تركيا.. الدين والدولة والمجتمع

نبيل البكيري

صحفي وباحث يمني

الثلاثاء 11 ذو الحجة 1437/  13 سبتمبر/ أيلول 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”

لا شك أن يوم 15 يوليو/تموز الماضي، سيمثل نقطة فارقة في تاريخ تركيا الحديث، ستترتب عليها تحولات عميقة في المجتمع التركي من شأنها أن تعيد رسم العلاقة التكاملية القديمة بين ثلاثية هذا الشعب، الدين والمجتمع والدولة.

هذه الثلاثية المترابطة في نسق علاقة تكاملية غاية في الانسجام والتناغم التاريخي، رغم مرحلة الانقطاع الصعبة والتي مثلتها المرحلة الكمالية وإرثها الثقيل الذي ظلت تجدده الانقلابات العسكرية على مدى أزيد من سبعين عاما منذ انقلاب 27 مايو/أيار 1960م وحتى انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 الفاشل.

إعادة صياغة هذه المعادلة من جديد لم تتهيأ لها الظروف كما هو الحال الراهن في تركيا ما بعد 15 يوليو/تموز، بفعل ما أحدثته هذه الهزة الانقلابية من يقظة الوعي التاريخي بأهمية معادلة التكامل بين الدين والدولة والمجتمع في الحالة التركية، وهي المعادلة التي نشأت عليها الأمة التركية منذ لحظة الميلاد وبداية التأسيس، وهي ما مثلت إشكالية كبيرة بالنسبة لمحيط تركيا الغربي والإقليمي حاول من خلال إلغاء الخلافة أن يتخلص من هذه المعادلة الحضارية التي جعلت من تركيا أمة إمبراطورية ظلت لنحو خمسة قرون في صدارة المشهد العالمي.

يغفل الكثيرون اليوم عن طبيعة التحولات التي يشهدها المجتمع التركي وطبيعة دينامياته الحاكمة، تلك التي تدفع هذا المجتمع نحو العودة إلى جذوره التاريخية لاستعادة هويته ومكانته الطبيعية بين الأمم، هذه الهوية التي بدأ المجتمع التركي بالشعور باستعادتها مع صعود حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة في عام 2002م وبدأت موجة الشعور بالهوية التركية بالتصاعد تدريجيا مع كل النجاحات والإنجازات الكبيرة التي حققها هذا الحزب لتركيا على كل المستويات حتى اللحظة.

فمن خلال ملاحظاتي للمشهد التركي عشية الانقلاب الفاشل، وتفاعلات ثلاثية المعادلة التركية التاريخية، الدين والمجتمع والدولة، وإفشال هذه المعادلة للحالة الانقلابية التي نفذها فصيل صغير من الجيش التركي حاملا لهذا الانقلاب، ذي العلاقة بـ”الكيان الموازي” الذي مثل مرجعية جديدة غير المرجعيات السابقة للانقلابات العسكرية وهي المرجعية العلمانية الحاكمة للعقيدة العسكرية لتركيا الكمالية والتي بدأت بالتراجع الكبير مع بروز تيار تركيا الجديدة لصالح مرجعية إسلاموية كانت ضمن نسق تركيا الجديدة وإن بأجندات سرية ذات ارتباطات بقوى ومصالح دولية معادية لعودة تركيا كفاعل رسمي في المشهد الدولي.

الدين والتدين التركي
يحتل الدين بتجلياته الصوفية المحلية مساحة واسعة من وجدان ومخيال الإنسان التركي الذي تذهب كثير من كتاباته وأدبياته للقول إن كل تركي مسلم بالضرورة وأن ورود لفظ تركي يعني أنه مسلم وليس شيء آخر، بحسب ذات حديث مع الصديق والباحث التركي محمد زاهد غل، الذي أخبرني أن كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف أرسوي كان إسلاميا صميميا، وأن المدرسة الإسلامية بتجلياتها الراهنة هي ذات جذور تركية وأن جدلية الإسلامي وغير الإسلامي بمدلولها السياسي والثقافي هي جدلية تركية في الأساس ابتدأت عند سعيد حليم باشا الذي كان يطلق على نفسه الإسلامي مقابل الاتحاديين.

اقرأ أيضا  مسجد في ألمانيا يتعرض لثاني اعتداء "إسلاموفوبي" خلال 6 أشهر

لكن المختلف في الحالة التركية فيما يتعلق بجدلية الديني والسياسي والإسلامي والعلماني هو أن الفكرة الإسلامية تتعلق أساسا بالدولة وآليات عملها في المجتمع بمعنى أن الفكرة الإسلامية في الحالة التركية هي أساسا مرتبطة بالدولة ككيان مقدس نابع من تدين المجتمع الذي يعتبر وجود الدولة جزءا من تدينه الذي يفرض عليه الإيمان بوجود الدولة الوطنية المتصالحة مع تدين المجتمع والساهرة على رعاية مصالح أفرادها وتدينهم.

