المشهد الفلسطيني ما بعد عباس

مخلص يحيى برزق

الأحد 17 رجب 1437/ 24 أبريل/نيسان 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”

غياب عباس.. يستقي ذلك الحدث أهميته الكبيرة من مركزية القضية الفلسطينية وعظم تأثيرها على القضايا الإقليمية والدولية، ما يجعله حدثا مرتقبا مهما لا يمكن لمراكز البحوث الإستراتيجية تجاوز أبعاده وتداعياته، غير أن تناول ذلك الحدث هذه الأيام يفرض نفسه في ظل انتفاضة القدس وامتداداتها، وفي ظل مشهد عربي بالغ التعقيد، وانشغال دولي بإفرازات ما يجري على أرض سوريا مع بدء العد التنازلي للانتخابات الأميركية لاختيار رئيس جديد.

كل التداعيات العاطفية سواء كانت سلبا أو إيجابا لا محل لها بين هذه الأسطر القليلة لأنها لا تقدم أو تؤخر شيئا في صورة المشهد الفلسطيني المرتقب لحظة إعلان غياب محمود عباس عنه. ولا أظن أن أحدا يتوقع أن يكون خروجه من المشهد صاخبا أو دراماتيكيا.

فأبو مازن لم يكن يملك أبدا تلك الكاريزما التي امتلكها سلفه ياسر عرفات والتي جعلت منه رمزا عند الكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني فضلا عن أبناء حركة فتح التي فقدت شيئا كثيرا لحظة فقدها لقائدها “الرمز” أبو عمار، وعلى مضض -بالنسبة لكثير منهم- حل أبو مازن محله، وما استطاع طوال الفترة التي قضاها أن يقنع أحدا أنه حاز تلك المكانة التي استحوذ عليها سلفه.

صراع مع دحلان
عانت فتح كثيرا كي تهضم ذلك الرجل وتستسيغ وجوده في موقع رأته كبيرا جدا عليه، ومرت الحركة بمراحل حساسة جدا كادت أن تعصف بها رياح الانقسام، كان أبرزها فترة ما قبل الحسم العسكري لكتائب عز الدين القسام في غزة، حين قرأ خلالها محمد دحلان مزاج الشارع الفتحاوي جيدا، وحاول أن يستأثر بمفاصل القرار وأن يطيح بعباس ولو بتصفيته جسديا قبيل انتخابه رئيسا، وذلك بإطلاق النار عليه والوفد المرافق له في خيمة عزاء عرفات التي أقيمت في غزة عقب وفاة عرفات بثلاثة أيام فقط (14/11/2004)، وسارع يومها وزير الأمن الفلسطيني السابق محمد دحلان إلى نفي وجود محاولة لاغتيال عباس وعزاه إلى مجرد إرباك في تنسيق الحراسات الأمنية المختلفة!

كان دحلان يسعى بكل ما يملك ليُظهر أنه الرجل الأقوى والأجدر بقيادة فتح، ومن ثم قيادة الشعب الفلسطيني. وكاد أن يصفو له الجو لولا الانتكاسة المشينة التي منيت بها حركته في الانتخابات التشريعية عام 2006، والتي كانت تعول فتح فيها عليه كثيرا، لكنه خيب ظنها، وفجعها وزعزع أواصرها، الأمر الذي جعله يسعى لاستدراك ذلك “بلطجيا” بافتعال انفلات وتسيب وفوضى أمنية من شأنها أن تعصف بفوز حماس وتعيد قياداتها المنتخبة شعبي- إلى مكانها الطبيعي -حسب رؤية دحلان- في غياهب سجون الأمن الوقائي الذي كان قائدا ومؤسسا له في قطاع غزة.

