القرآنيون يتساءلون: ما حاجتنا مع القرآن إلى مصادر أخرى؟
السبت،7صفر1436ه الموافق/29تشرين الثاني2014 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
بسام ناصر
يقوم مذهب القرآنيين في قضيته المركزية على أن القرآن هو مصدر التشريع الوحيد في الإسلام، ولا حاجة للمسلم معه إلى مصادر أخرى يأخذ منها أمور دينه، وأحكام عبادته ومعاملاته
، ويستدلون على ذلك بجملة آيات قرآنية، كقوله تعالى: }وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{ (النحل: 89). وقوله تعالى:}مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ{ (الأنعام: 38)، وقوله تعالى: }أَفَغَيْرَ اله أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا{ (الأنعام: 115).
من أشهر الدعاة المعاصرين إلى “مذهب القرآنيين” الدكتور المصري أحمد صبحي منصور، وهو متخصص في التاريخ الإسلامي، ويعد كتابه “القرآن وكفى” مرجعا للقرآنيين في تقرير فكرتهم المركزية، والدفاع عنها، والرد على أهل السنة في احتجاجاتهم على أن السنة مصدر من مصادر التشريع ودليل من أدلة الأحكام الشرعية.
يجتهد القرآنيون في الدعوة إلى مذهبهم والتبشير به، باعتباره انتصارا للقرآن، وتعظيما لشأنه بالاكتفاء به، والاستغناء عن كل ما سواه، ودعوة لإعمال العقل وتحريك الفكر لتدبر آياته، واستخراج كنوزه وجواهره المكنونة في آياته، لكن حقيقة المذهب بمآلاتها ونتائجها تفضي إلى تعطيل شعائر الإسلام، وهدم مبانيه وأركانه، فحينما يلح “القرآنيون” على فكرتهم المركزية القائلة بأننا لسنا بحاجة إلى أي مصدر مع القرآن، لأن في القرآن ما يغنينا ويكفينا، فمعنى ذلك أننا لن نعرف سبيلا لإقامة ما أمرنا الله به من شرائع الإسلام العظمى وأركانه الكبرى.
فالله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، بإقامة شعائر الدين، كما في قوله تعالى:}أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا{ (الإسراء: 78)، وفي قوله: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ (التوبة: 103).. وأمر المسلمين جميعا في آيات كثيرة بإقامة الصلاة والزكاة كما في قوله: }وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ{ (البقرة: 43).
فكيف أقام الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به من صلاة وزكاة وحج وصوم من غير أن يجد ذلك مبينا وموضحا ومفصلا في الكتاب الذي أنزله الله عليه؟ وكيف يمكن للمسلمين في زماننا هذا حينما يقتصرون على القرآن في أخذ أمور دينهم، أن يقيموا الصلاة؟ وعلى أي وجه يقيمونها؟ وكم هو عدد الصلوات المفروضة عليهم، وما هو مواقيتها، وكم عدد ركعاتها، وماذا يقولون فيها؟ إلى سائر تفصيلات العبادات الأخرى.
حينما ينظر المسلمون في كتاب الله الذي بين أيديهم من أوله إلى آخره (من فاتحة الكتاب إلى سورة الناس) فإنهم لا يجدون تفصيل ما أجملته تلك الأوامر الإلهية، فلا يوجد تفصيل لما يتعلق بالصلاة ولا الزكاة ولا الحج، فماذا ينتج عن الدعوة التي يلح عليها القرآنيون بالاكتفاء بالقرآن الكريم، وعدم الالتفات إلى أي مصدر سواه (وهم يريدون تحديدا السنة النبوية التي يسمونها الروايات والمرويات) سوى تعطيل تلك الشعائر، لأن ذكرها جاء في القرآن مجملا بلا أية تفاصيل تبين ذلك الإجمال؟
فيتعين حينها إعادة النظر فيما ذهب إليه القرآني من تمسكه بظواهر الآيات القرآنية المبينة أن القرآن “تبيانا لكل شيء”، وأنه سبحانه “أنزل الكتاب مفصلا”، وما إلى ذلك من أدلة يستدلون بها على فكرتهم الأساسية، فالآيات التي يستدلون بها ليست على ظاهرها من العموم، بل تحتاج إلى فهم أكثر عمقا ودقة وتريثاً.