لذلك رأينا طوال تاريخ تركيا الحديثة كيف كانت تنبع الفكرة الدينية من قمة الدولة وأطرها ولا تأتي الفكرة من قاع المجتمع كما في الحالة العربية، فتكرر هذه المشهد مع تجربة كل من عدنان مندريس وأربكان وغيرهم وصولا إلى الحالة الراهنة، بمعنى أن الدولة في الحالة التركية هي حاملة الفكرة الدينية في مفهومها التاريخي منذ السلطة العثمانية عدا حالة الانقطاع التي مثلتها الحالة الكمالية بعمقها العلماني الذي استهدف تدمير تلك العلاقة القائمة بين الدين والدولة بنسقها التاريخي القائم على العقيدة الحضارية لمفهوم الدولة ككيان مقدس لا يقوم للدين راية بدون وجود الدولة الحامية للدين كتراث والراعية للتدين كسلوك.

وجود مثل هذه العلاقة في لا شعور المجتمع التركي، هو حالة دفاع قوية للهوية الإسلامية للمجتمع ضد الحالة العلمانية التي ارتبطت وعرفت هي الأخرى في ذهنية المجتمع التركي كعقيدة عسكرية مرتبطة بالحاكم العسكري ونظامه وليست خيارا ثقافيا يمكن التعاطي معه، وهو الذي أبقى العلمانية رغم تجذرها في بنى الدولة ومؤسساتها كحالة منفصلة عن المجتمع، وسلوكياته الإسلامية التي أبقت وهج التدين الموروث بطقوسه وعقائده رغم حالة القمع والتشويه التي طالت كثيرا من التقاليد الإسلامية من قبل علمانية العسكر.

بالمختصر، فالتدين التركي ليس حكرا على طبقة أو جماعة أو فرد دون آخر، ليس محصورا حتى في تلك الجماعات الصوفية التي تقوم بمهمة الوعظ والإرشاد، فالتدين التركي حالة غريبة جدا، فتجد أشد الناس علمانية في الصف الأول من المسجد كما تجد سيدة شبه عارية تذهب إلى المسجد وتصلي.. مجتمع كهذا من الصعب جدا أن تصفه بغير صفة التدين العميق الذي يمارسها كسلوك فردي وليس كإلزام جماعي أو مظهر اجتماعي.

اقرأ أيضا  تقرير: مسلمو بريطانيا أكثر فخرا بهويتهم البريطانية من بقية السكان

ففي دراسة نشرت في كتاب “التدين في التركيا، الإيمان وأنماط الحياة من خلال التجاذبات الاجتماعية” الصادر عام 2012 لمجموعة من الباحثين الأتراك، والذي أجاب عن سؤال درجة التدين لدى شريحة من المصوتين لهذه الأحزاب، كانت الإجابة كالتالي؛ حيث قال 75% من المصوتين للعدالة والتنمية أنهم متدينون، فيما قال 1.6 من المصوتين أنهم غير متدينين، بينما قال 23.6 من المصوتين أنهم حالة وسط بين الحالتين.

أما فيما يتعلق بحزب الشعب الجمهوري العلماني، فقد صوت له نحو 38% من المتدينين، فيما قال 18.6 % أنهم غير متدينين فيما صوت له 42.2% من الذين هم في حالة وسط بين الحالتين. أما مصوتو حزب الحركة القومية فقد قال 59.1 % أنهم متدينون فيما قال 5.7 % أنهم غير متدينين فيما يعتبر 35.2 % أنهم في حالة وسط بين الحالتين. وكذا تكاد تقترب هذه النسبة لدى حزب الشعوب الديمقراطي الذي أجاب مصوتوه بنسبة 54.5 % على أنهم متدينون فيما صوت له 10.9 % من غير المتدينين، وصوت له 32.7% من الذين هم في حالة وسط بين الحالتين.

وفي المجمل، فإن حالة الوسط بين الحالتين هي بالتأكيد حالة تدين شعبي عام لا تختلف عن درجة التدين والالتزام الشديد كثيرا، مما يعني أننا أمام مجتمع متدين بشكل كبير، ويمثل الدين بالنسبة له عقيدة راسخة لم تتزعزع رغم المحاولات العلمانية العسكرية المستميتة في تجفيف عقيدة التدين لدى الشعب التركي، وبحسب كتاب التدين في تركيا السابق فإنه “على الرغم من جهود العلمنة والتحديث، فإن القيم الإسلامية بقيت صامدة، ولم تنجح عملية العلمنة والتغريب في أن تحل محل وظيفة الدين الميتافيزيقية”.

