان والتبيين”؛ للجاحظ، وكذلك في “الصناعتين”؛ لأبي هلال العسكري، ذِكرٌ لما في صحيفة الهند المشهورة من كلام عن الخطابة، وما تَستلزمه ممن يتَّخذها صناعةً، ومن ذلك: “أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة؛ وذلك أن يكون الخطيب رابطَ الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، مُتخير اللفظ، لا يكلم سيِّد الأمة بكلام الأُمة، ولا الملوك بكلام السُّوقة، ويكون في قواه فضل التصرُّف في كل طبقة، ولا يُدقِّق المعاني كل التدقيق، ولا يُنقِّح الألفاظ كل التنقيح، ولا يُصفيها كل التصفية، ولا يُهذبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك؛ حتى يصادف حكيمًا، أو فيلسوفًا عليمًا، ومن قد تعود حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ، وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة، لا على جهة الاعتراض والتصفُّح، وعلى وجه الاستطراف والتظرُّف، قال: ومن عِلم حقِّ المعنى، أن يكون الاسم له طِبقًا، وتلك الحال له وَفقًا، ويكون الاسم له لا فاضلاً ولا مفضولاً، ولا مقصرًا، ولا مشتركًا ولا مضمنًا، ويكون مع ذلك ذاكرًا لما عقَد عليه أول كلامه، وكون تصفُّحه لمصادره في وزن تصفُّحه لموارده، ويكون لفظه مُونقًا، ولهَول تلك المقامات مُعاودًا.
ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم، وأن تُواتيه آلاته، وتتصرف معه أداته، ويكون في التُّهمة لنفسه معتدلاً، وفي حُسن الظن بها مقتصدًا، فإنه إن تجاوز مقدار الحق في التهمة لنفسه، ظلَمها فأودَعها ذِلة المظلومين، وإن تجاوز الحق في مقدار حُسن الظن بها، آمَنها فأودَعها تهاوُن الآمنين، ولكل ذلك مقدار من الشُّغل، ولكل شُغل مقدار من الوهَن، ولكل وهَنٍ مقدار من الجهل”.
كذلك لا بد أن يكون الخطيب مقبول المحضر والمظهر؛ ملبسًا ووَجهًا وقامةً، وألا يعاني صوته من عيب ولو طارئًا، وإشارات يده وملامح وجهه متناسقة مع ما يقول، وإلا نفَر منه السامعون، وربما سخِروا به وانصرفوا عنه على أقل تقدير، وكان الجاحظ على هذا الرأي، أما سهل بن هارون، فبخلاف ذلك حسبما كتب زعيم الكتاب في “البيان والتبيين” عند تناوله رأي أحد العلماء في صفات الخطيب؛ إذ قال ذلك العالم: “وزين ذلك كله، وبهاؤه وحلاوته وسناؤه، أن تكون الشمائل موزونةً، والألفاظ معدلةً، واللهجة نقيةً، فإن جامَع ذلك السن والسمتُ، والجمال وطول الصمت – فقد تَمَّ كل التَّمام، وكمُل كل الكمال، وخالف عليه سهل بن هارون في ذلك، وكان سهل في نفسه عتيقَ الوجه، حسن الشارة، بعيدًا من الفدامة، معتدل القامة، مقبول الصورة، يُقضى له بالحكمة قبل الخبرة، وبرِقة الذِّهن قبل المخاطبة، وبدقة المذهب قبل الامتحان، وبالنُّبل قبل التكشُّف، فلم يمنعه ذلك أن يقول ما هو الحق عنده، وإن أدخل ذلك على حاله النقص، قال سهل بن هارون: لو أن رجلين خطَبا أو تحدَّثا، أو احتجَّا، أو وصَفا، وكان أحدهما جميلاً جليلاً بهيًّا، ولبَّاسًا نبيلاً، وذا حسب شريفًا، وكان الآخر قليلاً قميئًا، وباذَّ الهيئة دَميمًا، وخامل الذكر مجهولاً، ثم كان كلامهما في مقدار واحد من البلاغة، وفي وزن واحد من الصواب، لتصدَّع عنهما الجمع، وعامَّتهم تقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم، وللباذِّ الهيئة على ذي الهيئة، ولشَغلهم التعجُّب منه عن مساواة صاحبه به، ولصار التعجُّب منه سببًا للعجب به، ولصار الإكثار في