الشيطان في التفاصيل… الفلسطينية
معين الطاهر
الثلاثاء 28 محرم 1437//10 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
لا أظن أن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعلون، أمام مؤتمر الجمعيات التعاونية للمستوطنين، قد أعادت ذلك النفر المبتعد عن جوهر القضية الفلسطينية، والمستغرق في تفاصيل اقتراحات وحلول تمس نقاط التوتر فيها، بهدف إنهاء انتفاضة شبابها وإعادته إلى رشده. ذلك أن بعضهم أدمن ذلك إلى درجة أن جيل الانتفاضة الذي أطلق عليه اسم (جيل أوسلو) قد ولد وكبر واستشهد، والمجتمع الدولي مازال يبحث عن مبادرات متجددة، مرة لمفاوضات، ومرة لتهدئة، ويمارس ضغوطه على السلطة الفلسطينية، لقبولها إذعاناً أو طواعيةً ورضى، ظنا منها بأنها بوابة جديدة قد تفتح ما كان مغلقاً.
أعلن موشيه يعلون بوضوح (3/ 11/ 2015) “أن حدود إسرائيل ترسمها المستوطنات المعززة بالأمن، وأنها تنتهي عند آخر ثلم تتم زراعته وحراسته”. في تأكيد واضح أن الاستيطان هو جوهر العقيدة الصهيونية، وأنه، من وجهة النظر الإسرائيلية، باق ومستمر، ولن يقف عند حدود 750 ألف مستوطن في الضفة والقدس الآن، بعد أن كان أقل من 150 ألف مستوطن، في أعقاب اتفاق أوسلو، فهو خلية سرطانية، تمتد وتتكاثر على حساب الوطن الفلسطيني، وتنهش في أجزائه، ولن تنفع في وقفها كل المبادرات وحقن التهدئة والتخدير والوعود الكاذبة، فحيثما تمتد المستوطنات، ترتسم حدود إسرائيل، وعندما تتراجع وتتفكك، يبدأ الوطن الفلسطيني في الظهور.
السعي نحو علاج مظاهر من القضية الفلسطينية برمتها سمة لازمتها منذ بداياتها، بعد الحرب العالمية الأولى، إذ كلما احتج الشعب العربي في فلسطين، عبر هباته المتكررة وإضراباته وثوراته، تحرّك الجمع لتطويق الحراك وتهدئة الجموع الغاضبة، من دون أن يلقي بالا لجوهر المشكلة وأصلها المتمثل في الاستعمار الاستيطاني الإحلالي لفلسطين، والهادف إلى إحلال اليهود الصهاينة المهاجرين مكان السكان العرب الأصليين.
ودوماً يبدأ البحث عن كيفية تحقيق الهدوء والأمن والتعايش المؤقت بين السكان الطارئين وأهل البلاد المستباحة، إذ توالت عشرات القرارات والمبادرات واللجان، من دون أن تفرض سوى نتيجة واحدة، هي بقاء المحتل فوق الأرض التي احتلها، وعدم معاقبته على جرائم احتلاله.
في المبادرة الجديدة لوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، درس آخر بليغ عن الإغراق في الهوامش والتفاصيل، من دون الرجوع إلى المتن الأصلي. وكانت السياسة الأميركية قد غابت، منذ أكثر من عامين، عن الموضوع الفلسطيني، مبررة ذلك بانشغالها بالملف النووي الإيراني، وربما بعد يأسها من قدرتها على ممارسة بعض التأثير على رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، وحمله على التخفيف من تطرّفه في النزاع العربي الإسرائيلي، ومحاولة تجميل هذا الموقف، ليغدو أكثر قبولاً.
لم يحفل الرئيس باراك أوباما بالانتقادات الإسرائيلية لسياساته في الملف النووي، على الرغم من اقتحام نتنياهو له في عقر داره، وتحريضه في الكونغرس الأميركي ضد أوباما نفسه.
