تركيا: مفاعيل الهيمنة والتحكم
أحمد العمري
دراسة لعلاقة الغرب مع تركيا من محاولة الانقلاب إلى الموقف من التصويت على التعديلات الدستورية
(مجلة البيان السعودية) – لا تلبث دورات التاريخ أن تتمخض عن أحداث وتحولات تعيد صياغة أحوال البشرية وفق سنن العليم الحكيم؛ المدبر القاهر، ونتيجة لفعل الإنسان وتدافع الأمم.
تأتي الأحداث الكبرى كمنعطفات حادة هي مخاض ما قبلها مما أحدثه الصراع البشري، فتنهدم صروح مشيدة، وتُنسخ وتندرس أفكار عتيدة، وتنهار سرديات كبرى.
وما نشاهده من تحولات أخيرة على المسرح الدولي خير شاهد على ذلك، فحين يضيق الغرب بكبريائه وعلوه بما صنعه وبناه من نظريات وقوانين ومنظمات إنما أحكم عقدها لتكون قيوداً وأغلالاً في رقاب الأمم المستضعفة..حينما يضيق بها ويتحلل منها ويتجاوزها على أرض الواقع فذلك مؤذن بأنهم يرون الزمام ينفلت من أيديهم وأنهم يستقبلون عصر الأفول، وربما نؤرخ قريباً أن مصطلحات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحريات – وفق المفاهيم الغربية -كانت عنواناً لمرحلة ثم بادت.
وحدث الاستفتاء لتغيير النظام الرئاسي التركي الأخير وإن كان في ذاته صغيراً، إلا أن تداعياته على المستوى الأوروبي والأمريكي تصلح لأن تكون عينة لما قدمنا مسبقاً، فإذا كان التغيير شأن داخلي ووفق القواعد الدستورية المقررة قبل حزب العدالة والتنمية وأردوغان، القائمة على الاستفتاء الشعبي..، ومع ذلك كانت ردة الفعل الأوروبية عنيفة وواسعة جداً بحيث شملت الاتحاد الأوروبي بأكمله.
لقد بلغ الحنق الأوروبي على الإدارة التركية مستوى غير مسبوق، حتى فوق ردة الفعل التي سبقت الانقلاب الفاشل، ويلحظ المراقب أن بعض دول أوروبا تعامل مع الشأن الداخلي التركي كمن يحرق مراكبه مع الأتراك، ولا يدع مجالاً كبيراً للرجوع أو إعادة العلاقات إلى سابق عهدها [1]، وكأنهم حزموا أمرهم على أنهم سيتعاملون مع غير أردوغان وحزبه في قابل أيامهم.
بل لقد ظهر التصعيد الأوروبي خارق لكل حجب حريات التعبير والقواعد الديمقراطية ومبادئ الإعلام [2].
تلك الحفريات المصطلحية التي صنعوها بعناية، ثم سوقوها على الأمم.
تفسير الظواهر السياسية والثنائيات المتعارضة:
اعتدنا أمام تدفق الأخبار والأحداث السياسية اليومية أن نرشح فهمها وفق نمط واحد ومن ثم تفسيرها بنتيجة واحدة متجاهلين ظاهرة التركيب المعقد للظواهر السياسية والعوامل المتداخلة جداً في تكوينها.
فمثلاً حدث كالموقف الأوروبي من التصويت على التعديلات الدستورية هل نقصر فهمه على طريقة “الخبراء” في استديوهات الأخبار بناءً على نظرة المدرسة الواقعية القائمة على مراعاة الحالة السياسية المنظورة، التي توجه بشكل رئيسي من المصالح الذاتية للفاعلين [3]، والتي ينطلق أصحابها من تمركز وجود الدول على المصلحة الذاتية، والتركيز على المصالح لا على الأيديولوجيا، وإمكان تعايش القوى المختلفة بغض النظر عن أي تعارض أو تناقض بين قيمها ومعتقداتها واستبعاد كل شيء من السياسة الدولية بخلاف القوة والمصلحة الذاتية[4].
أم نفسره وفق النظرة المثالية في تمثلات التأثيرات الأيديولوجية…، وكيف يمكن التوفيق بين العوامل المذهبية واعتبارات المصلحة القومية في مواقف السياسة الخارجية.
هل يمكن تجاه مثل هذا الحدث أن نتجاهل أن الأيديولوجية تسهم في جانب منها في تحديد الكيفية التي ينظر بها واضعوا السياسة الخارجية إلى العالم الخارجي، وتمدهم بالأداة التي يفسرون بها الواقع في نطاق تصوراتهم وبما يتفق ومجموعة القيم التي يدينون بها، وأن التفسير الأيديولوجي للأحداث يسمح بتأكيد أهمية بعض العوامل، والتقليل من أهمية البعض الآخر.. وتجعل واضع القرارات الخارجية يميل في اتجاه فكري معين[5].
