الفرق الدلالي المائز بين “الكسب والاكتساب” في القرآن الكريم
السبت 15 صفر 1437//28 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
محمود ربايعة
الفرق الدلالي المائز بين “الكسب والاكتساب” في القرآن الكريم
دراسة تحليلية تركيبية
لعلَّ البِنية الصرفيَّة للمفردتين دور محوريٌّ في التفريق الدلالي الحاصل منهما، فالقاعدةُ الصرفيَّة القائلة بأنَّ أي زيادة في المبنى يَصحبها زيادة في المعنى الصرفيِّ – ماثلة صحَّتها ووظيفتها في سِياق هاتين الكلمتين المبحوثتين: “كسَب، واكتسَب”.
فقد قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61].
وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].
تشير الآيتان إلى نكتة لَطيفة؛ وذلك في الآية الأولى: ﴿ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾، وفي الثَّانية: ﴿ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾، ولعلَّ التغيُّر هنا في الآيتين مرتبط بكلمتَي ﴿ بِظُلْمِهِمْ ﴾ و﴿ بِمَا كَسَبُوا ﴾؛ إذ هما المتغايرتان.
فلفظ ﴿ بِظُلْمِهِمْ ﴾ في الآية الأولى مَصدر يتناول الظُّلمَ كلَّه ويشمله، والظُّلم كلُّه لا خير فيه، حرَّمه اللهُ تعالى على نفسه، فهو يُبغضه ويبغض أهلَه حتى لو كانوا مسلمين، ونظرًا لخطورة الظُّلم فقد ناسَب عقابه من (عَليها)؛ أي: على الأرض كلِّها، فالظُّلم لا يتقيَّد بزمن، فكما أنَّ الظُّلم عامٌّ فالعقاب من جِنسه عام.
والظُّلم يدمِّر كلَّ شيء، وإذا تسلَّط على القرى قصمها ومحا آثارَها وأزال بُنيانها وحضارتها؛ قال تعالى: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ [الأنبياء: 11، 12].
والقَصم: كَسر الشَّيء، مع الإبانة والفَصل دون الجَبر، والوَصم: كَسر وصَدع دون القَصم.
ويقابِل القصم الفَصْم الذي يَعني الكسر والصَّدع في الشَّيء دون إِبانةٍ مع إمكانيَّة الجبر، وعند العرب يُقال: فَصَمَ الخلخالَ: فَكَّه دون إبانة كسره.
وقد وصف اللهُ تعالى العروةَ الوُثقى بأنَّها لا انفِصام لها؛ أي: لا تُفكُّ عن موضعها[1].
أمَّا الآية الثَّانية، فإنَّ الكسب يَشتمل على ما هو خَير وما هو شرٌّ؛ قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ [البقرة: 81]، وقال: ﴿ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158]، وكَسَبَ في الآية: فِعلٌ ماضٍ مقيَّد بزمَن، فيكون العقاب ﴿ عَلَى ظَهْرِهَا ﴾ مقيَّدًا بقَدر ما في الكَسب من شرٍّ؛ حيث يكون ﴿ عَلَى ظَهْرِهَا ﴾ جزءًا مقيَّدًا مرتبطًا بالكَسب.
قال الخطيب: لمَّا قال في النَّحل ﴿ بِظُلْمِهِمْ ﴾ لم يقل: (على ظَهرها) احترازًا عن الجَمع بين الظَّاءين؛ لأنَّها تقِلُّ في الكلام، وليست لأمَّةٍ من الأمَم سوى العرب.
قال: ولم يأتِ في هذه السُّورة إلاَّ في سبعة أحرف: الظُّلم، والنَّظر، والظِّل، وظَلَّ وَجهُه، والظَّهر، والعظم،والوعظ، فلم يَجمع بينهما في جملتين معقودتين عقد كلامٍ واحد[2].
والكَسب كما سبق قد يُراد به الخير أو الشَّرُّ؛ هذا إذا جاء منفردًا، أمَّا إذا جاء الكَسب مجتمعًا مع الاكتساب، فإنَّ الكَسب هنا لا يَعني إلاَّ ما هو خَير، والاكتساب يَعني ما هو شرٌّ؛ قال تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286].
وقد خُصَّ الخير بالكسب والشَّر بالاكتساب؛ لأنَّ في اكتساب الشَّرِّ والمعصية تكلُّف وطَلب جهد واندِفاع لشَهوة النَّفس وهواها، فهي مُندفعة إليه وأمَّارة به، فكانت في تَحصيله أعمَل وأجدُّ،
ولمَّا لم تكن النَّفس كذلك في باب الخَير، وُصفَت بما لا دلالة فيه على التَّكلُّف، فكَسب الخير يتحقَّق بأدنى مُلابَسة، ولو بمجرَّد الهَم[3].
والكَسب في اللُّغة يعني: طلَب الرِّزق، وأَصله الجمع.
ويُطلق الكَسب على مَهر البغيِّ، وقد نَهى الإسلامُ عنه، وهو من أخبث الكَسب؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((شرُّ الكَسب: مَهر البغيِّ، وثَمَن الكلب، وكَسب الحجَّام))؛ رواه النسائي 7 / 190، رقم 4294.
