تقييمات الإخوان.. الطريق الطويل إلى الجرأة
عبد الحميد الجلاصي
ناشط سياسي تونسي
في السنوات العشرين الأخيرة، مرت بنا أحداث جسام كان من شأنها أن تهز وعينا، وأن تعيد طرح أسئلتنا التأسيسية بما فيها تلك الأكثر جذرية. ولكن يجب أن نُقرّ بأننا لا نحسن الوقوف أمام المرآة للمراجعة، كما لا نحسن استثمار الفرص للتقدم، بل نحسن التبرير والهروب إلى الأمام.
آلاف المسؤولين الكبار غادروا المواقع الأولى ولم نقرأ اعترافا، ولا نورنا أحد بكيفية اشتغال ماكينة الاستبداد.
يساريون تحولوا من دكتاتورية البروليتاريا -بمنطقة ليس فيها بروليتاريا- إلى الديمقراطية “البرجوازية”، دون توضيح هذا الانتقال لنتأكد من صلابته. ووحدويون قايضوا الديمقراطية والكرامة بأولوية الوحدة والتحرير فازددنا تشظيا، ولا يزالون ضمن نفس الأفق الفكري.
وهذا لا ينفي جهود مفكرين وساسة تمردوا على السائد وقاموا بقراءات جريئة لبنيتنا الذهنية أو لتجاربهم الخاصة، ولا جهود حركات قامت بمراجعات جريئة وخاصة في المغرب العربي. ولكن خطافا واحدا لا يصنع الربيع.
ولكن أخيرا، وفي ظروف شديدة الحساسية والتعقيد؛ صدرت وثيقة تقييمية للإخوان المسلمين. نشرها أصحابها لتحريك السواكن، ولكن التقبل كان ضعيفا، وقد اتجه -إن حصل- الوجهة الخاطئة. الوثيقة شركت مهتمين من خارج الفضاء التنظيمي، وتجنبت تحميل المسؤوليات بسبب تعذر مشاركة فاعلين أساسيين في صياغتها.
لا يمكن إلا أن نرحب بالوثيقة، فهي مبادرة شجاعة لكسر حاجز الصمت، ولأنسنة العمل الجماعي. وهذه خطوة جريئة تدشن مسارا طويلا. ولكن ما يهم المتابعين لتطور الأفكار والمشاريع الكبرى -من غير المصريين- هو التفاعل مع فلسفة الوثيقة وخلاصاتها الكبرى، من حيث هي إعادة قراءة للتاريخ في سياقيه الذاتي (الجماعة) والموضوعي (المحيط بدوائره المختلفة).
– السياق الذاتي: نصف الجرأة: هناك فكرة جوهرية تشق النص مفادها أن الجماعة حركة مجتمعية، يغلب عليها الطابع الخدمي بما يجعلها تؤدي وظيفة “تبريد حدة الاحتجاج الشعبي”، ولها اهتمامات سياسية هي نفسها في خدمة المجتمعي بهذا الفهم، “فكانت الانتخابات البرلمانية تنطلق من منطلق اجتماعي صرف، غرضه توسيع أطر التعامل مع المجتمع”.
إذن هناك إشكال هوية بالنسبة للجماعة ترسخ قبل الثورة، ولم يعالج بعدها. ما أسباب ذلك؟ نجد في النص نصف جرأة لأن الوثيقة سقطت ضحية لطفها، في حين أنه لا برء دون ألم.
ثمن التردد: أسئلة المراجعة طرحت على الساحة الإخوانية عقب محنة الستينيات مع تجارب مثل مجلة “المسلم المعاصر”، ودعوات التيار النقدي (محمد فتحي عثمان، عبد الحليم أبو شقة…)، وسلسلة “أين الخلل” في مجلة “الأمة”، وجيل الجامعات المصرية أواسط السبعينيات، وتمرد الدكتور حسن الترابي، وغيرها.
ولكن ذلك لم يؤثر كثيرا في الاتجاه العام، فتراكمت الأسئلة وتم التعامل معها بأسلوب التجاهل أو التسكين، ليعيدنا تقييم أداء سنوات الثورة إلى أسئلة بنيوية حول الفرصة المهدورة لإعادة التأسيس الثاني. وللتردد أو الغفلة عن تغير الأحوال ثمن يدفع دائما.
فخ الاستصحاب: بعد الثورة لم تتغير نظرة الجماعة لنفسها جوهريا، فهي الحركة المجتمعية ذات الاهتمامات السياسية.
الشارع وحده فهم الوضع الجديد لأنه كان فاعله المباشر. ولكن الفضاء المنظم بمجمله لم يصدق، وبقي يتعامل مع الوضع ضمن إحداثيات السقف القديم. من هنا كانت محدودية الإصلاحات في إعادة توزيع الأوزان والعلاقات في الجماعة بين السياسي والمجتمعي، في صيغة أقرب لأوضاع التسعينيات منها للأوضاع الجديدة.