ما يكشفه مثل هذا الحدث بجلاء أن الشعارات المعلنة ما هي إلا توظيف قذر لحزمة من المصطلحات الأخلاقية الجذابة، من نحو تطبيق الديمقراطية وتعزيز الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان بوصفها أوراق ضغط يتم استعمالها في الأروقة الدبلوماسية دون أن يكون لها أي أثر يذكر على أرض الواقع[6].
فعلى الرغم من تأكيد أمريكا وحليفتها أوروبا على دعم الديمقراطيات والناشئة منها خصوصاً، وإنفاق الأموال على برامج دعم الديمقراطية، إلا أن سلوكها السياسي نحو المنطقة العربية وغيرها حافل بالتدخل السافر لدعم الديكتاتوريات[7].
وعطفاً على ذلك وكمفتاح آخر لفهم الحدث تبرز ثنائية أخرى يفتعل الناس بينها فصاماً عنيداً، وهي: هل المحرك الأساسي للسلوك السياسي الغربي في القضايا الدولية دافعه حضاري بخلفياته الدينية / الثقافية، أم أنه مصلحي بحت يتمثل في العامل الاقتصادي؟
ومرة أخرى نحن أمام علة ظاهرة في التفكير السياسي العربي أشار إليها فضيلة الشيخ سفر الحوالي حفظه الله: إن إحدى مشكلات منهج التفكير الإسلامي المعاصر أن الأمة تفتقد إلى النظرة الشاملة والربط بين الأحداث وإلا يكن ذلك يظل أعداؤها يقذفون بأنظارها ومشاعرها كما يقذف اللاعبون بالكرة، فإذا توجهت إلى قضية نسيت الأخرى، وإذا وضعت يدها على شيء ألقت ما عداه وإذا عرض أمامها مشهد غفلت عن غيره [8].
ولعله لا يعجز المتابع أن يدرك اجتماعهما في مراحل الصرع التاريخية المختلفة مع العالم الإسلامي، برز هذا جلياً منذ بواكير الصراع الغربي الإسلامي حيث عبر أحد المؤرخين الأسبان عن الجمع بين الدافعين الاقتصادي والحضاري حينما سوَّغ ذهابه وزملاؤه لغزو الجزر الهندية بقوله: خدمة لله ولصاحب الجلالة، ولنقل النور إلى أولئك الجالسين في الظلام، ولنصير أغنياء كما أن كل إنسان يريد أن يصير [9].
وباختلاف الظروف والتحولات الدولية فإن أكثر من عامل واحد كان يتفاعل مع الآخر، كما أشار بعض الخبراء أن عنصري الأديان والجغرافيا هما العنصران الطاغيان خلال الإثني عشر قرناً بعد ظهور الإسلام، وبمرور القرون أصبح تأثير العناصر الأخرى يزداد أهمية، أما اليوم فعاملا الجيولوجيا النفط والموارد الطبيعية والعولمة هما المسيطران[10].
ويؤكد راصدو الحراك الدولي على أن الهيمنة الثقافية على العالم غير الغربي ملازمة لأشكال من السلطة السياسية والعسكرية المهيمنة، الملازمة بدورها للأسواق والاقتصاد[11].
ويمكننا الاستناد على المبررات التالية لفهم طبيعة العلاقة بين دوافع الاستعمار المختلفة:
- أن الباعث الصليبي كان هو الباعث الأول الذي حرك أوروبا إلى الاستيلاء على العالم الإسلامي، كما هو ظاهر من الكشوف الجغرافية التي دفعت أصحابها إلى أماكن لم يكن الاستغلال الاقتصادي فيها محدد المعالم أول الأمر.
- أن التحرك الاقتصادي الأول من أوروبا نحو الشرق كان ضمن أهدافه حرمان المسلمين من مصادر قوتهم لإضعافهم، وهو هدف فكري وعقدي وليس اقتصادياً فقط.
- أنه حين برز العامل الاقتصادي في حياة أوروبا فيما بعد، وأصبح – ظاهراً – هو المحرك الأول لجميع تصرفاتها بقي هناك فارق واضح بين الاستعمار الاقتصادي في بلاد الإسلام، ونظيره في البلاد غير الإسلامية، حيث كان الاستعمار الغربي لا يتعرض لعقائد الناس وتقاليدهم في البلاد غير الإسلامية بشيء من العنف إطلاقاً، بينما كانت هناك دائماً تدبيرات وترتيبات يقصد بها إزالة مظاهر الحياة الإسلامية [12].
