بسم الله الرحمن الرحِيم
بقلم الإمام يخشى الله منصور
قال الله تعالى في كتابه الكريم:
“وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (الأنفال: 61)
قراءة المزيد: محكمة إسرائيلية تمهل الحكومة شهرا لتشكيل لجنة تحقيق في أحداث 7 أكتوبر
تعد هذه الآية الكريمة من أبرز الأسس الأخلاقية التي يرسيها الإسلام في التعامل مع حالات الحرب والسلم. وقد فسّر الإمام ابن كثير – رحمه الله – هذه الآية بقوله: إذا أبدى العدو رغبة حقيقية في السلام، فإن على المسلمين قبول ذلك، لأن الإسلام هو دين السلام والرحمة، لا العنف والعدوان.
وأكد الشيخ الإمام يخشى الله منصور أن قبول السلام ليس ضعفا أو تنازلا، بل هو علامة على قوة الإيمان وعلوّ النفس، مشيرا إلى أن هدف القتال في الإسلام ليس سفك الدماء، بل إزالة الظلم وتحقيق العدالة.
وأضاف أن وقف الحرب من أجل إنقاذ الأرواح ودرء المفاسد أولى وأفضل من الاستمرار فيها دون غاية شرعية. ومع ذلك، شدد على ضرورة الحذر من خدع الأعداء، الذين قد يُظهرون الرغبة في السلام لتحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية على حساب المسلمين.
وتابع قائلا: “اليقظة والجاهزية الدائمة جزء من تعاليم الإسلام في حماية الأمة وصيانة كرامتها، وعلى المسلمين أن يجمعوا بين النية الصادقة، والعدل، والحكمة، في كل خطوة نحو السلام”.
قراءة المزيد: ارتفاع الروبية أمام الدولار إلى 16.573 صباح الخميس
وأشار إلى أن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا إذا بني على أسس إنسانية عادلة، مؤكدًا أن السلام الذي يستخدم أداة ضغط من الأقوياء على الضعفاء ليس إلا شكلاً من أشكال الظلم الحديث.
وختم بقوله: “الآية الكريمة لا تأمر بالتنازل أو الاستسلام، بل تدعو إلى التروي والحكمة، واتخاذ القرار الأنسب الذي يحقق المصلحة العامة للأمة في ظل أحلك الظروف”.
الأمل الذي يتجدد بين أنقاض غزة
إن قبول المقاتلين وأهالي غزة باتفاق وقف إطلاق النار يجسّد تطبيقا عمليا للآية الكريمة، ويبعث برسالة واضحة مفادها أن الأمة الإسلامية لا تغلق باب السلام، لكنها في الوقت نفسه لا تفرّط في كرامتها ولا تساوم على عزتها.
قراءة المزيد: أسعار ذهب “أنتام” تواصل الصعود وتبلغ 2.407 مليون روبية للغرام
عندما يمدّ العدو يده للسلام، يأمر الإسلام بقبول الدعوة – ولكن بحذر ويقظة – حتى لا تسفك الدماء عبثا، وحتى يتمكّن الأطفال من احتضان الأمل من جديد، ولتنبت أرض غزة من جديد روح التفاؤل بالمستقبل.
لقد علّم سكان غزة العالم أن الأمل لا يموت أبدا، وأنه حتى تحت أنقاض الركام، ما زال هناك نفس يتردد، ونبض ينبض بالحياة. لقد أظهروا لنا أن الصبر والثبات والإيمان قادرون على إشعال النور في قلب الظلام.
غزة، تلك الرقعة الصغيرة التي دمّرت مرارا تحت قصف القنابل ووابل الرصاص، تحاول اليوم أن تنهض من جديد، متمسكة بخيط الأمل. ففي قلب الدمار، لا تزال الحياة تقاوم.
لا تزال الابتسامة ترتسم على شفاه الأمهات والأطفال، رغم التعب الذي تخفيه العيون، والجوع الذي ينهش الأجساد. غزة التي باتت اليوم مدمّرة بالكامل، لا يزال سكانها يجدون طريقهم إلى الحياة، كجمرة صغيرة لا تنطفئ رغم العواصف.
قراءة المزيد: جاكرتا هذا الخميس غائمة، وأمطار خفيفة متوقعة في بعض المناطق
في الأيام القليلة الماضية، شهد العالم لحظة نادرة من التهدئة، متمثلة في إعلان وقفٍ لإطلاق النار. وبعد شهور من القصف المتواصل وصرخات الألم، تم التوصّل أخيرًا إلى اتفاق بين قوات الاحتلال الصهيوني والفصائل الفلسطينية.
