المحكم والمتشابه في القرآن
الأحد،8 رجب 1436//26 أبريل/نيسان 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ محمد إبراهيم شقرة
يقول الله تعالى: “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكماتٌ هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب”.
القرآن ميسرٌ كلُّه، يعرفه عربي اللسان كما يعرف لغته العربية، ولا تضادَّ بين آياته ولا تضارب بين أحكامه، ثابت، ما نُسخ من أحكامه بنسخ آياتٍ منه، أو ببقائها متلوَّةً كسائر آياته، كان بوحي من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولحكمةٍ مرادةٍ لله سبحانه.
ولا بد أن نعرف معنى التشابه أولاً في اللغة، فإنه يقرب لنا المراد من المتشابه في الآية.
قال صاحب الصحاح: “والشبهة: الالتباس، والمشتبهات من الأمور المشكلات، والمتشابهات: المتماثلات”.
وقال صاحب أساس البلاغة: “واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست لأشباه بعضها بعضاً، وفي القرآن: المحكم والمتشابه، وشُبه عليه الأمر:لبس عليه، وإياك والمشتبهات، الأمور المشكلات”.
أنت تلاحظ أن المعنى ينتهي إلى اللبس، وأنّه لا يكون كذلك إلا بين شيئين متماثلين فأكثر، وأن اللبس لم يكن لولا هذا التماثل، وإذ كان اللبس واقعاً بتماثل الأشياء، فإنه يصعب الخلوص بشيء منهما إلا وشيء من اللبس يشوبها.
وإذا عدنا إلى الآية نضع كلمتي “متشابهات” و”تشابه” في المعنى اللغوي هذا، فإننا واجدون أن معنييها يأخذان من المعنى اللغوي نصيباً كبيراً، وليس ذلك لأن اللبس واقع في الألفاظ التي تتألف منها الآيات، فالقرآن عربي مبين، وألفاظه عربية صريحة، وكل آية من آياته تآلفت من تلك الألفاظ، فلا بد وأن يكون معناها مُيَسَّراً سهلاً كله، لا يعلو على الذوق العربي، ولا ينأى عن السليقة العربية، إذاً فاللبس كائنٌ من شيء آخر ليس عائداً للألفاظ، ولا للمعاني المرادة منها، التي يعرفها العربي بمجرد وقوعها في سمعه وتلقفه لها، خارجٍ عن الألفاظ والمعاني معاً.
وما أجود ما قاله إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، بعد أن أورد أقوال المفسرين في معنى المتشابه، قال رحمه الله: “وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزل عليه بياناً له ولأمته وهدىً للعالمين، وغير جائزٍ أن يكون فيه ما لا حاجه بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثم لا يكون لهم على علم تأويله سبيل، فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وذلك كقول الله عز وجل: “يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانه خيراً” فأعلمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمّته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده؛ أنها إذا جاءت؛ لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها، فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك، هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام، فقد بيَّن الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسّراً، والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإنَّ ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا، وذلك هو العلم الذي استأثر الله جلَّ ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله: (ألم) و(المص)، و(ألر)، و(ألمر)، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات، التي أخبر الله جلَّ ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله” اهـ.
رحم الله ابن جرير، لقد ضرب بمعوله، وكان الماء على ضربة منه أو ضربتين” فتفجَّر ينبوعاً سخيّاً صافياً مُروياً، ونرى ابن جرير في كلامه هذا قد صرَّح تصريحاً يُذهب كل لبس حين فسر التأويل في قوله: “وما يعلم تأويله إلا الله” بمعرفة وقت وقوع الشيء الغيبي، في القرآن نظير، وذلك قوله: “ولقد جئناهم بكتابٍ فصَّلناه على علمٍ هدى ورحمة لقومٍٍ يؤمنون، هل ينظرون إلا تأْويلَهُ يوم يأْتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق…” الآية.
يقول ابن جرير: “هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله، ويجحدون لقاءه “إلا تأويله” يقول: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله وصِليِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به”.
وقد قيل في تأويل “التأويل” أقوالٌ أُخرى منها: الجزاء، والعاقبة، وكلُّها موثوقة بالمعنى الذي رجحه ابن جرير رحمه الله عند تأويله: “وما يعلم تأويله إلا الله” عائدةً إليه، لا تخرج عن دائرته.
ومما يساعد على صدق هذا المعنى للتأويل وإرادته لله سبحانه، ما جاء من معناه في اللسان العربي، الذي نزل به القرآن الكريم، فالتأويل في اللغة هو: التفسير والمرجع والمصير، وأصله: من آل الشيء إلى كذا، إذا صار إليه ورجع “يؤول أوْلاً” ومن ذلك قول الأعشى:
على أنها كانت تأَوُّلُ حبتها تأول ربعي السقاب فأصبها
ولا شك أن التعريف بمعنى التأويل على النحو الذي سقناه يوضح المراد بالمشتبهات، وبـ”تشابه” في آية آل عمران التي نحد بصدد تفسيرها، وقد أحسن ابن جرير رحمه الله تعالى في اختياره معنى المتشابه بعد أن ساق أقوال المفسرين فيها فقال: “وقالوا إنما سمى الله من آي الكتاب “المتشابه” الحروف المقطعة، التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو (ألم) و(ألمص) و(ألمر) و(ألر) وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل، وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أُكْلِ محمد وأُمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنَّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة، لا يدركون ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله، وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب “أن هذه الآية نزلت فيه، وهذا القول أشبه بتأويل الآية” ا. هـ.
يقول الطبري: “فإنما أُنزله – (القرآن) – عليه – (نبيه محمد عليه السلام) بياناً له ولأمته، وهدىً للعالمين وغير جائزٍ أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل، فإذ كان ذلك كذلك؛ فكل ما فيه بخلقه إليه حاجة”.
وبمثل هذا التأويل السديد، والتفسير البين الرشيد، ينبغي قول من يقول في تأويل الحروف التي بُدئ بها بعض أوائل السور: الله أعلم بمراده، لأنّ هذا القول لا يصدق – لو صدق – على بدايات هذه السور فحسب، بل يصدق أيضاً على كل آيات القرآن، فالله سبحانه أعلم بمراده بكلامه وحده، ما لم يكن قد أوحى بمراده هذا لواحد من خلقه وهو بينه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قولٌ حقٌ ولا ينبغي أن ينازع فيه منازع، إن نحن رضينا قول أولئك.
أما وقد أوحى الله إلى عبده ما أوحى قوله: “قرآناً عربياً غير ذي عوجٍ”، و”إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون”، وقوله “ولقد يسرنا القرآن للذكر”، وقوله “وهذا لسان عربي مبين”؛ فقد صار حقاً علينا أن نؤمن بأن القرآن لا يخفى منه شيءٌ من ألفاظه ولا من معانيها، كإيماننا به كله، وأنه منزل من عند الله وحياً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الله سبحانه إذ كلّف عباده أن يعملوا بأوامره، وأن ينتهوا عند نواهيه، وأن يحلو حلاله، وأن يحرموا حرامه، وأن كل حرف من حروفه له مكانٌ في معانيه وأحكامه فلم يجعل له عوجاً، ولا خفاءً، ولا لبساً، ولا تضاداً، ولا تناقُضاً، ولا اشتباهاً يفضي بالمتعبد إلى الوقوف عند شيء منه ليس يقدر على فهمه.
-السبيل-