ركيزتان أساسيتان هما مدخل الفهم للسلوك الغربي مع تركيا:
أولا: الخلفية الحضارية الدينية وجذور العداء التاريخي الصليبي:
إذا كان تاريخ الصراع بين الغرب والإسلام قديم قدم بزوغ فجر الإسلام على هذا العالم، فإن تَشكُّل معالمه وتجذّر أبعاده في الوعي الأوروبي كان مع سقوط القسطنطينية، على يد محمد الفاتح.
يقول جون فيفر: ” إن الاستيلاء على القسطنطينية، وتلاشي موطئ القدم الرسمي الذي كان للمسيحية في المشرق العربي كان تطوراً انطوى على تحول خطير بالنسبة لأوروبا” [13].
ولم تكن مرحلة تاريخية عابرة تلاشت آثارها بعد تلك المرحلة، كلا، بل انغرست في عمق الوجدان الأوروبي نحو الإسلام وعالمه، يعبر جوستاف لوبون عن ذلك بإفصاح بليغ حينما قال: فالحق أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ظلوا ” أشر” ما عرفته أوروبا من الأعداء إرهاباً عدة قرون، وأنهم عندما كانوا لا يرعدوننا بأسلحتهم، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو يهددون أوروبا بعد فتح القسطنطينية، كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس، وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءاً من مزاجنا، وأضحت طبيعية متأصلة فينا تأصيل حقد اليهود على النصارى الخفي أحياناً والعميق دائماً[14].
بل إن بعض المفكرين الغربيين ذهبوا في توصيف خلفية العداء الأوروبي للإسلام إلى أبعد من ذلك، فهم يؤكدون على أن الهوية الأوروبية المميزة لم تبرز للوجود إلا إبان معارضتها للإسلام بل للفكرة الأوربية عن الإسلام، وأن أوروبا إبان صراعها مع الإسلام وجدت لنفسها اسماً !!، قبل القرن الثامن الميلادي لم تكن أوروبا موجودة، لم يكن لها وجود على الأقل في خيال المقيمين في هذه المنطقة الغربية الخلفية البعيدة من آسيا [15].
وكذلك العكس، تبلورت الصورة المقابلة لـ “الآخر” “الشرق” باعتبار نداً وغريماً و “آخر” ليس الغرب، يقول إدوارد سعيد:إن العلاقة بين الغرب والشرق هي علاقة سلطة وسيطرة، فالغرب مارس بدرجات متفاوتة هيمنة معقدة.. والشرق أصبح شرقاً لا لأننا اكتشفنا أنه كان شرفاً فحسب وفق منمطات أوروبي القرن التاسع عشر وإنما أيضاً لأنه ” كان بالإمكان جعله شرقياً” [16].
وهكذا انقسم العالم شيئاً فشيئاً إلى قسمين: الغرب وباقي العالم، كما تمت المحافظة على كلٍ من التفاوت البنيوي السياسي والاقتصادي بالقوة العسكرية [17].
نعم لقد كانت الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث للحضارة الإسلامية لأسباب تاريخية، فحافظت على استمرار أمرين استراتيجيين اثنين هما: عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح لدينها، وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب [18].
ولأجل المحافظة على هذا التفاوت حرص الغرب على عزل المسلمين عن كل أسباب القوة والتقدم والاستقلال، فالحداثة الغربية قدمت إسهامين كبيرين في أماكنها الأولى: الاستقلال السياسي والابتكارات التقنية، ولكن في الشرق الأوسط جاءت بالإخضاع الاستعماري ولم تقدم سوى القليل من التحفيز على الابتكار [19].
تركيا “العثمانية” وموقعها من الصراع الحضاري بين الشرق والغرب:
إذا كان فتح القسطنطينية هو موقد شعلة الحقد الصليبي التي دفعت أوروبا للتوحد ثم النهوض فلابد أن تكون تركيا “العثمانية” الأوفر نصيباً من ذلك الحقد العميق..، تأمل كيف وصف محمود شاكر حال أوروبا بعد سقوط القسطنطينية: وتمضي الأيام والسنون وتتطاول وأوربه بأسرها لا تنام إلا على فراش من الرمضاء اللاذعة، لا يدع لجنب ساعة من طمأنينة، يفزعها شبح “الترك” وذكرى قرون طويلة من الإخفاق والمهانة والعار، ولا قرار على دوي أصوات صارخة تهيب بهم إلى رفع هذا العار ودفعه عن دينهم وعن أنفسهم وعن أوطانهم بكل سبيل، وكذلك رسخت في العظام الحية لا في النفوس وحدها ولا في العقول بغضاء سارية مشتعلة للفظ ” الترك ” أي المسلمين لا تزداد على الأيام إلا توهجاً وانتشاراً، ونزلت في النفوس منزلة الدم الراسخ في أعماق الفطرة [20].
