انسحاب روسيا من سوريا حقيقة أم مناورة تكتيكية ؟
توفيق شامل، الأناضول
الخميس 15 جمادى الثانية 1437// 24 مارس/آذار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
عنونت كبرى وسائل الإعلام العالمية، صدر صفحاتها صبيحة يوم 14 آذار/ مارس الجاري، بنبأ قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي فاجئ الجميع، بإعلانه سحب قوات بلاده من سوريا.
تعددت التحليلات والآراء المتداولة في الصحف العالمية، حول قرار بوتين المفاجئ، فذكر بعضها أنّ الأخير بدأ يخشى من التورط في “المستنقع السوري”، وذهبت أخرى في تحليلها، إلى أنّ روسيا استنزفت كامل قواها المخصصة لسوريا، وأكدت ثالثة أنّ روسيا “لا تغادر مكاناً تقول إنها انسحبت منه”.
ولمعرفة حقيقة ما إذا كانت موسكو قد انسحبت فعلياً من سوريا، أم أنّ قرار بوتين كان مجرد مناورة تكتيكية، علينا العودة بذاكرتنا إلى قرارات الانسحاب المُعلنة من قِبل الروس، خلال الحقبة الزمنية الأخيرة، ودراسة تفاصيل هذه القرارات في التاريخ الروسي.
عندما أعلن بوتين قرار الانسحاب من سوريا، في 14 أذار/ مارس الجاري، كان بجانبه أهم وزيرين لديه، وهما وزير الخارجية، سيرغي لافروف، ووزير الدفاع، سيرغي شويغو، حيث أجرى معهما استشارات مكثفة قبل اتخاذ القرار الذي ينص على إبقاء القواعد الروسية في سوريا، مع تخفيض عدد القوات العاملة في هذه القواعد، إضافة إلى تقليل الغارات الجوية للمقاتلات الروسية في سوريا.
وعلى الرغم من أنّ القرار الروسي لا يعني إطلاقاً الانسحاب الكامل من سوريا، إلّا أنّ موسكو أعلنت للعالم، بأنّ هذا القرار هو قرار انسحاب موسكو من سوريا، وهنا لا بد من الاطلاع على ما قاله المحللون المقربون من الكرملين، حول قرار بوتين.
وتعليقاً على قرار بوتين المفاجئ، تسائل المحلل والصحفي الروسي، ماكسيم شفشنكو، عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، عن سبب الانسحاب الروسي من سوريا، وأردف قائلاً: “في الحقيقة روسيا لم تنسحب من سوريا، لكنها قررت تجنب الاصطدام مع الجيش التركي، المحتمل إجراؤه حملة برية داخل سوريا، بسبب تعاظم المجموعات الإرهابية في سوريا، فالرئيس بوتين أراد أن يظهر أنّ موسكو تؤيد الحل السلمي في سوريا، فقرر الانسحاب من دون أن ينسحب”.
وهناك بعض الصحف الروسية، تقول إنّ موسكو قررت الانسحاب من سوريا، بعد أن كسبت المعركة فيها، فمعظم الذين يدافعون عن هذا الرأي، هم من مؤيدي بوتين.
وفي هذا السياق أشار الصحفي الروسي، سيرغي ماركوف، أنّ موسكو حققت أهدافها المرجوة في سوريا، وأنها تمكنت من تقوية الأسد، من خلال الغارات الجوية التي نفذتها مقاتلاتها ضدّ معارضيه، مشيراً أنّ محافظة اللاذقية، باتت آمنة بالكامل، بفضل هذه الغارات.
وتابع ماركوف قائلاً: “روسيا حققت نجاحات كبيرة في محافظتي حماة وحمص، وجيش النظام السوري، بات بمقدوره تحقيق الانتصارات على معارضيه، كما أنّ قوافل المساعدات الإنسانية باتت تدخل المدن السورية، وإنّ قرار بوتين بالانسحاب، يعدّ خطوة استراتيجية، لأنّ روسيا تخرج من سوريا منتصرة”.
روسيا لن تتخلّى عن مصالحها في سوريا
وهناك تقارب في وجهات النظر بين ما قاله ماركوف، وتحليلات الصحفية الروسية، أنهار كوجنيفا، التي تعمل في سوريا ولبنان، والتي أوضحت في مقالتها الأخيرة التي نشرت في صحيفة “ريدوس”، بأنّ الوجود الروسي في سوريا، لم ينتهِ على الإطلاق، وأنّ روسيا نقلت سوريا إلى مرحلة محادثات السلام، من خلال غاراتها الناجحة والمثمرة، معربةً عن اعتقادها بأنّ روسيا لن تتخلّى عن مصالحها في المنطقة.
وبينما روّجت وسائل الإعلام الروسية الموالية لبوتين، بالنصر الذي حققه الروس في سوريا، شدّدت وسائل إعلام أمريكية، على وجوب عدم الاعتماد بشكل كبير، على قرار بوتين بخصوص الانسحاب من سوريا، فالعديد من المحللين الأمريكان يقولون إن السبب الرئيسي للانسحاب الروسي من سوريا، هو رغبة موسكو في تركيز جهودها على أوكرانيا والقرم.
