انهيار الأسرة في المجتمع الغربي
مجلة البيان
الخميس 14 رجب 1437/ 21 أبريل/نيسان 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
وارسو، بولاند – عندما يصل الأساقفة الكاثوليك في شهر أكتوبر القادم إلى روما من أجل مناقشة “وظيفة ومهمة العائلة”، فإن الغالبية سوف يقومون بتشخيص الموقف بشكل جيد في أبرشياتهم الخاصة. هذه المهمة ربما تكون قد أثبتت مدى صعوبتها في أوروبا في ظل وجود أفكار تقليدية متعلقة بحياة الأسرة هناك، والتي تعتبر تحدياً بشكل واسع جداً. ومع ذلك – وبينما يعتقد بعض الكاثوليكيين بأن الكنيسة تفتقد إلى أرض صلبة نتيجة لذلك – فإن هناك آخرين لديهم وجهة نظر متفائلة جداً.
لقد أوضحت ماريا هلدينجسون الأمين العام لاتحاد جمعيات الأسر الكاثوليكية في أوروبا ومقرها بروكسيل قائلة: “إن كل الدول الأوروبية تشهد معدلاتٍ مرتفعةً من التفكك الأسري يؤثر على الكاثوليك بقدر ما يؤثر على أي أحد آخر، ولكن لا شيء من هذا يعتبر جديداً في واقع الأمر” وتضيف: “وبالرغم من وجود تغيُّر جوهري وجذري في أنظمة القيم هنا منذ الستينيات من القرن الماضي، إلا أن هناك دليلاً يقول بأن الشباب ما زالوا يريدون علاقات أسرية دائمة. والكنيسة تغذي هذه التطلعات وتحافظ عليها. وبهذا المعنى فإن تعاليمها ما تزال ذات أهمية كبيرة. وعندما ناقش مجلس الأساقفة في نهاية الأمر موضوع “العائلة النصرانية”، وذلك في أكتوبر من عام 1980 عندما كان الحُكم بيد البابا يوحنا بولس الثاني والذي كان منتخَباً حديثاً في ذلك الوقت، فإن أوروبا كانت ما تزال مقسمة شرقاً وغرباً. ومنذ ذلك الحين تنوعت الظروف، ومع تقدم الاقتصاد فإن التحرك الاجتماعي والهجرة الجماعية كان لها تأثير على الكيانات التقليدية. ومع إمكانية الوصول إلى وسائل منع الحمل والاجهاض التي أصبحت أمراً مفروغاً منه بالإضافة إلى وجود ممارسات جديدة مثل تأجير الأرحام والذي أصبح أمراً شائعاً في المجتمع، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أن حياة الأسرة قد أصبحت المساحة الأكبر للتغيير.
إن جميع أعضاء المجلس الأوروبي الـ 47 بالإضافة إلى جميع سكان تلك الدول الذين يصل عددهم إلى 820 مليون نسمة تدرك أهمية وقيمة الحياة الأسرية. ولكن – وبينما يتم الاعتراف بشكل عام بالتعايش على طريقة الأزواج أو الشراكة المنزلية بين رجل وامرأة مع أخذ كامل الحقوق المتعلقة بالملكية والميراث – فإن معدلات الزواج تراجعت ومتوسط عمر الزواج أصبح الآن أكثر بسبع سنوات مقارنة بما كان عليه في الثمانينيات من القرن الماضي.
كما أن هذا التراجع الديموغرافي قد قلل من متوسط عدد أفراد الأسرة في جميع أنحاء أوروبا ليصل إلى 2.4 شخص، وذلك وَفقاً لوكالة يوروستات للاتحاد الأوروبي.