وقد بقى هذا العداء مستمراً ما بقيت تركيا على الخارطة، ويبقى الوقود الديني يغذي جذوة الحقد وإن تنوعت تمثلاته وأشكاله يقول الوزير جوفارا وزير الدولة والمسؤول الدبلوماسي في بلغراد وصوفيا: إن أصل العداوة المزمنة التي يشعر بها الأوروبيون للأتراك ويميلون أبداً من أجلها إلى حصرهم في آسيا هي راجعة إلى العداء الشديد الواقع بين النصرانية والإسلام [21].
ويظل هذا العداء لتركيا المسلمة هو الموحّد لهم على الدوام رغم حروبهم البينية، فمهما تقاتل مسيحيو البلقان فيما بينهم في القرن التاسع عشر الميلادي وتأمروا على بعضهم البعض فإن اقتلاع المسلمين كان العنصر المركزي الموحد لهم في التاريخ، وانحلال قدرة المسلمين عبر تقسيم وتجزئة الإمبراطورية العثمانية سمع لمسيحيي البلقان بالتعبير عن حقدهم وعن قصدهم بشكل مكشوف [22].
وكما أن العداء للمسلمين عموماً كان العامل الأقوى في تكوين الهوية الأوربية العنصرية، فإن المشاعر المناهضة لتركيا والمعادية للمسلمين كانت مركزية بالنسبة لباكورة الاقتراحات التي أوصت بتشكيل الاتحاد الأوربي [23].
ويستمر خط العداء الديني الثقافي ليكون المؤثر الكامن في انضمام تركيا للاتحاد الأوربي الذي تكون لغايات سياسية واقتصادية؛ إلا أن المسألة الثقافية تظل جوهرية، فمن يبنون تفسيراً ثقافياً للبناء الأوربي الاتحادي ينفون انتماء تركيا إلى الكيان الأوربي لإدراكهم أن الواقع الثقافي والديني لأوروبا لم يوجد إلا عندما كانت أوروبا مؤلفة من بلدان ذات تراث كاثولوكي وبروتستاتي [24].
ثانيا: منطق الهيمنة والاستعلاء وأدواته وموقع العالم الإسلامي منه:
تقوم نظرية المركز والأطراف على فكرة أن الدول الغربية دول المركز، تمارس هيمنتها على الدول غير المركزية؛ الدول الأطراف سواء من خلال حكوماتها التابعة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً أو من خلال المؤسسات المالية العالمية هي التي بمثابة الأذرع المالية للقوى الغربية المهيمنة، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، وغيرهما من المنظمات، وكذلك الشركات المتعددة الجنسية، التي تعمل باتجاه تعطيل الإرادة الوطنية للدول التابعة وفقدانها لشروط إعادة تكوين ذاتها، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار سيطرة الدول المتقدمة عليها..[25].
إذاً الأمر الممنوع من دول المركز على دول الأطراف هو الاستقلال الحقيقي من الهيمنة والتحكم بها، وهم يستخدمون لذلك أصابع القوة الناعمة عبر الهيمنة الاقتصادية أو أذرع القوة الخشنة؛ والتي تتنوع بين شكل الانقلابات إلى الحروب والاحتلال المباشر.
ومن قلب التجربة يشرح القرصان الاقتصادي الأمريكي جون بيركنز أن مجموعة الشركات الاقتصادية الكبرى ورجال عصاباتها من قراصنة الاقتصاد وثعالب المخابرات المنتظرين في خلفية الأحداث لن يسمحوا إطلاقاً لـ “البلدان الصغيرة” بالسيطرة على الأمور !! [26].
1 السيطرة الناعمة من خلال الهيمنة الاقتصادية بدعم المؤسسات المالية الدولية:
إذاً الخطوة المسبقة والمفضلة هي الهيمنة الاقتصادية بمؤسساتها الدولية وشركاتها العالمية، فلم يعد من الضروري استعمار الأمم ونهب خيراتها عن طريق الاحتلال المباشر، بل أصبح أكثر خبثاً ودهاءً، فبواسطة شركاء محليين ارتضوا أن يشاركوا بارونات المال العالمي في عملية نهب شعوبهم مقابل الفتات من غنائم هؤلاء الأجانب، قاموا بإغراق البلاد والعباد بالديون وجعلوا بلدانهم رهينة [27].