شأنه عِلةً للإكثار في مدْحه؛ لأن النفوس كانت له أحقرَ، ومن بيانه أيْئَس، ومن حسده أبعدَ، فإذا هجموا منه على ما لم يكونوا يحسبونه، وظهر منه خلاف ما قدَّروه، تضاعف حُسن كلامه في صدورهم، وكَبُر في عيونهم؛ لأن الشيء من غير معدنه أغربُ، وكلما كان أغربَ، كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم، كان أطرف، وكلما كان أطرف، كان أعجب، وكلما كان أعجب، كان أبدعَ، وإنما ذلك كنوادر كلام الصِّبيان ومُلَح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشدُّ، وتعجُّبهم به أكثر، والناس مُوكَّلون بتعظيم الغريب، واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن وفيما تحت قُدرتهم من الرأي والهوى، مثلُ الذي لهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ، وكل ما كان في ملك غيرهم، وعلى ذلك زهِد الجيران في عالمهم، والأصحاب في الفائدة من صاحبهم، وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويَرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هو أعمُّ نفعًا وأكثر في وجوه العلم تصرُّفًا، وأخف مؤونة وأكثر فائدةً؛ ولذلك قدَّم بعض الناس الخارجي عن العريق، والطارف على التليد”.
والحق أن ذلك إنما هو كلام نظري ألقاه سهل على عواهنه، لا عن إحصاء واستقصاء، ولا نعرف مدى صحته في الواقع، فإن صحَّ، فقد يكون تعبيرًا عن تعاطُف أمثال الخطيب الدميم الشكل الباذ الهيئة، مع مَن على شاكلتهم مثلاً، أما إذا كان الكلام في الخطيب بوجه عام دون مقارنة له بغيره، فما قلناه وقاله الجاحظ هو الصواب، أو في أقل تقدير: هو الأصوب؛ إذ النفوس قد جُبِلت على حب الحُسن والتفوق وطلبه، والاستزادة منه والحكم لصاحبه، وإلا لكان أصحاب المراكز الأولى عند الناس دائمًا أو غالبًا هم الأقِلاَّء الأدماء، ذوي الهيئة التي تقتحمها العين، وهذا مما لا يقول به أحدٌ على سبيل الجد.
وبعض الخطباء قد تكون في نُطقهم عيوب، لكنهم يعملون على علاجها، باذلين في ذلك الجهود الجبارة، وقد قرأت مرةً أن بعض خطباء الإغريق – وهو ديموستين – كان يعاني لثغةً في كلامه، فظلَّ يحاورها ويداورها، ويضع في فمه بعض الحصى عند الكلام، ويقف أمام البحر يخطب كأنه يواجه الجماهير، حتى استقام منطقه، وذهب العيب الذي كان يسبِّب له القلق والفشل، وعندئذ أضحى قادرًا على القيام تلقاء الجمهور دون أية مشاكل، ومثله ما حكاه رواة العرب من أن عبدالله بن سعيد بن العاص، كان لا يخطب إلا اعتَرته حبسة، فلم يزَل يعالج الكلام، ويوسِّع أشداقه؛ حتى استقام له لسانه، وصار من الخطباء المعروفين، ولواصل بن عطاء خطبة مشهورة تجنَّب فيها حرف الراء تمامًا؛ إذ كان كديموستين الإغريقي ألثغَ، مما ألزمه أن يَهجر كل كلمة فيها ذلك الحرف، ويستعيض عنها بمرادف لها يخلو منه، وقد كنت أحسَب أنه أعدَّها مُسبقًا، وتدرَّب عليها حتى حفِظها، وأنها لم تكن ارتجالاً، إلى أن قرأت في “البيان والتبيين” أنه كان يفعل ذلك كثيرًا في محاجته للخصوم ومفاوضاته مع الإخوان، فكان هذا مبعثًا لدهشتي العظيمة، كما كان سعد زغلول – فيما قرأت – لا يُحسن نُطق القاف على النحو الشائع؛ إذ كان ينطقها أقرب ما تكون إلى الكاف، ومع ذلك كان خطيبًا ناجحًا، يستولي على السامعين، لكن هذا من الأمثلة الشاذة التي لا يقاس عادةً عليها، ولا بد أنه كانت فيه حسنات هائلة أخرى تغطي على هذا العيب، وتَصرف المستمعين عن الانتباه له.
