الربيع العربي في فخ الدولة الحديثة
جلال الورغي
الجمعة 12 ربيع الثاني 1437//22 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
سوء تفاهم تاريخي بين الدولة العربية الحديثة والمجتمعات العربية يبدو مزمنا، جعلهما وجها لوجه لعقود طويلة. التحدي هو هل يمكن المصالحة بين الشعوب العربية ودولها، وإذا كان ذلك كذلك فكيف؟
تعلقت آمال كبيرة لا حدود لها على انتظارات الربيع العربي ومآلاته، وحبس الكثير أنفاسهم انتظارا لما يمكن أن يتفتق عنه التحول التاريخي الكبير الذي انطلق من تونس. كان مفهوما أن تستبشر الشعوب العربية كلها بهذا التحول وترى فيه خلاصا من حقبة دامت لعقود، تكرست فيها أنظمة عربية استبدادية، فقد غالبيتها كل معقولية للاستمرار في الحكم بسبب الفشل في التنمية وغياب العدالة الاجتماعية والحكم الراشد واستشراء الفساد داخليا، وتعزز التبعية والارتهان للخارج والعجز عن إبراز الحد الأدنى من التضامن العربي والإسلامي.
لكن الذي كان مثار اهتمام هو الوعود والآمال الكبيرة التي أطلقتها النخبة في دول الربيع العربي، متناسية أن هذا التحول لما يزل في بداياته وأمامه من التحديات ما يحيل الأوضاع في بعض الأحيان أقسى حالا من تلك التي سبقت التحول والتغيير، لا سيما أن هذا التحول يصطدم بتحدٍ جيوسياسي وطبيعة الدولة القطرية.
لم يمكّن تسارع الأحداث وحجمها، النخبة والقوى الفاعلة من إدراك طبيعة التغيير الذي هم بصدده، ولا مكّن تسارع الأحداث هذا تلك القوى من التسلح برؤية تسمح لهم بأن يعمقوا هذا التحول ويثبتوا أركانه، بحيث يترسخ ويطال الجذور والأسس والبنيات المؤسسة للقديم.
على العكس من ذلك تعامل الكثير مع هذا التحول التاريخي ونظروا إليه كمجرد تعديل في نظام حكم، وعملية إصلاح لمنظومة أجهزة، في حين كان يجب أن ينظر إليه كثورة على النظام والدولة نفسها: كيانها وطبيعتها، من أجل إعادة تعريفها على أسس مختلفة تستجيب لمقتضيات النهوض والتحول التاريخي.
لقد حرصت القوى الفاعلة في بلدان الربيع العربي أن تنجز وأن تنقل أقطارها من حقبة إلى أخرى أكثر ازدهارا وتنمية، على قاعدة نظام ديمقراطي تعددي، وبسط الحريات، وإقامة عدالة اجتماعية.
بيد أن هذا الحرص كان في كثير منه أمنيات ورغبات لم تدرك حجم وسطوة الدولة القطرية وتغولها، وكيف يمكن أن تشكل هذه الدولة نفسها عائقا أمام أي تطلعات في التغيير الحقيقي والعميق.
وقد كان التمشي لدى النخب السياسية في دول الربيع العربي والسعي إلى إقامة نظام حكم ديمقراطي رشيد، يقفز ويصطدم بحقيقة الإطار الذي يتم في سياقه هذا الجهد، وهو أن الدولة القطرية عاجزة بطبعها وبخصائصها عن احتضان هذا الجهد التغييري النهضوي. حيث إنالتجربة التاريخية للدولة العربية الحديثة أثبتت أنها كيان مأزوم، يحمل تناقضاته وفشله في طبيعته ويرتهن للعوامل الخارجية بشكل كبير. ولم يفلح قطر عربي واحد في تحقيق الحد الأدنى من التحول والتقدم الحقيقي.
فقد أثبت مسار الأحداث خلال الفترة الماضية من تجربة دول الربيع العربي، أن الدولة -كأجهزة ومنظومة- طوّعت وكيّفت القوى الثورية داخلها، فخفّضت تطلعات الشعوب العربية في التغيير الحقيقي إلى أدناه. “التنازلات” و”الاعتدال” و”التوافق” كمفاهيم جرى الترويج لها خلال المراحل الانتقالية، تعكس في جوهرها عملية انصياع وتكيف مع الدولة ومنطقها، وهي مفاهيم تبدو في ظاهرها إيجابية وتعبر عن “حكمة”، بيد أنها في عمقها تعكس نجاح الدولة القطرية في تطويع القوى الثورية والتغييرية وفرض إرادتها ومنطقها عليهم.