وبالرغم من أن 70.8% من الأسر التي لديها أطفال لا تزال تضم أبوين، بينما تشكل نسبة الأسر التي تضم معيلاً واحداً إما الأب أو الأم 16% بشكل عام، كما أن ربع الأطفال في بريطانيا يعيشون في أسر تضم معيلاً واحداً فقط إما الأب أو الأم. وبالنسبة لمستويات الفقر فإنها تتباين بشكل واضح أيضاً، وذلك بسبب التكاليف المتعلقة برعاية الأطفال بالإضافة إلى الإيجارات والرهانات العقارية والقوانين التي تحكم الأمومة والأبوة، فجميعها تترَك لمهنية وكفاءة الحكومات الخاصة بموجب قوانين الاتحاد الأوروبي اللامركزية.
على الرغم من وجود الطلاق في أوروبا وتأثيره على ثلث حالات الزواج، إلا أن معدلاته تتباين بشكل حاد. وكذلك هو الحال بالنسبة للمواقف حيال زواج المثليين الذي سُمِح به في بداية الأمر في هولندا عام 2001. كما أن هناك مجموعة من ثماني بلدان وهي بلجيكا والدنمارك وفرنسا وهولندا والبرتغال وإسبانيا والسويد وبريطانيا تسمح حالياً بزواج المثليين، في حين أن عدداً كبيراً يعترف بالشراكة من نفس الجنس.
ومع ذلك فإن هناك سبعَ دول وهي بلغاريا وكرواتيا وهنغاريا وإيطاليا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا تنص دساتيرها على أن الزواج يجب أن يكون من جنسين مختلفين.
لقد نظر بعض الأساقفة الكاثوليك إلى بعض التوجهات الأسرية على أنها علامة على الفردية المتفشية وتعزيز الفردية والوفاء بالالتزامات والمسؤوليات. لقد اتهم الأساقفة الحكومات المحلية بأنها فشلت في دعم الحياة الأسرية بالرغم من الالتزامات الواضحة التي تقع على عاتقها بموجب الميثاق الأوروبي الاجتماعي الذي تقرر في عام 1961، والذي نرى فيه كيف أن المادة 16 من هذا الميثاق تضع تعريفاً للأسرة على أنها “الوحدة الأساسية للمجتمع”، كما أن هذه المادة تُلزم الحكومات بتعزيز هذه الوحدة من خلال استخدام كل “الوسائل المناسبة”.
كما وجه الأساقفة اتهامهم إلى السياسيين لا سيما الموجودين في البرلمان الأوروبي ومقره ستراسبورغ، لأنهم قاموا بفرض أجندة أيديولوجية عن طريق المطالبة بحق الإجهاض وزواج المثليين في جميع أنحاء أوروبا. أما منتقدو الكنيسة فيقولون بأن السياسيين – على هذا النحو – لا يقفوا ضد الأسرة ولكنهم فقط يسعون إلى إيجاد قَبول اجتماعي وحماية قانونية لأشكال جديدة من الحياة الأسرية. ولكن بعض الأساقفة يرفضون بعض المفاهيم مثل “أسر ذات معيل واحد” على اعتبار أنها نوع من التناقض في المصطلحات. لقد انتقد الأساقفة الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي تظهر على أنها تقوض الروابط العائلية أو جعلها أمراً نسبياً.
لقد زعموا أنهم انتصروا في شهر يوليو هذا العام؛ وذلك عندما قام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف بتذكير الدول بواجباتها “بتوفير الحماية والمساعدة الفعالة للأسرة على اعتبار أنها وحدة جماعية طبيعية وأساسية في المجتمع”.