اتفاق وقف إطلاق النار هذا لم يكن مجرد خبرٍ عابر لسكان غزة، بل كان نبأ يهزّ القلوب، وأملًا جديدًا للذين لا يزالون يقاومون البقاء. ففي مخيمات النزوح، رفعت الأيادي إلى السماء، وترددت الأدعية مع الدموع، راجين أن تكون هذه الهدنة نهاية حقيقية للحرب، لا محطة مؤقتة في طريق طويل من المعاناة.
بالنسبة لأهالي غزة، فإن وقف إطلاق النار ليس نهاية المعركة، بل هو النفس الأول بعد غرق طويل في الخراب. إنها ليست مجرد هدنة من القتل، بل فرصة لإعادة ترتيب الحياة، ولملمة شتات الأمل المبعثر تحت الأنقاض.
وقد رحّب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بالاتفاق، واعتبره خطوة في اتجاه وقف شامل للعنف، داعيًا جميع الأطراف إلى ضبط النفس والالتزام ببنود الاتفاق.
قراءة المزيد: الأمم المتحدة: إسرائيل أبلغتنا بتقليص شاحنات مساعدات غزة للنصف
من جهتها، أكدت مصر وقطر – بمبادرة من الولايات المتحدة – أنهما لعبتا دورًا رئيسيًا في الوساطة، مشيرتين إلى أن هذه الهدنة جاءت ثمرة لجهود دبلوماسية شاقة وطويلة.
تحديات ومستقبل السلام في غزة
إن الركيزة الأهم التي ينبغي أن تقوم عليها أي مساعٍ دبلوماسية، هي اعتماد مبدأ العدالة لا منطق الهيمنة. فالسلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا احترمت جميع الأطراف الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحق في الأرض، والحرية، والسيادة.
كل قرار سياسي يتجاهل هذا المبدأ لن يؤدي إلا إلى إطالة معاناة شعبٍ عاش طويلًا في قلب الأزمات. فالسلام الحقيقي لا يُبنى على الضغوط، بل على احترام حقوق الإنسان، والسعي الجاد لتلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع.
قراءة المزيد: إعلام إسرائيلي: بدء مناقشات لتنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب
وعلى هذا الأساس وحده، يمكن لوقف إطلاق النار أن يتحوّل إلى سلام دائم. إذ أن اتفاق الهدنة يمكن أن يمنح سكان غزة أملاً حقيقيًا بمستقبلٍ آمن وكريم ومستدام.
لكن التحدي الأكبر بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار هو ضمان ألا يتوقف مسار السلام عند هذه النقطة، بل أن يتطور إلى اتفاق شامل يشمل إعادة إعمار غزة، وإنعاش الاقتصاد، وتشكيل حكومة فلسطينية ذات سيادة، بعيدة عن أي تدخل خارجي.
فمن دون خطوات عملية ملموسة، لن تكون الهدنة سوى استراحة مؤقتة لا تمسّ جذور الأزمة. إن السلام الحقيقي لا يولد إلا من رحم العدالة، وبدون العدالة، يبقى السلام مجرد وهم.
لذلك، فإن على جميع الأطراف مسؤولية دعم نضال الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حقوقه، وضمان أن يصبح مستقبل غزة وفلسطين بأكملها مستقبلًا آمنًا ومستقرًا.
قراءة المزيد: قائد القوات المسلحة الإندونيسية يأمر الشرطة العسكرية بالالتزام بقواعد تشغيل الصفارات والصوات القوية
إن هذا المسار يتطلب صبرًا وجهدًا استثنائيين. فبعد سنوات من الحصار والاعتداءات والمعاناة، تعلّم سكان غزة أن كل خطوة صغيرة نحو السلام هي انتصار يحمل في طياته معاني عظيمة.
ويلعب المجتمع الدولي دورًا محوريًا في الحفاظ على هذا الزخم. ويجب أن تصل المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل عاجل، وأن تُسلَّم إلى جهات موثوقة لضمان توزيعها العادل بعيدا عن التوظيف السياسي أو السعي وراء مكاسب آنية.
كما ينبغي على شعوب العالم الاستمرار في ممارسة الضغوط على الكيان الصهيوني لاحترام حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقهم في العودة إلى منازلهم، والتنقل بحرية داخل وطنهم الشرعي.