ولعل مثال الدستور التونسي أو المصري تعبير عن سطوة هذه الدولة، التي رسخت مفاهيمها وكرست نفسها الإطار الرخو الذي تتجمع فيه رغبات القوى السياسية وتعبر عن نفسها، لا إرادة في التغيير وتحقيق أهداف الثورة، وإنما في سياق تسويات بين هذه النخب. إذ تبدو هذه الدولة في مواجهة وتقابل مع تطلعات شعوبها، وكم خابت ظنون قوى شعبية كانت وقود التغيير ورأس حربته، بعد أن استفاقت على سياسات ووفاقات لا تعكس أبدا آمالها وأحلامها في مرحلة ما بعد الثورة.
وقد تحرص بعض النخب -بما فيها الإسلامية- أن تبرر هذا بأنه تكتيك من أجل ترويض الدولة، بيد أن هذا التمشي السياسي المعبر عن نفسه في تسويات وتوافقات وتنازلات، يتحول رغما عن هذه النخب إلى خطاب سياسي، يتجذر ويتعمق ويصبح حالة ذهنية. فالممارسة السياسية هي في نهاية المطاف خطاب سياسي بغض النظر عن النوايا. وكثير من الأنظمة العربية كان جزء من أزمتها في الاستجابة والتكيف مع مقتضيات الدولة ومنظومتها، ولم تكن أنظمة سيئة بالضرورة.
فطبيعة الدولة القطرية أفرزت أنظمة عربية منقسمة على بعضها البعض، و”متعادية” كمنظومات، بسبب الاختلال في الجغرافية وفي الثروات الطبيعية، مما يجعلها تضعف بعضها البعض، ويربك بعضها البعض الآخر، ويجهض البعض تجارب البعض في تجاوز الحجم والمكانة المفترضة والمتوقعة، ولكن يحرس ويراقب بعضها البعض.
في ظل هذه المعادلات التي ترسخت وجرى تثبيتها وإضفاء شرعية كونية عليها، تبدو أي محاولة لإحداث عملية اختراق جدية فيها -ولو بشكل جزئي- مستحيلة أو تكاد. لا سيما أن هذا الانقسام المتعادي، لم يتكرس فقط عبر عقود فتحول إلى ثقافة وحالة ذهنية، وإنما أيضا بات معادلات محمية دوليا، أصبحت خطوطا حمراء يُحظر مجرد التفكير في إعادة النظر بها.
فـ”الدولة الحديثة” القطرية كإطار للأنظمة العربية، أفلست مبكرا في أوروبا واقتنع الأوروبيون بأن لا خيار أمامهم إلا بتخطيها، وتجاوز الحواجز والحدود، وإن بشكل تدريجي، فاندرست الحدود بينها عبر معاهدات، حتى باتت 26 دولة -لا حدود ولا حواجز بينها- سوقا ضخمة، وفضاء جغرافيا فسيحا، يتحرك فيه الأوروبيون دون اختناق ولا مراقبة، وفضاء سياسيا حيويا لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه في المعادلات الدولية.
اقتنع الأوروبيون مبكرا ومنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين بأن “الدولة الأمة” لم تعد قادرة لا على الاستمرار ولا على احتضان تطلعاتهم وأحلامهم، ولا على مواجهة التحديات ككيانات مبعثرة، فعبروا إلى “الأمة الدولة” التي وسّعت ضيقا، وفتحت أفقا، واستوت قوة ونفوذا. بل لا يزال هذا الفضاء الأوروبي يبحث عن التوسع بمبادرات إضافية، تؤمنه، وتعزز حضوره، وتضمن ازدهاره.
فإذا كان هذا وضع الدول الأوروبية التي كان بعضها إمبراطوريات أصلا، وسيطر بعضها قرونا على بعض من الكرة الأرضية، فكيف لكيانات عربية صغيرة أن يكون لها من أمرها شيء، وبعضها لا تتوفر فيه حتى مقومات الدولة بمفهومها التقليدي؟ فهل نتوقع منها شيئا يذكر حتى إن آل أمر نظامها، ديمقراطية راشدة، وانبسطت فيها الحرية، قيمة عليا، واستوى فيها سلطان العدل حكما؟
تونس مثلا، مهد الربيع العربي، بخصائصها كدولة محدودة الحجم والإمكانيات، وفضاء مفتوح على الخارج، مصدرا لقوتها وديمومتها، وجزءا من نظام إقليمي ودولي مستقر، لم يكن يتوقع أن يسمح لها أن تمضي لبناء نظام سياسي جديد يعبّر عن إرادة شعبها في تحقيق الازدهار الاقتصادي واجتراح منوال تنموي واعد.