وبحسب محللين أمريكيين، فإنّ أوكرانيا على موعد مع ربيع حار، خاصةً بعد الانسحاب الروسي من سوريا، فالعديد من المحللين، أجمعوا على أنّ روسيا لم تنسحب فعلياً من سوريا، إنما قامت بتغيير استراتيجيتها، وقررت استخدام القوة الناعمة بدل القوة العسكرية.
من أين انسحبت روسيا خلال التاريخ القريب؟
لكي يمكن فهم ما الذي تقصده روسيا بإعلان انسحابها من سوريا، علينا أن نلقي نظرة على بعض عمليات “الانسحاب” الروسية السابقة، من دول ومناطق أخرى.
وفقا للتصريحات الرسمية الروسية، فإن روسيا ليست لها أي وجود في شرقي أوكرانيا، إلا أن جيش “نوفوروسيا” أو (روسيا الجديدة)، الذي أنشأه الانفصاليون الموالون لروسيا في شرق أوكرانيا، يضم في صفوفه اليوم 80 ألف عسكري، ويمتلك أسحلة ثقيلة كالدبابات والمدافع.
ويقول الخبراء إن من غير الممكن أن يصل الانفصاليون إلى هذا القدر من القوة في تلك الفترة القصيرة دون الحصول على دعم، في حين تصر روسيا حتى وقتنا الحالي، على عدم تواجدها عسكريا في أوكرانيا.
تقدم جورجيا مثالا جيدا آخر في هذا السياق، إذ أن الروس الذين انسحبوا من جورجيا قبل عام 2008، بناء على طلب رئيسها آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي، عادوا واحتلوها عام 2008، مع الحرب التي اشتعلت في أوسيتيا الجنوبية.
ووفقا لموسكو، التي تدعي أنها تجري عمليات عسكرية لإحلال السلام، فإن روسيا ليست لها وجود عسكري في جورجيا. وتقول موسكو إن وحداتها العسكرية، تنتشر في جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا المستقلتين، من أجل حماية أمنهما، ولا تلقي بالا لكون المجتمع الدولي يعتبر وجودها العسكري في الجمهوريتين، اللتين لا تحظيان سوى باعتراف موسكو، احتلالا.
وبينما ترى روسيا في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا جمهوريتين مستقلتين، فإنها لا تمنح الحق نفسه للشيشانيين، الذين يقاومون الروس ويشنون حربا ضدهم منذ فترة طويلة.
وسبق لروسيا أن انسحبت مرتين من الشيشان. ففي عام 1992، سلم الروس قواعدهم إلى الشيشانيين وانسحبوا، وفقا لاتفاقية عقدوها مع رئيس جمهورية الشيشان إشكيريا آنذاك، جوهر دوداييف، إلا أن روسيا عادت إلى احتلال الشيشان ثانية بعد عامين، ونتيجة للخسائر الكبيرة التي لحقت بها في الحرب، اضطرت للانسحاب مرة أخرى من الشيشان عام 1996، مع الإبقاء على قاعدة عسكرية لها في العاصمة غروزني.
وفي عام 1999 قامت روسيا بإخلاء قاعدتها العسكرية، ومن ثم احتلت الشيشان مرة أخرى. وحاليا فإن الوجود الروسي العسكري الأكبر في شمال القوقاز، يتمركز في الشيشان.
سياسات التوسع ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي
تعمل روسيا على إشعار جميع دول العالم، بوجودها العسكري، عبر سياساتها التوسعية. ومع حياد روسيا عن الطريق الديمقراطي، ونزوعها نحو السلطوية والاستبداد بقدوم بوتين للحكم، بدأت في إعطاء إشارات مستمرة على انتهاجها سياسة التوسع لا الانسحاب.
ويشير ضم روسيا للقرم، وزيادة وجودها العسكري في سوريا، إلى أنها ستنتهج من الآن فصاعدا استراتيجية التوسع. وبالنظر إلى تاريخ روسيا القريب، نجد أن ما فعلته روسيا في القرم وسوريا، لم يكن أمرا مفاجئا، على الرغم من أن المجتمع الدولي اعتبره غير متوقع.
ويمكن وضع ما تقوم به روسيا، ضمن صورة أشمل، تظهر فيها روسيا وهي تسعى وراء تحقيق استراتيجية طوباوية، يمكن أن يطلق عليها “الإمبراطورية الجديدة” أو “الاتحاد السوفيتي 2”.
وتقدم روسيا نفسها على أنها داعمة للسلام، وتعمل على إظهار أفعالها كما لو أنها جزء من كفاح مشروع ضد التيارات المتطرفة.
وإعلان تنظيم “ب. ي. د.” (امتداد منظمة بي كا كا في سوريا) إنشاء فيدرالية في شمال سوريا، لا يأتي بمعزل عن إعلان روسيا انسحابها من سوريا، فكلا الحدثين جزء من اللعبة الروسية للتشويش على أهدافها الحقيقية.
المصدر : وكالة الأناضول للأنباء