ورغم الانتخابات والرئاسة نفسها فإن العقل استمر في الاشتغال في الهوامش. مبارك لم يغادر! ولذلك لم يتم السعي الجدي لتحييد القوى المكرسة للسلطوية وخاصة الجيش. ولكن هذه الإجابات لا تقنعنا لنتساءل بعدها: ولماذا حصل التردد والاستصحاب؟
إعاقات القمع والتفتيش: أحكام كبرى ترد في النص تقذف بنا في المساحة بين البسيكولوجي والسياسي. تضعنا في مساحة “الألم” التي تتجاهلها السياسة والفكر، ولكن تعترف بها الحياة: “أصبح البطش الذي انتهجته النظم ضد الجماعة بمنزلة الحارس للخطوط الحمراء التي وضعتها الجماعة ابتداءً قيودا على نفسها”.
لا بد أن نعيد كتابة تاريخ الاستبداد عندنا؛ فكتاب عبد الرحمن الكواكبي كان لطيفا جدا، والأدب يرسم غالبا معاناة فردية. الاستبداد يكيّف حتى أشد الخصوم عداء له، فيستبطنون الرقابة وينضبطون للمساحات والأسقف، فتخرج الانتفاضات والثورات من الهامش الاجتماعي والحراك الطلابي المتمرد، لأن الفضاء المنظم -حتى ذاك الأشد راديكالية- تم ترويضه وتقليم أظافره.
ولكن قولبة الإخوان كانت قولبة مزدوجة، تقاسمها القمع السلطوي الغليظ ومحاكم التفتيش الحداثية التي أبدعت نظرية “المخ والعضلات”.
القمع الغليظ والقمع الناعم يوّلدان تشوهات عميقة، فالأول يخيرك بين الغلو والانكفاء، والثاني يخيرك بين الغلو والتجمّل بغاية الحصول على الاعتراف. والهرولة وراء اعتراف الجلّاد كانت أهم معضلة واجهت قوى التحرر.
– السياق الموضوعي: الجرأة الغائبة: النص المسكون بهاجس الموضوعية سقط في مطب التبسيط.
نرى غرفة مغلقة فيها الإخوان، ولا نرى العالم من حولهم في قبوله أو رفضه. لا نسمع شيئا عن كامب ديفد، ولا عن تنازع شرعية الإسلام مع الجار الشرقي، ولا عن خصوصية انتقالات الربيع العربي التي تصطدم بتوجس دولي، بسبب وجود قوى الإسلام السياسي. لا نسمع شيئا عن الدولة العميقة والإعلام والجيش والمنتظم السياسي المناهض.
الهروب من التبرير والجري وراء الاعتراف يفقدان الوثيقة الموضوعية. وقد تكمن الحقيقة ما بين التبرير وجلد الذات.
أخيرا؛ نأمل أن تكون الوثيقة فاتحة لتفكير نقدي ومراجعات عميقة. ونأمل أن يكون أصحابها أكثر جرأة في التعامل مع الذات. فالتجديد في المضامين والمناهج والأوعية والسياسات استحقاق حقيقي، بقطع النظر عن الإكراهات الخارجية، وولوجه ينم عن شجاعة سياسية وأدبية وحضارية.
وهو تدارك لاستحقاقات الماضي وتفاعل مع أوضاع ما بعد الثورات، وثقة في الشعب، وتجاوز لعقدة “الخوف من” و”الخوف على”، ولعقيدة الوصاية على الدين والناس، ولعقيدة الغربة والمجتمع الموازي.
ونأمل أن يكونوا أكثر جرأة في الحديث عن الأطراف الفاعلة؛ فالموضوعية الزائفة لا تجر إلا إلى الكوارث ومزيد من الهزائم. ونأمل أن ينظروا في الفرص التي تتيحها حتى أشد الأزمات قساوة.
إن ما يحصل منذ شهرين في الخليج هو في العمق تدافع بين مشروع التحرر الوطني والقومي ومشروع ترسيخ التبعية. أفلا تكون هذه مناسبة للحالة التي ينتمي إليها الإخوان لاكتساب مزيد من الجرأة في دفع التجديد الفكري، والتمايز عن المنظومات السلطوية التي تتستر بالدِّين وتوظف المؤسسة الدينية لتكريس ديمومتها؟
ونأمل أن تتشجع بقية التيارات الفكرية والسياسية على القيام بمراجعاتها الخاصة. حينها سنجد أن قيم العدالة والديمقراطية والتنمية والوحدة تجمعنا، مهما كانت المرجعيات التي ننطلق منها. وسنجد أنه لا توجد وصفات قابلة للتصدير، بل مسارات مبدعة وجريئة ومتفاعلة مع خصوصياتها. وفِي السياسة ينتبه العقلاء للأهداف المجمِّعة أكثر من انتباههم للمرجعيات التي قد تفرق.
المدصر : الجزيرة.نت