ولم يدفع ذلك الرئيس الأميركي إلى تغيير سياسته الشرق أوسطية، أو التقدم بمبادرة جديدة لحل القضية الفلسطينية. ولعله بات مقتنعاً أن إنجازاً واحداً، مثل حل الملف النووي الإيراني في عهد إدارته، يكفيه مؤونة الغوص في ملفات أخرى، وخصوصا الملف الفلسطيني.
لكن، ما إن هبت ريح الانتفاضة بعد الاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى، حتى هرع جون كيري إلى المنطقة، وبدلا من البحث عن أصل المشكلة المتمثل بالاحتلال الإسرائيلي، وعدم شرعيته وضرورة انسحابه، بل وعقابه على جرائمه، إذا بالمشكلة كلها تتمثل في ضرورة تركيب كاميرات في المسجد الأقصى، لمراقبة أفعال الداخلين إليه، وتنظيم الزيارات فيه.
اللافت أن بعضهم اعتبر هذا بمثابة نزع الفتيل عن السبب الحالي للتوتر، وهو بالنسبة إليهم أقصى المراد، على أن هذا التفصيل الصغير سرعان ما اصطدم بالتعنت الصهيوني الذي فسّر موضوع الكاميرات، بما يخدم أهدافه في مراقبة المرابطات والمرابطين في داخل المسجد الأقصى، وأصر على أن تكون مراقبة هذه الكاميرات وأماكنها بتصرف شرطة الاحتلال، ما حمل الأوقاف الأردنية على تجميد المشروع كله.
يُقال إن الشيطان يكمن في ثنايا التفاصيل، إلا أنه، وبعد سيل من التجارب مع السلطات الإسرائيلية، على الشيطان أن يعود ليتعلم منها الكثير مما فاته، في حين ما يزال قطاع من الفلسطينيين والعرب غارقين في وهم البحث عن تفصيلٍ هنا وآخر هنالك، مبتعدين عن لب القضية وجوهرها.
مثل هذا ليس جديداً، فالمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وعبر ربع قرن، صورة عن ذلك، ابتعاد عن جوهر الموضوع الذي لم يناقش، وهو انسحاب المحتل، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى. والغرق بدلاً عن ذلك في تفاصيل تلد أخرى، ولا تمس جوهر الموضوع، مع محاولات بائسة لتجميل المنظر العام عبر تسهيلات وهمية على المعابر، أو الحواجز وإطلاق سراح بعض الأسرى على فترات متباعدة، ليعتقل العدو أضعافهم فيما بعد، حيث يزيد عدد الأسرى الآن في سجون المحتل عن 13 ألف أسير. وما عدا ذلك، كل شيء يراوح في المكان، واللقاءات والمفاوضات تعقد لنقاش تفاصيل ناجمة عن الاحتلال وممارساته، وليس الاحتلال بحد ذاته، وضرورة انسحابه الفوري عن كل المناطق الفلسطينية.
من هنا، وفي ظل أجواء الانتفاضة، بات واجبا التوقف عن نقاش التفاصيل، بل ووقف المبادرات من أي جهة كانت، ما دامت لا تبحث في الانسحاب الكامل، وغير المشروط، من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووقف محاولات تجيير الانتفاضة الحالية، والالتفاف عليها، وإجهاضها تحت شعار جني مكاسبها، للولوج مرة أخرى في دائرة المفاوضات، في ظل شروط واهية، مثل إطلاق سراح 28 أسيراً، أو المطالبة بتجميد مؤقت للاستيطان.
المطلوب، في هذه المرحلة، هو الابتعاد عن التفاصيل، والعودة إلى جذر القضية الفلسطينية، ورفع شعار واحد، هو دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط، وتفكيك الاستيطان، وإطلاق سراح الأسرى، وهو شعار ممكن التحقيق، إذا ما تحولت الانتفاضة إلى استراتيجية نضالية، متكاملة للشعب الفلسطيني.
المصدر : فلسطين أون لاين