وكان الحرص على الإنجاز وتجذير التغيير والتحول سببا في أن تجد البلاد نفسها منقسمة على نفسها، بل وضعت النخب بعضها في مواجهة بعض، لتنتهي الدولة بمنطقها وعقلانيتها الخاصة إلى احتواء الجميع واستيعابهم، في منطقها، فاحتوت ثم روضت ثم أزاحت النخبة السياسية التي جاءت بها الانتخابات. ليحل محلها رجالات إدارة وأجهزة متساوقين مع معقوليتها وأجهزتها (عودة البيروقراطية) بدعم ومباركة وضمانات من قوى خارجية. وضع يمكن تعميمه حتى على دول كبرى مع اختلاف في التفاصيل.
كان صادما للإسلاميين ولغيرهم أن يجدوا أنفسهم فجأة في حضن الدولة التي كانوا في مواجهة معها على مدى عقود، بل تشبعوا بثقافة الاشتباك والتصادم معها. وكان عليهم أن يتكيفوا مع الواقع الجديد، جزءا من هذه الدولة، بل مسيّرين لها أو لجزء من مؤسساتها، إدارة للحكم أو مشاركة فيه، بعد أن كانت هذه الدولة بكل أجهزتها إما محاربة أو لافظة لهم.
اعتقد الإسلاميون بعد أنهم انتقلوا من طور “التعبد عبر مواجهة الدولة إلى التعبد بالدولة وعبرها”، احتفاء بانتصاراتهم بعد الثورات، بيد أن هذا القول بدا متسرعا ومتجاهلا لتعقيدات الواقع وإكراهاته ومقتضيات الدولة وفخاخها.
فطبيعة الدولة التي يأمل ويتطلع الإسلاميون للتعبد من خلالها بعد الربيع العربي، الدولة الوطنية القطرية الحديثة، الناشئة بعد الاستقلال المتشبعة بثقافة البيروقراطية الاستعمارية، المرتبطة هيكليا ووظيفيا بدوائر أكبر منها، والمشروط وجودها بالانضباط لما تحققه من استقرار في حفظ المصالح. وهي الدولة نفسها التي كان الإسلاميون أكبر ضحاياها لعقود، كيان عاقل لها عقلانيتها ومنطقها الخاص الذي يحكمها.
وكشف هذا التمشي عن غياب رؤية في الحكم وفي العلاقة بالدولة لدى قوى التغيير. وهذا الغياب هو نتيجة تاريخية طبيعية لوضع سياسي لم يعشه التيار الإسلامي وحده وإنما كل التيارات السياسية التي رفضتها أنظمة الحكم بشكل أو بآخر بعيد دولة الاستقلال. فلم يكن لهذه القوى حظ في مراكمة تجربة سياسية في إدارة الحكم أو تبين طبيعة هذه الدولة وعقلانيتها، بل تشكلت أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة على نقيض مع هذه القوى وفي مواجهة معها.
وراكمت أنظمة الحكم -سواء في مصر عبد الناصر والسادات ثم مبارك، وفي تونس بورقيبة ثم بن علي- منظومة إدارة ونمط ثقافة وجهازا مفاهيميا يتناقض بشكل صارخ مع ما يطرحه الإسلاميون أو القوميون أو اليساريون، وقد خلق هذا الميراث المتراكم إعاقات حقيقة لهذه القوى المتطلعة للتغيير، فإذا وصلت بشكل أو بآخر للحكم وجدت نفسها في حالة من الإرباك أو العجز، مما يدفعها لخيارات كانت تعتقد أنها غير متصورة وغير مفكر فيها أصلا، على غرار الاستعانة برجالات النظام القديم، والتكيف مع منطق الأجهزة القديمة وثقافتها، وفي المحصلة التكيف مع معقولية الدولة وتلبس منطقها، من خلال الخضوع لبيروقراطيتها.
هذه الحركات بحكم طبيعة الصراع الاجتماعي والسياسي الذي وجدت نفسها فيه منذ نشأتها، لم يكن لها رؤية في الدولة أو الحكم، وكل أطروحاتها كانت تدور وتتمحور حول سبل مواجهة الأنظمة الطاغية، وسبل الترسخ في المجتمع عبر الدعوة والتربية أو بث أفكارها وأطروحاتها.