ومما ينبغي التنبه إليه: أن الخطبة – شأنها شأن أي عمل فني – لا بد أن يكون لها موضوع واحد تدور حوله، وإلا كانت أشتاتًا من الكلام، تجري يمينًا وشمالاً دون محور يُمسكها، ويضمن لها الصلابة والرسوخ، فيَضيق بها الجمهور،؛ إذ يشعر أنه قد ضلَّ الطريق، ولم يَعُد هناك مَخرج، كذلك لا مناص من أن يكون للخطبة نظام وترتيبٌ، فتبدأ بمقدمة يُهيئ فيها الخطيب النفوس لما يريد أن يتحدَّث فيه، ولا يَهجم على موضوعه مرة واحدةً، كأنه في معركة يريد أن ينتهي منها سريعًا بالقضاء على خَصمه، وفي هذه المقدمة يستطيع أن يأخذ بيد المستمعين رويدًا رويدًا إلى أن يبلغ بهم الموضوع الذي يبغي مخاطبتهم فيه، فإذا وصل إلى موضوعه، شرَحه وفصل القول فيه، واحتجَّ له، وعمِل بكل سبيل على استمالة الحاضرين إلى رأيه، موشيًا كلامه بكل ما من شأنه أن يَجذب النفوس والآذان له من شواهد شعرية، وآيات قرآنية، وأحاديث مصطفوية، وأقاويل حِكَميَّة، وما إلى هذا، وإذا كان هناك رأي مخالف لما يقول، تعرَّض له وبيَّن ما فيه من خطأ وضَعْف، وحينما ينتهي من ذلك، عليه أن يخرج بسامعيه من الخطبة برِفق كما دخلها بهم برِفقٍ، ولا يَبتَر الكلام بترًا؛ حتى لا يُزعج جمهوره، ويتركهم حيارى ساخطين؛ جرَّاء شعورهم أنهم أُخِذوا على حين بَغتة.
وفي “البيان والتبيين”؛ للجاحظ و”زهر الآداب”؛ للحصري القيرواني – كلامٌ لابن المقفع عن أهمية تمهيد الخطيب لموضوع خطبته: “فأما الخُطَب بين السِّماطين، وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطلٍ، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمِعت صدره، عرَفت قافيته، كأنه يقول: فرِّق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة التواهب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدلُّ على عَجُزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصَدت، والغرض الذي إليه نزَعت”.
وكذلك في “البيان والتبيين”؛ للجاحظ، و”الصناعتين”؛ للعسكري، و”زهر الآداب”؛ للحصري – تحذيرٌ من الخروج عن موضوع الخطبة والاستطراد إلى غيره؛ إذ أورَد الجاحظ عن أحد الشعراء الرواة قوله: “سمِعت أبا داود بن حَريز يقول: وقد جرى شيء من ذكر الخُطَب وتحبير الكلام واقتضابه، وصعوبة ذلك المقام وأهواله، فقال: تلخيص المعاني رِفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادُق من غير أهل البادية بُغض، والنظر في عيون الناس عِيٌّ، ومَسُّ اللحية هُلْك، والخروج مما بُنِي عليه أول الكلام إسهابٌ.
ويجد القارئ هذا الكلام نفسه عند الاثنين الآخرين.
المصدر: الألوكة
________________________________________