فلم يعد التهديد الذي تخشاه الدولة القومية ذات السيادة على سلطتها هو غزو الجيوش الأجنبية، بل الأحرى أنه المدى العالمي للاقتصاد الذي يسمح أن تُتخذ القرارات خارج الحدود القومية لتحديد سلوك معدلات الفوائد والعجوزات المالية وقيمة العملات وأسعار المنتجات الأولية وحجم البطالة أو إعادة موضعة صناعات بأكملها ونقلها إلى أماكن أخرى [28].
والنتيجة تصبح كما قال جيمس جاريسون رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي: ليس هناك أمة على الأرض قادرة على مقاومة الاستقطاب القسري للعولمة، فقليلون هم أولئك الذين نجوا من “الإصلاحات الهيكلية” وأفلتوا من “الشروط” التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أو تطلبتها منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية؛ التي ما زالت؛ رغم عدم جدواها، تحدد مفهوم العولمة الاقتصادية وتصيغ القوانين والقواعد، وتعين المكافآت لمن خضع وذل، وترفع عصا العقاب لمن مرق وتمرد وهذه هي سطوة العولمة…[29].
“فَخ الدَيْن” القبضة الخانقة:
والسؤال: كيف تضطر الدول النامية للارتهان للاستقطاب القسري للعولمة أو المدى العالمي للاقتصاد ومن ثم الاستعمار الاقتصادي؟
الجواب ببساطة هو إيقاع هذه الدول في فَخ الدَيْن الذي يشكل الوسيلة للتراكم من خلال نزع الحيازة، إنه الشَرَك الذي ينصب بعناية وبمساعدة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين لم يكشف سلوكهما على مدى الأيام والتجارب إلا أنهما يسعيان في خدمة مصالح أمريكا وحلفائها إذ أن خلق الأزمة وإدارتها والتلاعب بها على المسرح العالمي تطورت كلها لتصبح فناً جميلاً لإعادة توزيع مقصودة للثروة من الدول الفقيرة إلى الغنية، حيث تدفع الدول النامية المتعطشة للائتمانات، وتشجعها باستمرار للاقتراض بكثافة ولو كان الاقتراض بمعدل فوق طاقتها، فأصبحت تحت احتلال اقتصادي لازمه احتلال للإرادة السياسية والسيادية، حيث تقوم هاتان المؤسستان بفرض الشروط التي تتدخل في أمور سيادة الدولة تحت طائلة إما شروطنا وإلا..، وهكذا تم خلق مصائد للديون بحيث أصبحت ميزانيات العديد من الدول النامية تخصص جزءاً هاماً منها لسداد فوائد الديون لا أصولها، حيث يجبر المقترضون من قبل الدولة والقوى الدولية على تحمل تكاليف سداد الدين مهما كانت نتائج ذلك على حياة ومعيشة ورفاه السكان المحليين فإذا اقتضى ذلك التخلي عن الأصول لصالح الشركات الأجنبية بأسعار “مــزاد الحرائق” بيع السلع المتأذية بالحرائق فليكن !! وهو أسلوب من الاستعمار الجديد الذي تم تصميمه بعناية [30].
يقول القرصان الاقتصادي جون بيركنز: وهكذا نقدم القروض لهذه البلاد يقصد الدول النامية ونعرف تماماً أنها لن تستطيع مطلقاً سدادها، ونحن لا نريد في الحقيقة لهذه الدول أن تسدد ديونها، لأن عدم السداد هو ما يمنحنا النفوذ، وهو ما يضمن لنا ممارسة دور المرابي اليهودي في رواية تاجر البندقية [31].
وكنتيجة لذلك أجبرت جميع البلاد النامية على البقاء طوال القرن العشرين تقريباً بالاعتماد على المعونات الدولية، والقروض الرسمية والائتمانات من المؤسسات الخاصة، ومن ثم تهاوت اقتصاداتها إلى حالات من الإعسار والإفلاس القومي لدى توقف تلك الموارد، والآن فإن بقاءها يعتمد بشكل أساسي على أعمال الخصخصة، وعلى قدر كبير من رأس المال سريع التطاير الذي تولده المضاربات في السوق المالي الكوكبي [32].
لقد كان مجموع الديون طويلة الأجل على الدول النامية عام 1970م حوالي 62 مليار دولار، وزادت سبع مرات فوصلت إلى 480 مليار دولار سنة 1980م ثم زادت 32 مرة لتصبح 2000 مليار دولار سنة 1996م ليصبح الاقتصاد العالمي موجهاً لعملية تحصيل الديون [33].