ولا غرابة فقد كان يعول كثيرا على سطوته وتاريخ أجهزته الأمنية الطويل في السيطرة على الشارع الغزي، وقمع كل المعارضين بالحديد والنار، كما أنه كان يراهن أيضا على الدعم الكبير الذي تلقاه في تلك الفترة من دول عديدة فاجأهم وصدمهم فوز حركة حماس الكاسح في الانتخابات التشريعية، ما جعلهم يراهنون عليه ويضعون كل ثقتهم به، في وقت كان محمود عباس يرقب ما يجري متململا، فنجاح دحلان في خطة الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية وكسره شوكة حركة حماس، كان سيجعله ندا قويا له للاستحواذ التام بمنصب الرئاسة، وفشله في ذلك كان سيضطر عباس للتعامل مع مرحلة الشراكة الإجبارية مع حركة حماس في قيادة الشعب الفلسطيني.

اقرأ أيضا  محمود عباس: متمسكون بالمفاوضات لتحقيق حل الدولتين

استطاعت كتائب القسام بحسمها العسكري أن تسحب البساط من تحت أقدام دحلان، وأن توجه له صفعة مهينة مذلة أبعدته فترة طويلة عن المشهد السياسي، الأمر الذي استغله عباس لفرض نفسه “فتحاويا”، بتهميش دحلان وكافة القيادات المحسوبة عليه و”قصقصة” أجنحتها والهيمنة شبه المطلقة على البيت الفتحاوي وتحجيم أي شخصية قوية وإبعادها تماما عن المشهد السياسي مع احتكار تام لآلية صنع القرار، بل عمد إلى اختيار سلام فياض رئيسا للوزراء ورياض المالكي وزيرا للخارجية من خارج حركة فتح منعا لبروز أية شخصية فتحاوية يمكن أن تنافسه مستقبلا في ظل غياب مروان البرغوثي القسري.. المنافس الأقوى وقد يكون الوحيد له على زعامة فتح.

استغل محمود عباس تداعيات الحسم العسكري لتثبيت أركانه في الضفة بفرض واقع مختلف عما كان يعيشه الشعب الفلسطيني، تغولت فيه الأجهزة الأمنية بطريقة غير مسبوقة (أطلق عليها وقتئذ اسم أجهزة دايتون)، وبدعم من دول غربية وعربية وإقليمية وتنسيق كامل مع الكيان الصهيوني لمنع تكرار ما جرى في غزة ومحاولة لتجفيف منابع المقاومة في الضفة والاستفراد بها وسحقها في غزة.

مواجهة مع حماس
وجاءت حرب الفرقان عام 2008 في محاولة من الكيان الصهيوني ومصر وبتنسيق تام مع محمود عباس ودول أخرى لكسر قوة المقاومة وإعادة غزة لبيت الطاعة الفتحاوي، لكن تلك المحاولة فشلت مجددا هي وجميع المحاولات التي تلتها عام 2012 (حجارة السجيل)، وعام 2014 (العصف المأكول)، وبدا أن غزة عصية على تطلعات محمود عباس وداعميه، الأمر الذي أعاد دحلان مجددا للمشهد الفلسطيني تهيئة له لسد الفراغ المحتمل لحظة غياب عباس الذي فقد صلاحيته القانونية كرئيس شرعي بعد انقضاء فترته الرئاسية يوم 8/1/2009، وبعد أن ازدادت التكهنات والإشاعات المتعلقة بأهليته الصحية مع تجاوزه الثمانين من العمر.

كان للانقلاب العسكري في مصر دور كبير في إعادة الحضور السياسي لدحلان كبديل مقبول سياسيا من مصر وأميركا والكيان الصهيوني، وهو ما شكل هاجسا جديدا لمحمود عباس جعله يتطرف في مغازلة نتنياهو وكسب وده، وفي إبداء مواقف مؤيدة للانقلاب في مصر ومعادية للإخوان المسلمين وحماس، كما جعله يبدي تشددا كبيرا تجاه انتفاضة القدس، مع التمسك التام بالتنسيق الأمني المقدس -حسب وصفه-. كما أنه عمل على إفشال كل محاولات المصالحة مع حماس ليحظى بالقبول من الأطراف الدولية والإقليمية بديلا عن منافسه المفترض دحلان.