وعلى الرغم من كل الأصوات الغاضبة؛ فإن هناك دليلاً على أن القيم العميقة لا تزال سليمة. وفي دراسة حديثة للقيم الأوروبية فإن 84% من الشباب يقولون بأنهم يعتبرون الحياة الأسرية “الأكثرَ أهمية” حيث تعتبر بالنسبة لهم أكثر أهمية من الأصدقاء أو العمل أو وقت الفراغ أو المعتقدات السياسية. وقالت أنجريت جيرهارديت من اتحاد العائلة الكاثوليكية الألمانية للإن سي آر: “إن وجود أنماط مختلفة من الحياة الأسرية يخلق مشكلة واضحة للكنيسة التي تدعم نموذجها المتمثل في أم وأب وأطفال”، وتقول: “ومع ذلك وحتى بين الأزواج الكاثوليك فإن واقع الحياة وفي كثير من الأحيان يقول بأنه ليس هناك إلا القليل للقيام به مقابل تعاليم الكنيسة، إن الكنيسة اليوم بحاجة إلى أن ترى الظروف كما هي على حقيقتها وأن تقوم بتقديم الدعم الكهنوتي للناس الذين يعيشون خارج إطار مثاليتها”. وتقول: “وبالنسبة للكيفية التي يجب أن تسير عليها الكنيسة فإن هذا الأمر انعكس على الإجابات التي ظهرت في استبيان الفاتيكان الذي تم إرساله كجزء من وثيقة كنسية للأساقفة أو ما تسمى بالوثائق التحضيرية.
العقيدة والواقع:
إن العديد من الكاثوليك الأوروبيين شعروا بالأسف البالغ لوجود الفجوة الواضحة بين عقيدة الكنيسة وتعاليمها وبين واقع الحياة الأسرية. كما أنهم سلطوا الضوء على “اللغة الغير مفهومة” والمستخدمة في بعض البيانات والتصريحات التي تصدرها الكنيسة والمتعلقة بالقضايا الأسرية، هذا بالإضافة إلى المواقف المتعلقة بإصدار الأحكام التي تتصف بأنها تخلو من البصيرة والإدراك، والتي يقوم الأساقفة المحليون بعرضها بشكل روتيني.
ووَفقاً لأحد التقارير الذي صدر في مارس الماضي فإن مؤتمر الأساقفة الألمان اعترف بأن معظم الكاثوليكيين أجابوا على استبيان الفاتيكان مع المناداة من أجل إحداث انفتاح أكبر أمام المطلقين الذين يريدون الزواج مرة ثانية بالإضافة إلى زواج مثيلي الجنس والتعايش على طريقة الأزواج. لقد ظهرت نتائج مماثلة حيث إن 70% من الكاثوليك يؤيدون الآن مباركة زواج مثيلي الجنس، هذه النتائج نتيجة لمسح تم اجراءه في وسط شهر أغسطس، والذي سيتم عرضه في مجلس الأساقفة. وحتى ذلك الحين فإن جيرهارد يعتقد بأن الكنيسة الألمانية لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية لأنها تحافظ على الصورة المثالية للأسرة، والتي تعتبر صورة قريبة من مجموعة المفاهيم النظامية. لقد ذكرت جيرهارد للإن سي آر قائلة: “الحياة الأسرية دائماً كانت تواجه مشاكل خطيرة، ولا أحد يستطيع أن يدعي بأن الأسرة كانت في أوقات سابقة مقدسة ومثالية. فاليوم أيضاً نرى كيف أن الحياة الأسرية لم تصبح جيدة أو سيئة وإنما فقط تمر بحالة تغيير مستمرة. وفي حال أردنا دعمها فإن علينا أن نأخذ بالاعتبار التقلبات والتعقيدات وأن نعتمد بشكل أقل على القوانين القديمة والمذاهب الدينية”.
المثالية البولندية:
وعلى الجانب الآخر من الحدود قدم رئيس مؤتمر الأساقفة البولندي المطران ستانسلو جاديكي في بوزنان ملاحظة في شهر يونيو يقول فيها بأن كنيسته ستقاوم “النزعة اللاهوتية التي قدمتها بعض الجماعات الناطقة باللغة الألمانية”.
وبالرغم من ذلك كان هنا أيضاً مناهضة كون أن الأسر التي تضم معيلاً واحداً ْإما الأب أو الأم، والأسر التي يكون فيها الأبوان غير متزوجين قد أصبحت شائعة بشكل متزايد.