وبلغت عام 2004م أكثر من 2,5 ترليون دولار، كما يمثل عبء خدمة الديون أكثر من 375 مليار دولار سنوياً وهو أكثر مما يمكن أن ينفقه العالم الثالث على الصحة والتعليم، وأكثر عشرين مرة مما تتلقاه البلاد النامية سنوياً من معونات أجنبية [34].
2 السيطرة الخشنة؛ إما مباشرة أو عن طريق الوكلاء العسكريين:
ويتبادر سؤال: ماذا لو فشلت وسائل الهيمنة والاستعمار الاقتصادي الجديد؟
الجواب في مقولة القرصان الاقتصادي؛ حينما يفشل قراصنة الاقتصاد يأتي دور ثعالب المخابرات أو كما يصفها البعض بالرجوع إلى تقنيات السيطرة والضبط القديمة التي استعملتها الحكومات البعيدة وتتراوح هذه التقنيات بين الغزو والاحتلال والأساليب السرية الأخرى لممارسة التسلط عن طريق الاتفاقيات، وذلك بعد أن تعجز الوسائل الأحدث عن طريق خلق الاعتماد الاتكالي لتلك الدول والدويلات على المعونة الخارجية الكبيرة الحجم [35].
ويمكننا أن نتكئ على الحكمة البليغة التي أكدت مصداقيتها التجارب الطويلة المريرة وهي أن الدساتير المدنية تجلب الانقلابات العسكرية، هكذا تعودنا في بلدان العالم، ونحن كعرب ومسلمين في قلبه، خصوصاً لو جلبت هذه الدساتير سلطة مستقلة عن الغرب، المدبر الأول لمعظم انقلابات العالم المناهضة للاستقلال وخصوصية الهوية الدينية أو القومية أهم انقلابات الإقليم كان بسبب إقرار دستور مدني يطلق الحريات السياسية ويحفظ هوية الشعب [36].
والشواهد التاريخية تثبت أن أمرين صنوان هما نتيجة وهدف الانقلابات المصنوعة أمريكياً: إبطال الدساتير والحكام المدنيين، وفتح البلاد للاستثمارات والشركات الأجنبية ونهب الثروات، ففي عملية الإطاحة بحكومة مصدق في إيران التي نفذتها السي آي إيه، وكان قد وصل لرئاسة الوزراء بانتخابات شرعية كانت النتيجة أن شركة النفط الإيرانية التي كانت مملوكة 100% لبريطانيا آلت ملكية نصفها للشركات الأمريكية، وأحدثت انقلاباً في قواتيمالا بسبب إصلاحات التأميم في مجال ملكية الأراضي والتي طالت أراضٍ لشركة الفواكه المتحدة الأمريكية وفي اندونيسيا أغضب سوكارنو أمريكا لحمايته اقتصاد بلده وإعادة توزيع الثروة وطرده صندوق النقد والبنك الدوليين لكونهما غطاء لمصالح الشركات الغربية المتعددة الجنسيات وكانت النتيجة أن دعمت انقلاب سوهارتو العسكري وأوقع مذبحة واعتقالات للآلاف وتحولت البلاد لأكثر البيئات احتضاناً للشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات ومثل ذلك في تشيلي والأرجنتين ومصر وسوريا [37].
كل ذلك يؤكد أن الاستعمار الأمريكي بحكم تكوينه يعادي أي ثورة وحكم يحرر قوى الشعب ويحقق تغييراً جذرياً في النظام الاجتماعي والسياسي بما يكفل تعبئة وإطلاق طاقة الأمة في بناء الدولة والمجتمع وتصفية المصالح الاستعمارية؛ بما فيها اقتطاع حصة من السوق العالمية التي تستثمرها هذه المصالح.. وهذا هو جوهر الصراع بين الدول الاستعمارية والدول المستعمَرة [38].
وكلما كانت نتائج خروج وتمرد الدولة “الطرف” أخطر والخسائر أكبر كلما زاد إصرار دول المركز وتصعيدها الجنوني حتى لو آل إلى التضحية بالتقاليد الديمقراطية والكشف عن المكنونات الدينية.