ولقد أبدعت هذه الحركات -ومنها النهضة كما الإخوان- عندما توفر لها هامش الحرية والنشاط في التواصل مع المجتمع، والحضور المكثف في منظماته المدنية والأهلية. بيد أنه عندما يتعلق الأمر بالدولة ورؤية في الحكم، فلا تكاد النهضة أو غيرها تقدم تصورات وأطروحات واضحة في هذا الشأن.
وبقدر ما نجحت هذه الحركات في الدفاع عن الهوية وإعادة تثبيتها كمعطى أساسي في المجتمعات العربية، ارتبكت في تقديم البدائل الحقيقية والواقعية للمشكلات الأساسية المتعلقة بإدارة الدولة. ولا يعني هذا الكلام بالضرورة أن الأنظمة المطاح بها أفضل حالا، بل بالعكس تماما، كانت أنظمة أكثر فشلا، بما اختزن فيها من عجز وفساد، معطوفا على استبداد وقمع.
فالدولة التي تشكلت -عبر عقود طويلة، في سياق تاريخي محدد، ونظام إقليمي ودولي واضحين ومحددين لقوانين اللعبة- كائنا عقلانيا لها عقلها ونمطها السلوكي الذي ينظمها، تعي جيدا معقوليتها، وتدرك تماما “الكيانات الغريبة” الطارئة عليها، فتنهض لمقاومتها، مستعملة الصد حينا والاستيعاب والترويض أحيانا، مما يعسّر على القوى التغييرية الجديدة التمكن من هذا الكائن وترويضه.
بيد أن الذي زاد من تعقيد أوضاع هذه القوى -لا سيما التيارات الإسلامية- بعد الثورات هو أنها قبلت وفرض عليها بأشكال مختلفة أن تعمل ضمن المنظومة القديمة، وفي أفقها، بل حاولت التكيف مع هذه الأجهزة وتلك الثقافة السياسية والإدارية والمؤسسية التي ترسخت على مدى عقود، متناقضة مع خصائص هويتها ومقوماتها.
هذا الوضع أوقع هذه القوى في مأزق حقيقي، حال دونها ودون المضي في تحقيق التطلعات الثورية والأهداف التي من أجلها دفع المجتمع بها إلى قيادة البلاد. وقد اتضح أن هذه القوى لا هي استطاعت التكيف مع المعادلات القائمة، ولا أجهزة “الدولة العميقة” سهّلت لها مهمة التكيف، فكانت العوائق مزدوجة، والمأزق مزدوجا أيضا.
هذه الإشكاليات لم تمكن القوى الإسلامية الصاعدة للحكم أو المشاركة فيه من فرصة اكتساب مهارات إدارة الصراع، إذ ظلت في الغالب محسوبة في الحكم ولكنها لا تحكم، مسؤولة عن الإدارة ولكنها لا تديرها، ترأس الأجهزة ولا تملك قراراتها، تلعب دور من يطفئ النيران ويخمد الحرائق، دون أن تعبر إلى مرحلة المبادرة.
نحن اليوم أمام مأزق تاريخي حقيقي، وجوهه متعددة، وعوامله مختلفة، وحلوله مركبة، تتراوح بين اجتراح رؤى وأطروحات جديدة، تدرك تعقيد الأزمة، وخطورتها على المشروع النهضوي التغييري، وتقترح المعالجات المناسبة، وبين الانخراط في تجارب تحرص على إحداث اختراقات في نموذج وأسس الدولة الحديثة لإعادة بنائها بما يستجيب للمشروع النهضوي.
المؤكد أن بداية حل هذا المأزق تنطلق بإدراكه أولا، وهي خطوة قطعت فيها النخب العربية بعض الأشواط، فبرزت كتابات لامست هذا المأزق بشكل أو بآخر على غرار: “الإسلام في مواجهة الدولة الحديثة” لمنير شفيق، و”الدولة ضد الأمة” لبرهان غليون، و”الضمير والتشريع” لعياض بن عاشور، و”الدولة في الإسلام” لعبد الوهاب الأفندي، و”الدولة المستحيلة” لوائل حلاق.
سوء تفاهم تاريخي بين الدولة العربية الحديثة والمجتمعات العربية يبدو مزمنا، جعلهما وجها لوجه لعقود طويلة. التحدي هو هل يمكن المصالحة بين الشعوب العربية ودولها، وإذا كان ذلك كذلك فكيف؟
المصدر : الجزيرة.نت