ومثلُه: حلوان الكاهِن، وهو العرَّاف الذي يدَّعي معرفةَ الغَيب؛ فهو كَسب خبيث.
أمَّا كسب البغيِّ: فالمراد به الزِّنا، فقد كانت الأمَة في السَّابق تتكسَّب عن طريق البغاء والزِّنا، وكان في الجاهليَّة لبعض النِّساء نوادٍ تُعرَف براياتٍ يقصدونها دون إنكار، ومثلها في زَماننا نوادي الفجور (المواخير) تُرتَكب فيها فاحِشة الزِّنا، يطلِقون عليها مسمَّيات كي يحبِّبونها إلى النُّفوس؛ كالفنِّ والتَّمثيل… الخ.
ولا يجوز أَخذ الأجرة على المنافع المحرَّمة؛ كالنِّياحة والملاهي والغِناء، وعَقدها باطِل، ولا يجوز استئجار كاتِب ليكتبَ غناء أو نِياحة[4].
أمَّا حلوان الكاهِن فهو ما يُعطاه على كهانته، وسُمِّي حلوانًا من الحَلاوة؛ تشبيهًا بالشَّيء الحلو؛ من حيث إنَّه يَأخذه سهلاً من غير كُلفة، ولا في مقابلة مَشقَّة.
وقد أجمع العلماءُ على تحريم حلوان الكاهن؛ لأنَّه عِوَض عن محرَّم، ولأنَّه أَكل المالِ بالباطل، وكذلك أجمعوا على تَحريم المغنِّية للغناء والنَّائحة للنَّوح.
أمَّا كَسب الحجَّام، فإنَّ جمهور السَّلَف والخلَف على جواز أَخذ الأجرة على الحِجامة؛ فقد احتجم الرَّسولُ وأعطى الحجَّامَ أجرة، وحملوا حديثَ النَّهي على التَّنزيه والارتفاع عن دَنيء الأكساب، والتَّحلِّي بمكارِم الأخلاق ومعالِي الأمور.
أمَّا عن ثمن بيع الكلب، فإنَّ النَّهي عن بَيعه وأكل ثَمنه ثابِت إلاَّ لكلبِ المنفعة؛ ككلب الصَّيد والحِراسة، ومثله: “الكلاب البوليسيَّة” فإنَّه يجوز بَيعها، وتَجب القيمة على متلِفها[5].
وقال الشَّافعيُّ وأحمد: ولا يحلُّ بيع الكَلب بحال، ولا يحلُّ لأحدٍ أن يَقتنيه إلاَّ ما كان من صَيد أو زَرع أو ماشية.
أمَّا ما سواه ممَّا فيه منفعة ممَّا لا يحلُّ أَكله – كالفهد والبازي والصَّقر من الجوارح المعلَّمة – فيحلُّ بَيعها وثمنها وقِيمتها.
أمَّا ما لا منفعة فيه – كالفئران والوَزغ والخنافس وما أشبه ذلك – فلا يجوز[6].
ومن شرِّ الكَسب كَسب المزامير، قال أَنس: “أخبث الكَسب كسب الزمَّارة”؛ وهي المغنِّية الزَّانية التي تَفعل البغاء[7].
وجاء الكَسب في القرآن الكريم تارة متقدِّمًا على موصوفِه، وذلك في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18].
في حين جاء الكسب متأخِّرًا عن (شيء)؛ كما في قوله تعالى: ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].
فقد جاء تقديمُ الكَسب في الآية الأولى؛ لأنَّه هو المقصود بالذِّكر، فإنَّ المثَل ضُرِبَ للعمل، يدلُّ عليه ما قبله: ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ [إبراهيم: 18]، أمَّا في الآية الثَّانية فقد جاءَت على الأصل.
وجاء الكَسب بمعنى العمَل، وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [الزمر: 51]، كما جاء بلَفظ العَمل في قوله تعالى: ﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [النحل: 34]، وقوله: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الجاثية: 33].
فقد جاء بلَفظ العمل لأنَّه أعمُّ من الكسب؛ بدلالة قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، ومن أَجل موافقة الآية التي قبلها: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 28]، والآية التي بَعدها: ﴿ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [النحل: 111][8].
وفي سورة الزمر جاء لَفظ الكَسب بهذه الصِّيغة؛ لوقوعه بين أَلفاظ الكسب وهو: ﴿ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ [الزمر: 24].________________________________________
[1] المبسوط للسرخْسي (16 / 71)، مسلم شرح النووي (15/ 88)، التمهيد (22 / 115).
[2] أسرار التكرار في القرآن (1 / 124).
[3] الكشَّاف (1 / 164)، الإتقان (2 / 237)، بدائع الفوائد (2 / 307).
[4] الموسوعة الفقهية (1 / 25).
[5] المبسوط (7 / 179)، بدائع الصنائع (4 / 333)، بداية المجتهد (1 / 879).
[6] الأم (3 / 16)، مختصر المزني (1 / 99)، المغني على الشرح الكبير (4 / 15)، الكافي (2 / 4).
[7] ذم الملاهي (78)، فيض القدير شرح الجامع الصغير (3 / 214)، (4 / 159)، شرح النووي (10 / 231).
[8] أسرار التكرار في القرآن (1 / 117، 123).
الألوكة