يقول أحدهم: عندما تزداد القوة النسبية للدولة الصاعدة فإنها تحاول تغيير قواعد حكم النظام الدولي، وتقسيم دوائر النفوذ، والأهم من ذلك التوزيع الدولي للأراضي، ورداً على ذلك تواجه القوة المسيطرة هذا التحدي بإجراء تغييرات على سياساتها التي تحاول إعادة التوازن إلى النظام، ويكشف السجل التاريخي أنها إذا فشلت في هذه المحاولة فسيحل انعدام التوازن عن طريق الحرب “!!”، ثم يستأنف مسوغاً هذا السلوك في معظم الحالات التي مررنا بها كانت الثقافات ذات الحضارة المتدنية والقوة الاقتصادية الصاعدة تهاجم أكثر الثقافات حضارة في أثناء تراجعها الاقتصادي [39].
ما هي “خطايا” تركيا حيال ذلك؟
مقابل ما أشرنا له بإفاضة حول الأطر والقيود المحكمة التي جعلتها دول المركز على دول الأطراف كي لا تخرج خارج مستحكمات الهيمنة؛ فما الذي فعلته تركيا أردوغان تجاه ذلك، بحيث اعتبره الغرب خطيئة لا تغتفر:
في الواقع أنه مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002م تغير المشهد التركي تدريجياً، سياسياً واقتصادياً، وقبل ذلك ثقافياً وهوياتياً، حيث عمدت خبرة العدالة والتنمية فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية وبناء الديمقراطية والعلاقة بين الدولة والدين، إلى الانتقال الهادئ من النموذج التحديثي الذي تقوده الدولة ويحميه الجيش بناءً على النهج الكمالي القائم على الحداثة بواسطة التغريب الثقافي والعلمانية الراديكالية إلى نموذج آخر يجمع بين استحقاقات الديمقراطية الانتخابية والعلمانية المتسامحة غير التدخلية؛ من جهة والهوية الوطنية المستندة على جذور حضارية إسلامية من جهة أخرى.
لتصبح تركيا هي الدولة الإسلامية الوحيدة في المنطقة التي نجحت في خلق اقتصاد تنموي ذاتي مستدام يقوم على حرية السوق، لا يعتمد على اقتصادات ريعية، وإنما يعتمد على قطاعات إنتاجية حديثة تقوم على التصنيع وفقاً لمقولات اقترابات التحديث، من دون أن يصطلي بالآثار السلبية للتحديث من قِبَل الارتهان السياسي للقوى الغربية [40].
ومن جانب آخر وبعد ثلاثة عقود من التعامل مع صندوق النقد الدولي، كانت تركيا خلالها إحدى أكثر الدول مديونية من بين 64 بلداً، بإجمالي 50 مليار دولار من الحكومات التركية المتعاقبة، نجحت تركيا تحت حكم العدالة والتنمية في تسديد تلك الديون على مدى 11 عاماً لتصبح دولة غير مدينة للصندوق منذ أوائل 2013م، بل إن الحكومات التركية قامت بتقديم 5 مليارات دولار لتعزيز احتياطات الصندوق المالية [41].
وتنطلق العلاقات السياسية التركية تحت قيادة حزب العدالة والتنمية من رؤية مفادها أن تركيا دولة محورية مركزية ذات عمق استراتيجي متعدد الأحواض الجغرافية، وذلك بعد عقود من رؤية تركيا “الكمالية” لنفسها على أنها دولة “طرفية” تدور في الفلك الأمريكي الأوروبي في سياق حرص النخبة التركية الكمالية للانسلاخ من تاريخها العثماني الإمبراطوري ذي الخلفية الإسلامية [42].
وتطمح تركيا إلى لعب دور عالمي وتعيد تشكيل الوضع السياسي في الشرق الأوسط، وتتحدى فكرة واشنطن التقليدية عن نفسها بوصفها الوسيط الذي يمثل الملاذ الأخير في المنطقة.
ومما يشعر بالخطورة المستفزة للحنق عند الأمريكيين والأوربيين هو ذلك النموذج التركي في الانتقال من الحكم الاستبدادي والخلاص منه – مع التركيز على النمو الاقتصادي وعلى القيم الاجتماعية المحافظة – وماله من جاذبيه كبيرة بالنسبة للدول التي شهدت تحولات عبر الربيع العربي، فهاهنا دولة مسلمة أضحت أكثر ديمقراطية حتى مع تعزيزها لمكانتها الدينية [43].
وبكلمـة: حينما نجمع المشهد بهذه الطريقة ونجمع زواياه وأطرافه تكتمل الصورة، ونفهم الدوافع الحقيقية للغرب، ونستطيع أن نفسر الانقلاب في الموقف الأوروبي إلى الدرجة التي جعلت زعماء أوروبا يجتمعون في الفاتيكان ويصطفون جميعهم خلف البابا لتكون تلك الصورة أبلغ من آلاف الرسائل، ونستطيع كذلك أن نطلق الخيال لما يمكن أن يحدث مستقبلاً سواء مع تركيا أو مع من يسلك طريقها.
