ثورة الأنبياء

10

الجمعة،15 شعبان 1435الموافق13 حزيران/يونيو2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
أبو عبدالرحمن الإدريسي
هي قيمٌ ثائرةٌ حثّها الأنبياء في وجه الطغيان الشيطاني، والتعنّت البشري؛ ذلك الطغيان الذي حكى ربنا عنه من فوق سبع سماواتٍ، حين خاض فيها الأنبياء وتزعّموا ثوراتٍ بكل ما تحمل الكلمةُ من معنى، فالإسلام نفسه جاء لتحرير الإنسان والجماعاتِ والدُّول من سجن القوميات والديكتاتوريات الطاغوتية العَقدية، إلى عدل التوحيد والشريعة ورحابتهما .
لقد سطّر الإسلام أسماءً خالدةً لزعماء هذه الثورات، بدأت بنوحٍ وانتهت بمحمّدٍ – صلوات الله عليهما – ، وبرزت أسماء عديدة بينهما من أمثال : هودٍ و صالحٍ، وإبراهيم، وداود، وسليمان، وشعيبٍ، وموسى، وعيسى …– صلوات الله عليهم وسلامه-، وآخرون لم تذكرهم النصوص السماويّة، وإن كانت تشهد بآثارهم الأحاديث الشرعية، ومرويّات أقوامهم . وكلهم ولا شكّ لهم مواقفهم الخالدة، في معركة التحرير من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد.
إن كلُّ قصّةٍ ثوريّة، تعرض وحدانيةَ الله مقابل تعدد الأصنام والطواغيت، الذين قهروا الناس وعبَّدوهم، واستغلُّوهم، وتُظهر –في المقابل- ما لاقوهُ من الصدود والعصيان، والهجوم والإعراض، فهذه قصّة نوحٍ حين قال تعالى : {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف : 59)؛ وهذا هودٌ : {وإلى عادٍ أخاهم هوداً قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إلا تتقون} (الأعراف : 65) ؛ وهذا صالح قال : {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف : 73) ؛ وهذا شعيبٌ : {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف : 85)، وغيرهم من الأنبياء – صلوات الله عليهم ورحمته – كلهم يبدؤون بجانب العقيدة في ثورتهم على معتقدات القوم، ثم يقرنونها بالأخلاق والمكارم، لكنهم كانوا يعانون من الصدود، فتأمل قول نوح : {والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوحٌ رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبّارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وَدّاً وسواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} (نوح : من 19 إلى 23) .فتلك إجابة قومه الذين اتبعوا سيدهم الغني، وفضّلوا عبادة الأصنام على عبادة الله الواحد، وكل نبيٍّ تصارع مع الملأ من قومه حجاجيّاً وفكريا؛ فأجابهُ قومه : {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين} (الأعراف : 60). وفي قصة موسى قالوا : {قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم} (الأعراف: 109).
وأجابوا نبيّ الله هوداً : {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} (الأعراف : 66 ).. وردّوا على نبي الله محمد – صلى الله عليه وسلم – : {قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} (يونس : 2) .
هذا الإعراضُ وهذه الاتهاماتُ عانى منها جميعُ الأنبياء دون استثناء، لأنهم أتوا بالإسلام؛ تلك الثورة التوحيدية التي تُدخل البشرية في عهدٍ جديد، وتنفض غبار الكفر والإلحاد عن أذهان الناس القريبِ منهم والبعيد .
أما الصدود فمردُّه إلى عوامل اجتماعيّةٍ ونفسيةٍ، فالإنسان أساس هذا الطغيان؛ حيث أن أباطرة القوم كثيراً ما يرون الأنبياءَ أعداءً لهم، لأنهم مجموعةٌ من المتنوّرين والمصلحين الذين يريدون الخير للناس، وفي فتحِ العيونِ على الحقّ وإرشادهم إلى سبيل الرّشادِ تهديدٌ لأولئك، ولمراكزهم الاجتماعية القائمة على استغفال المستضعفين، ونشر الجهل والخرافاتِ بينهم، وربط الشعوب والأتباع بهم، إلى حد ادعاء الربوبية كما قال فرعونُ : {أنا ربكم الأعلى} (النازعات : 24).
” فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات : 24).. وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء. وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذ من الذباب شيئاً! ” (1)
وهكذا كلُّ أعداء الأنبياء، يتراوحون ما بين فرض نظرتهم للكون على الناس، أو ادعاء الألوهية الصريحة أو المجازية، فيُبلورون آلياتٍ نفسيةٍ تبريريّةٍ Mécanismes psychologiques apologétiques، كي يرفضوا دعوة الخير، ويصدّون بذلك عن الحق من ربهم، ويفتنون العامة باتّباعهم، فهذا غنيٌّ لا يريد أن يعطي للفقراء من ماله، وذلك كاهنٌ يريد الحفاظ على منزلته الاجتماعية التي تكفلها الخرافات، وذاك ملكٌ يخاف على ملكه من نبيٍّ متَّبعٍ .
و الإنسان في الإسلام، حُرّر وكُرّم في ظلّه من كلّ كهنوتٍ دينيٍّ وطاغوتيٍّ، أو سلطةِ الهوى البشري، فالإسلام ليس دعوةً تبشيريةً فحسب، بل إنه حركةٌ اجتماعية سياسيةٌ بها تتحدّدت معالمُ الثورة التاريخية الكبرى. وشمولُه هو الذي جعله يكتسحُ كل أشكال العبودية إلى وقتنا المعاصر . (2).
إن الأمّة مطالبةٌ في كل وقتٍ وحينٍ، إلى التّعامل مع كل المذاهب الفكرية الوافدة، والأديان الأخرى القادمة، بمنطق الثورة الفكرية الدينية تلك، وأن تتمسّك في كل وقتٍ وحينٍ بتراث أولئك الأنبياء والمُرسلين، المحفوظ في القرآن والسُّنة جيلاً بعد جيل؛ فالشيطان لن يهنأ له بالٌ، ولن يغمض له جفنٌ مادام على الأرض أمةٌ موحِّدةٌ، وسيستمرُّ بإيفاد البعثات، وتصدير القيم والعادات، عبر الوسائل السمعية البصرية، والكتابات الفكرية، مستخدماً الأَدْلجة (3) كوسيلةٍ ناجعةٍ لغسل الأدمغة، وإخضاع الناس عقليًّا وجسديّاً.
هوامش المقال
1- تفسير ” في ظلال القرآن ” لسيد قطب، تفسير الآية 24 من سورة النازعات.
2- انظر مقالنا الموسوم بـ ” مزايا الإسلام على الأديان “، وكذا ” الغاية من إبطال الوثنية ” على الشبكة الإسلامية ” إسلام ويب” .
3- الأدلجة هي مصطلحٌ مشتقٌّ عن الإيديولوجيا Idiologie، وتعني القيام بضخِّ مجموعة من القيم للناس مرتبطةً بمذهب فكريٍّ أو دينيٍّ معين، وهي مرادفةٌ لمصطلح التعبئة الإيديولوجية l’emballage idéologique.

اقرأ أيضا  فلسطين تقاضي بريطانيا.. خطوة متأخرة قد تصحح أخطاء الماضي

المصدر: إسلام ويب

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.