ولم تكشف الكنيسة البولندية عن الردود المحلية على استبيان الفاتيكان، وفي شهر يونيو أصر رئيس لجنة الأسرة الأسقف جان واتروبا في مدينة جيشوف على أنه: “لا أحد من الجماعات الرئيسية من رجال الدين النصرانيين المخلصين وبالإجماع “كان يتوقع وجود أي نوع من التعديل على عقيدة الكنيسة أو تعاليمها الأخلاقية”.
وبالرغم من ذلك وفي مسح أجراه مركز وارسو لأبحاث الرأي العام في شهر مارس فإن ثلاثة أرباع البولنديين لم يوافقوا الكنيسة في آرائهم في ما يتعلق بالمثلية الجنسية ووسائل منع الحمل، ومن ثَمَّ فهم يفضلون أن يكون هناك تغير في التعاليم الكاثوليكية في ما يتعلق بالطلاق والعلاقات خارج إطار الزواج. وفي يوليو تحدث مؤتمر الأساقفة إلى البرلمان البولندي والرئيس البولندي على أن يوقفوا القرابين المقدسة في حال قاموا بسن قوانين تسمح بعمليات تغيير الجنس هذا بالإضافة إلى تمويل الدولة لعمليات الإخصاب في المختبر. ويعتقد المذيع في إحدى الإذاعات الكاثوليكية مالغورزاتا جلابسز بنيويسكا بأن الكنيسة البولندية قد منحت الأسرة لباساً أيدولوجياً، وأثبتت حسن الاختيار للطريقة التي تدافع بها عنها.
لقد تم انتقاد الأساقفة البولنديين وبشكل متكرر لأنهم فشلوا في رفع أصواتهم وبشكل علني ضد الفقر والإقصاء في هذه الدولة ذات الأغلبية الكاثوليكية الساحقة، والتي تتبجح بأنها الأعلى مستوى بين دول الاتحاد الأوروبي من ناحية وجود حرمان للأطفال وأنها تخصص مصادر أقل مقارنة بأي دولة أوروبية أخرى في الاتحاد من أجل دعم الأسرة. إن حوالي 3 ملايين شخص من البولنديين ممن هم في سن العمل قد ذهبوا إلى الخارج؛ وذلك منذ أن انضمت بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي قبل أحد عشر عاماً، تاركين جيلاً كاملاً من “الأيتام الأوروبيين” في حضانة أجدادهم ليقوموا بتربيتهم. ويعتقد المذيع مالغورزاتا بأنه على قادة الكنيسة إصدار أحكام أخلاقية صارمة وأن يُظهروا تفهمهم لما تواجهه كثير من الأسر من ضغوطات ومصاعب.
ويقول جلابسز بنيويسكا للإن سي آر إنه: “من السهل دائماً أن تطالب ببعض النماذج المثالية – وسيجعل ذلك مهمة الكنيسة أسهل بكثير في حال عاش الناس وسط هذه المثالية. ولكن وبينما من المهم أن تبقى كنيستنا تدافع عن الأسرة التقليدية، فإنه من الصعب أن تفهم ما تعرضه الكنيسة على أنه نوع من التقوية للأسرة – ومن الجانب الآخر فهي تحاول فقط الحفاظ على الوضع الراهن”.
وأياً كان الأمر فإن لدى الكنيسة البولندية حلفاء أقوياء. وفي مالطا الكاثوليكية ذات الطابع التقليدي والتي سمحت بالطلاق فقط في عام 2011، فقد حذر الأسقف ماريو جريش في جزيرة غودش مما أسماه “تسونامي ثقافي”؛ وذلك في رسالة كهنوتية بعثها في شهر أغسطس ولكنه تعهد لزملائه الأساقفة بأنه لن يسمح ولن يتساهل بأي تغيير في تعاليم الكنيسة. لقد وقَع أكثر من 471000 كاثوليكي على إحدى المناشدات الدولية التي سميت “مناشدة الأبناء”، والتي حثت البابا على مقاومة “دعاية المتعة”، حيث قاد هذه المناشدة الكاردينال الأمريكي ريموند بورك وهو أحد الحكام الفاتيكان السابقين.
المصدر : مجلة البيان