[1] مقال: تحتشد أوروبا فهل يجهز انقلاب قريب / أمير سعيد / موقع المسلم
www.almoslim .net/node/277445
[2] المرجع السابق.
[3] أطلس العلوم السياسية / المكتبة الشرقية: 179.
[4] نظريات في العلاقات الدولية / د.يوسف الصواني 59/74
ونظريات العلاقات الدولية / سكوت بورتشيل وزملاؤه ص /52-56.
[5] العلاقات السياسية الخارجية، دراسة في الأصول والنظريات / إسماعيل صبري مقلد / ص: 68-69.
[6] مقال: ازدواجية المعايير الغربية في سياستها تجاه المنطقة العربية / بشير زين العابدين / مركز أمية للبحوث والدراسات
http://www.umayya.org/publications-ar/11678 .
[7] انظر: السابق.
[8] الانتفاضة والتتار الجدد:16.
[9] انظر: صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث إسلامي / جعفر شيخ إدريس: 14.
[10] أمريكا تريد والله فعال لما يريد / د.عبد الحي زلوم: 55، 225.
[11] الدولة المستحيلة / وائل حلاق:257.
[12] الغرب أصل الصراع / عامر عبد المنعم / سلسة رؤى معاصرة / العدد: 2 / ص:38.
[13] الحرب الصليبية الثانية، حرب الغرب المستعرة مجدداً ضد الإسلام / جون فيفر: 5.
[14] حضارة العرب / جوستاف لوبون:21-22.
[15] جون فيفر / مصدر سابق: 174-175.
[16] تغطية الإسلام / إدوارد سعيد / ص:70-71.
[17] حقول الدم، الدين وتاريخ العنف / كادين أرمسترونغ:431.
[18] جعفر شيخ إدريس / مصدر سابق:46-47.
[19] أرمسترونغ / مصدر سابق:472.
[20] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا / محمود شاكر:42.
[21] التعصب الأوربي أم التعصب الإسلامي، مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية / تعليق: محمد العبدة ص:28.
[22] تفتيت الشرق الأوسط، تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي / د.جيرمي سولت / ص:69.
[23] جون فيفر / مصدر سابق / ص: 50.
[24] أوربا والعالم الإسلامي تاريخ بلا أساطير / هنري لورانس وزملاؤه / ص: 430.
[25] الأمة والخروج من التبعية؛ تقرير البيان الاستراتيجي / الإصدار الرابع عشر 1438/ ص: 85-86،
وانظر: جيوبولوليتك؛ عندما تتحدث الجغرافيا / جاسم سلطان / ص: 46-48.
[26] الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتصادي / جون بركنز / ص:103.
[27] عبد الحي زلوم / مرجع سابق / ص:42-43.
[28] انقراض العالم الثالث؛ أسطورة التنمية وقوى التدمير الخفية / إزوالدو دو ريفرو / ص:31.
[29] انظر: جون بيرنكر / مصدر سابق:193-194.
[30] الوجيز في تاريخ النيوليبرالية / ديفيد هارفي / ص:44، 220، ومستقبل البترول العربي في كازينو العولمة / د. عبد الحي زلوم / ص:85.
[31] جون بيركنز / مصدر سابق:236.
[32] انقراض العالم الثالث / سبق ذكره / ص:115.
[33] مستقبل البترول العربي في كازينو العولمة / عبد الحي زلوم / ص:123.
[34] جون بركنز / مصدر سابق / ص: 25.
[35] جيرمي سولت / مصدر سابق / ص:13.
[36] مقال أمير سعيد / سبق ذكره.
[37] عقيدة الصدمة؛ صعود رأسمالية الكوارث / نعومي كلاين / ص99/103/107/116/127-129/236-238.
[38] ثورة يوليو الأمريكية /محمد جلال كشك / ص:173.
[39] الحرب والتغيير في السياسة العالمية / روبرت غيلبن / ص:228-229.
[40] تقرير البيان الاستراتيجي / سبق ذكره / ص:186.
[41] السابق:190.
[42] السابق:191.
[43] جون فيفر / مرجع سابق:204-205.
[39] الحرب والتغيير في السياسة العالمية / روبرت غيلبن / ص:228-229.
[40] تقرير البيان الاستراتيجي / سبق ذكره / ص:186.
[41] السابق:190.
[42] السابق:191.
[43] جون فيفر / مرجع سابق:204-205.