أكد فيليبو غراندي، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (الأونروا)، قائلا:
“كل يوم يمرّ دون الوصول إلى الاحتياجات الأساسية هو يوم إضافي من المعاناة لشعب غزة. ولا يمكن تحقيق حل طويل الأمد إلا إذا تم احترام الحقوق الأساسية لسكان غزة.”
قراءة المزيد: ارتفاع غير مسبوق في أسعار سبائك الذهب من شركة أنتام
إن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه مؤخرا لا ينبغي أن يُنظر إليه كوقف مؤقت للعنف فحسب، بل يجب أن يُشكّل نقطة انطلاق لمسار طويل نحو إعادة إعمار غزة، وتحقيق العدالة، وبناء مستقبل آمن للأجيال القادمة.
ولا ينبغي للمجتمع الدولي أن يبقى متفرجا، بل عليه أن يكون داعما وشاهدا على معاناة أولئك الذين يعيشون بين الأنقاض، وضامنا لأن تتحوّل كل دعوة وكل جهد صادق إلى جزء من مسار بناء السلام والمستقبل المشرق.
لقد أراد شعب غزة أن يذكّر العالم بأن السلام ليس مجرد كلمات تكتب على الورق، بل هو ثمرة أفعال حقيقية تبنى على احترام الحقوق الإنسانية الأساسية.
ومن بين الغبار والأنقاض، وُلد درس ثمين: أن السعي إلى السلام والعدالة يتطلب دائمًا شجاعة وصبرًا وثباتًا لا يتزعزع.
وقف إطلاق النار لا يمحو جرائم الصهاينة
قراءة المزيد: 7 شهداء في غزة بقصف للاحتلال و14 خرقا إسرائيليا للاتفاق
إن وقف إطلاق النار في غزة لا يمحو بالضرورة خطايا وجرائم نظام بنيامين نتنياهو. فقد تسبب الإبادة الجماعية التي ارتكبها هذا النظام في معاناة لا توصف للشعب الفلسطيني، وخصوصا سكان غزة.
ولم تقتصر هجمات النظام الصهيوني على فلسطين فحسب، بل امتدت إلى الدول المجاورة، مثل لبنان وسوريا واليمن وإيران وتونس، وأخيرًا قطر في 9 سبتمبر 2025، مخلفة عددا كبيرا من الضحايا والخسائر المادية.
وفي الوقت نفسه، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر اعتقال ضد بنيامين نتنياهو وعدد من كبار المسؤولين العسكريين في الاحتلال الإسرائيلي، بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها.
شكلت هذه الخطوة التاريخية نقطة تحول في جهود تحقيق العدالة، خاصة للشعب الفلسطيني الذي طالما كان ضحية العدوان والحصار المستمرين. كما فتحت هذه القرار آفاقا جديدة أمام المجتمع الدولي بأن مرتكبي الإبادة الجماعية، وانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، وجرائم الإنسانية لن يفلتوا من الملاحقة القانونية.
قراءة المزيد: رئيس مركز الحوار يدعو الرئيس برابوو لافتتاح منتدى السلام العالمي 2025 في جاكرتا
منذ بدء العدوان العسكري في 7 أكتوبر 2023، شهدت الهجمات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة تصعيدًا غير مسبوق. وبحسب تقرير رسمي صادر عن الحكومة الفلسطينية في غزة في يوليو 2025، فقد ألقت إسرائيل نحو 125,000 طن من المتفجرات على هذه المنطقة الضيقة.
تشير هذه الأرقام إلى أن كثافة القصف في غزة تعادل أكثر من عشرة أضعاف قوة القنابل الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما وناجازاكي عام 1945، والتي أنهت الحرب العالمية الثانية.
وفي تقرير بالأقمار الصناعية أعدته وكالة الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (UNOSAT)، تم تأكيد أن حوالي 66 بالمئة من المباني في غزة تعرضت لأضرار متفاوتة، حيث تضرر أكثر من 175,000 مبنى وتدمير كامل لحوالي 8,500 مبنى.
كما أصاب الدمار الشامل دور العبادة والمرافق العامة، حيث أشار وزير الأوقاف الفلسطيني إلى تدمير 814 مسجدًا وثلاث كنائس. فيما سجلت منظمة الصحة العالمية 697 هجومًا على منشآت صحية، أسفر عن تضرر 36 مستشفى بشكل بالغ.
والله أعلم بالصواب.
وكالة مينا للأنباء