وقد تصدى العلماء والفقهاء للرد على ذلك النسق من التفكير، وبينوا قصور فهم أهله، وتخبطهم في التعامل مع القرآن، أقتصر منها على مناقشة العلامة الدكتور عبد الغني عبد الخالق لهم في كتابه (حجية السنة النبوية)، فبين يدي رده على تلك المقولة، قدم عرضا لها موردا الآيات القرآنية التي يستدلون بها، وحاكيا عنهم قولهم بقوله: “وذلك يدل على أن الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكل حكم من أحكامه، وأنه قد بينه بيانا تاما، وفصله تفصيلا واضحا؛ بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر مثل السنة ينص على حكم من أحكام الدين أو يبينه ويفصله، وإلا لكان الكتاب مفرطا فيه، ولما كان تبيانا لكل شيء، فيلزم الخلف في خبره تعالى، وهو محال”.
ثم يشرع الدكتور عبد الغني في مناقشة تلك الأدلة وتفنيدها فيقول: “الجواب: أنه ليس المراد من الكتاب في الآية }ما فرطنا في الكتاب من شيء{: القرآن، بل المراد به اللوح المحفوظ، فإنه الذي حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ على التفصيل التام، كما قال صلى الله عليه وسلم “جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة”. وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة قوله: }وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم{، فإن أظهر الأقوال – في معنى المثلية هنا -: أن أحوال الدواب من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاء، موجودة في الكتاب المحفوظ مثل أحوال البشر في ذلك كله.
يتابع الشيخ مناقشته لهم قائلا: ولو سلمنا أن المراد به القرآن – كما هو في الآية الثانية – فلا يمكن حمل الآيتين على ظاهرهما: من العموم، وأن القرآن اشتمل على بيان وتفصيل كل شيء، وكل حكم، سواء أكان ذلك من أمور الدين أم من أمور الدنيا؛ وأنه لم يفرط في شيء منها جميعها، وإلا للزم الخلف في خبره تعالى، كما هو ظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية، وكما يعلم مما سبق في بيان أن القرآن يتعذر العمل به وحده بالنسبة للأحكام الدينية، فيجب العدول عن ظاهرهما وتأويلهما.
ثم يتناول الدكتور عبد الغني وجوه التأويل التي ذكرها العلماء في ذلك، فقال: “وللعلماء في تأويلهما وجوه:
الوجه الأول: أن المراد: أنه لم يفرط في شيء من أمور الدين وأحكامه، وأنه بينها جميعها دون ما عداها، لأن المقصود من إنزال الكتاب: بيان الدين، ومعرفة الله، ومعرفة أحكام الله. إلا أن هذا البيان على نوعين: بيان بطريق النص؛ وذلك مثل بيانه أصول الدين وعقائده، وبيانه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحل البيع والنكاح، وحرمة الربا والفواحش، وحل أكل الطيبات وحرمة أكل الخبائث. وبيان بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابه أدلة وحججا على خلقه، فكل حكم – مما بينته السنة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة، فالقرآن مبين له، لأنه بين مدركه ووجهنا نحوه، بمقتضاه: لما علمنا ذلك الحكم وعملنا به، فالقرآن إذن هو: أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية بهذا المعنى.
الوجه الثاني: أن الكتاب لم يفرط في شيء من أمور الدين على سبيل الإجمال؛ وبين جميع كليات الشريعة دون النص على جزئياتها وتفاصيلها، ومن المعلوم أن ذلك لا يكفي في استنباط المجتهد ما يقوّم به العبادة، ويحرر المعاملة، فلا بد له من الرجوع إلى ما يبين له المجمل ويفصله له، ويبين جزئيات هذه الكليات..”.
يتحصل من بيان الدكتور عبد الغني ومناقشته للقرآنيين، أن الآيات التي يستدل بها القرآنيون على ما يريدون ليست على ظاهرها من العموم، فلا تصلح دليلا لهم على ما يريدون، وأنه من تمام البيان الذي جاء به القرآن إحالته على مصادر أخرى على رأسها السنة النبوية، فلولا بيان الرسول وتفصيله (قولا وعملا) لما أجمله القرآن لما تمكن المسلمون من إقامة أمور دينهم، ومعرفة أحكام ربهم التي أوجبها عليه وكلفهم بها في القرآن.
-السبيل-