كل ما سبق جعل محمود عباس شخصية محورية قد لا تكون لها تلك القيمة السياسية حال حضورها لارتهان قرارها بمن ذكرنا من الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية، غير أن غيابها من شأنه أن يحدث أثرا كبيرا في المشهد السياسي الفلسطيني على المدى البعيد، بل قد يرقى إلى ما أحسب أنه سيكون بمثابة زلزال قوي له ارتدادات كبيرة وكبيرة جدا، وهو ما يستدعي دراسة كل الآثار المحتملة على كافة الأصعدة.

اقرأ أيضا  عباس : على مجلس الأمن إنشاء نظام حماية للشعب الفلسطيني

إشكال دستوري
إن الغياب المفاجئ لعباس سيتسبب في شغور منصب الرئيس، وهو ما سيسبب فراغا قانونيا وضبابية في معالجة الوضع وقتئذ؛ فبما أنه لم يعين نائبا له يخلفه وقت رحيله، فالقانون الفلسطيني يقضي باستلام رئيس المجلس التشريعي منصب الرئيس لمدة 60 يوما تجري بعدها انتخابات رئاسية. والأمر هنا محل خلاف حاد بين حركتي حماس وفتح، فالأولى تتمسك بحقها القانوني في استلام رئيس المجلس التشريعي الدكتور عزيز دويك منصب الرئيس حال شغوره بصفته الرئيس الشرعي المنتخب للبرلمان الفلسطيني، فيما تصر الأخيرة على أن الدورة البرلمانية للمجلس التشريعي انتهت ولم يتم انتخاب هيئة رئاسية جديدة للمجلس وبذلك يكون منصب رئيس المجلس التشريعي شاغرا.

ولعل في قيام محمود عباس بتشكيل محكمة دستورية مطلع هذا الشهر (إبريل/نيسان 2016) دلالة على ما يعاني منه الواقع القانوني المعقد في فلسطين، وهو الذي يجعلني أميل إلى أن تشكيلها من قبل محمود عباس إنما كان استجابة لضغوط وإملاءات خارجية لأطراف يساورها القلق على مرحلة ما بعد عباس؛ وهي في الواقع محاكاة واستحضار للمشهد المصري الذي تم خلاله تفصيل قانون يلائم الانقلاب العسكري ويوفر له “مكياجا” يخفي ندوباته البشعة، حيث تم تقديم المستشار عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا ليشغل منصب رئيس الجمهورية، وألبس الأمر لباسا قانونيا ليتم تنصيب عبد الفتاح السيسي محل الرئيس محمد مرسي بعد ذلك. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه في الحالة الفلسطينية: هل سيقبل الشعب الفلسطيني بالقاضي محمد عبد الغني الحاج قاسم رئيس محكمة عباس الدستورية الحالية، رئيسا للشعب الفلسطيني خلفا لعباس؟

على صعيد البيت الفتحاوي الذي يعاني كثيرا من غياب شبه تام للقيادات التي يمكن أن تخلف أبو مازن، فغيابه المفاجئ سيمهد الطريق لمحمد دحلان لاقتناص الفرصة التي لن تكون سهلة، خاصة في الضفة المحتلة التي شهدت انقلابا عليه وعلى رجاله، وسوف ينبري له من داخل فتح من يستميت في معارضته على قاعدة “قاتل أبيه لا يرث”، فالكثير من أبناء فتح يعتقدون بضلوع دحلان في قتل عرفات بدس السم له، وعلى الجانب الآخر فإن حركة حماس لن تجعل مهمته يسيرة في ظل تاريخه الملطخ بالدماء البريئة والعمالة للاحتلال وأعداء الأمة.