الدولة في المخيال التركي
مثلت الدولة بالنسبة للأمة التركية واحدة من الركائز الرئيسية المقدسة التي ارتبط مفهوم الأمة التركية بها منذ لحظة الولادة الأولى للدولة التي نشأت منذ دولة السلاجقة الأتراك الأوائل” 1038- 1157″ ومضت على هذا المنوال مع دولة الخلافة العثمانية “1299-1923″، وتجذرت هذه العلاقة بالارتباط التقليدي بين مفهومي الدولة والأمة والدين كقالب هوية للشعب التركي بمختلف قبائله ومذاهبه على امتداد تاريخ الأناضول القديم والمعاصر والحديث.

فلمفهوم الدولة في التراث التاريخي والديني والثقافي بالنسبة للأتراك، حضور كبير ومهيمن على مساحة واسعة من التفكير والوعي الاجتماعي، باعتبار الدولة حصن الأمة وحاميها من الأعداء، و هذا تفسير طبيعي لحضور مفهوم الدولة لدى الأتراك بهذا الشكل بالنظر إلى أن الأتراك هم في الأصل قبائل مهاجرة أتت من وسط آسيا بحثا عن وطن، وهو ما تحقق لها بالوصول والاستقرار في الأناضول التي حولت القبائل التركية من قبائل بدوية تغزوا بحثا عن الماء والمرعى إلى قبائل متمدنة تستوطن السهول وتمتهن الزراعة والصناعة والرعي معا.

اقرأ أيضا  المحكمة العليا الهولندية تقر تأسيس مدرسة إسلامية في أمستردام

ويفسر هذا الحضور الطاغي لمفهوم الدولة لدى الأتراك، نضالهم الطويل والكبير تاريخيا بحثا عن وطن، والواقع أن الوطن لا يمكن الحفاظ عليه دون قيام دولة قوية تحمي شعبها وتدافع عن أراضيه، ومثل هذا التفسير أيضا هو الذي نجده كثيرا ويتسق أيضا مع تفكير الأتراك بمختلف تياراتهم ومسمياتهم ومذاهبهم.

لذا لم تكن الدولة بالنسبة للأتراك وليدة لمرحلة الجمهورية الأتاتوركية المعلنة عام 1923، بقدر ما هي حقيقة تاريخية وتقاليد راسخة ومتجذرة في وعيهم وتراثهم الحضاري الذي امتد لقرون عدة ربما تصل لأكثر من 800 سنة منها ما يقارب قرنيين من الزمن في عهد السلاجقة وما يقارب ستة قرون في عهد العثمانيين.

ومن ثم فالجمهورية التي تعد ثابتا من ثوابت تركيا الحديثة، تمثل أيضا مرحلة تواصل تاريخي لفكرة الدولة ومفهومها وتقاليدها وحضورها في حياة الناس والأجيال المتعاقبة كقيمة وطنية مقدسة لا يمكن أن يتخيل الأتراك وجودهم بدونها، وهذا ما نلاحظه من خلال الصراع السياسي على مدى عقود ما بعد الجمهورية التي كانت تدور كلها حول آليات عمل الدولة الحاكمة وأيديولوجيتها وليست حول الدولة وجوهر وجودها ككيان اعتباري لحماية الأمة والشعب التركي.

من كل هذا، يصبح مفهوما أيضا التقديس الكبير للعلم (البيرق) بالتركية رمز الدولة وشرفها كما يعكسه البيت الأول من النشيد الوطني لمحمد عاكف أرسوي “لا تخف أن تنطفي هذه الراية الحمراء في السماء”.

هذه الراية التي ترمز للدولة التركية، والتي لم أر شعبا كالأتراك تقديسا لعلمهم الوطني، فهم قد يختلفون حول كل شيء إلا الدولة والبيرق، فهما ثابتان من ثوابتهم المقدسة، لدرجة أن أكبر شخصية دينية في الدولة وزير الشؤون الدينية يقف داعيا الله في مهرجان جماهيري مليوني قائلا “اللهم لا تجعلنا بلا دولة ولا علم” في كناية عن قداسة فكرة الدولة وحضورها في الذهنية والمخيال التركي وارتباط الدولة والدين وتكاملهما معا كركيزتين أساسيتين في الاجتماع السياسي التركي تاريخيا.

 المصدر : الأناضول

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.