عبء وفرصة
سيشكل غياب أبي مازن المفاجئ عبئا كبيرا على الأجهزة الأمنية في الضفة المحتلة في ظل استمرار انتفاضة القدس وعدم وجود مؤشرات على تمكن أجهزة الأمن الصهيونية متعاونة مع أجهزة السلطة من إطفاء جذوتها، بل وحصول تطور نوعي لها تمثل في عملية القدس التي استهدفت حافلة للركاب ونتج عنها احتراق حافلتين بالكامل ووقوع عشرات الإصابات في صفوف المستوطنين الصهاينة، ذلك العبء الأمني سيحرم العديد من القيادات الأمنية المتطلعة لمنصب الرئيس أن تحظى به بسبب سمعتها السيئة في الشارع الفلسطيني وأدائها المشين تجاه انتفاضة القدس، ومنهم ماجد فرج مدير مخابرات سلطة عباس الذي تبجح بإحباط أجهزته لأكثر من مئتي عملية ضد الصهاينة خلال فترة انتفاضة القدس الحالية.

اقرأ أيضا  القمو العربية ...عباس يدعو دول العرب للتمسك بمبادرة السلام العربية

سوف تطفو الصراعات بين قيادات الأجهزة الأمنية الطامحة إلى اقتطاع أكبر نصيب من “كعكة” السلطة إلى السطح، وفي ظل الفوضى المحتملة فإن الضفة المحتلة ستشهد أحداثا ساخنة قد تتصاعد إلى درجة انفلات الأمور وحدوث انهيار كامل لتلك الأجهزة وما يرافقه من تعقد في الوضع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي، وما يترتب على ذلك من انعكاسات سلبية على الكيان الصهيوني الذي سيفقد أحد أهم صمامات الأمان والجدر الحاجزة بينه وبين الشعب الفلسطيني الثائر.

في مقابل ذلك، سيشكل غياب أبو مازن فرصة سانحة لحركة حماس لإتمام التوافق مع قيادات فتحاوية أبدت رغبة سابقة في إنهاء الانقسام الفلسطيني، غير أن وجود محمود عباس وهيمنته على القرار الفتحاوي حال دون تحقيق شيء يذكر في هذا الاتجاه. ولعل مما قد يدفع إلى ذلك محاولة الطرفين الوصول إلى حل توافقي للفراغ القانوني الذي أوردته سابقا.

سوف يشكل غياب محمود عباس المفاجئ -إن حدث- بلبلة لدى الدول كافة في تعاملها مع القضية الفلسطينية في ظل غياب ممثل عنها في المحافل الدولية، الأمر الذي سيدفع حماس بقوة إلى المشهد بصفتها المنتخبة شعبيا، دون الجزم بأن ذلك سيخرجها من دائرة الحصار الدولي والعربي؛ خاصة من قبل الجار المصري الذي قد يلجأ إلى إجراءات تصعيدية استباقية بحق القطاع المحاصر خشية حدوث تغييرات دراماتيكية في المشهد السياسي الفلسطيني لا تتوافق مع أهواء عسكر مصر.

غير أن غيابه سيشكل فرصة عظيمة لإعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية لتغدو أقرب إلى تمثيل الشعب الفلسطيني بكافة فصائله وأطيافه وتطلعاته، وجدير بكافة الفصائل الفلسطينية أن تبدأ من الآن بوضع اللمسات الأولى لمثل ذلك التغيير كي يتحول إلى حقيقة واقعة لحظة غياب عباس الممسك بمفاتيح المنظمة، المحتكر لأقفالها.

أما الولايات المتحدة فسيكون على الرئيس أوباما الذي يقضي آخر أيام ولايته الثانية في البيت الأبيض، أو الرئيس المنتخب خلفا له أن يسعى لإيجاد بديل مناسب لعباس، فشل من قبله بإيجاده في فترة سابقة، وهو ما سيشكل تحديا كبيرا له، لما لذلك من انعكاسات على القضية الفلسطينية التي تشكل تحديا كبيرا للسياسة الأميركية القائمة على الدعم المطلق للكيان الصهيوني دون أي اعتبار للحق التاريخي العادل للشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته.

لا يستبعد أن يكون في أدراج ساسة البيت الأبيض ما يخبئونه لنا من مفاجآت “غير سارة” حال وقوع الواقعة قد تجعل أولئك الذين يدعون على محمود عباس الآن يبكون عليه!

المصدر : الجزيرة.نت

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.