حقوق الجار
الأربعاء 27 جمادى الأولى1436//18 مارس/آذار 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فإن من محاسن هذا الدين العظيم التي جاء بها: الوصية بالجار، والمجتمع كله عبارة عن أُسر كثيرة يتجاور بعضها مع بعض، فإذا أحسن كل منهم عشرة جاره صلح المجتمع، وساده الحب، والرحمة، والتعاون، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ﴾ [النساء: 36].
روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»[1].
قال العلماء: «الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فالجار الذي له ثلاثة حقوق وهو الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم، وأما الذي له حقان: فالجار المسلم له حق الجوار، وحق الإسلام، وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك»[2]، قال ابن عباس: الجار ذي القربى، أي: القريب؛ والجار الجنب، أي: الغريب[3].
قال ابن حجر: «واسم الجار يشمل المسلم، والكافر، والعابد، والفاسق، والصديق، والعدو، والغريب، والبلدي، والنافع، والضار، والقريب، والأجنبي، والأقرب دارًا، والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها، ثم أكثرها وهلم جرًا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيُعطى كل حقه بحسب حاله»[4].
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: «حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية، والسلام، وطلاق الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت، أو معنوية»[5].
فعلى سبيل المثال عدم رمي الأوساخ بجوار بيته، أو إيقاف السيارات أمام منزله إذا كان ذلك يؤذيه، أو تتبع عوراته، أو النظر إلى محارمه، أو غير ذلك مما يسبب له الأذى، ولا يكفي هذا بل لا بد من تحمل الأذى الذي يصدر منه.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ»، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[6]. والبوائق: جمع بائقة وهي الداهية، والشيء المهلك، والأمر الشديد الذي يُوافي بغته.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»[7].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان إلى الجار سبب لدخول الجنة، كما أن إيذاءه سبب لدخول النار. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ[8] مِنَ الَأْقِطِ[9]، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ»[10].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرمة الجار أعظم من حرمة غيره من الناس، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟» قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصحَابِهِ: «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشَرَةٍ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ»، قَالَ: فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟» قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ»[11].
وفي الصحيحين من حديث عبد الله قال: سَأَلتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنبِ أَعظَمُ عِندَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»[12].
ومن حقوقه أيضًا: الإحسان وبذل المعروف له، وإكرامه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي شريح العدوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»[13]. وفي رواية: «فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ»[14].
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على إطعام الجار، فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ»[15].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط إليه معروفك، وتكف عنه أذاك[16].
قال شراح الحديث: «ففي الحديث الحض على مكارم الأخلاق، والإرشاد لمحاسنها لما يترتب عليه من المحبة، والألفة ولما يحصل به من المنفعة، ودفع الحاجة والمفسدة، فقد يتأذى الجار برائحة قدر جاره وعياله وصغار ولده ولا يقدر على التوصل إلى ذلك فتهيج من صغارهم شهية الطعام، ويقوم على القائم بهم الألم والكلفة، وربما كان يتيمًا، أو أرملة، فتكون المشقة أعظم، وتشتد منهم الحسرة والألم، فلا أقبح من منع هذا اليسير المترتب عليه هذا الضرر الكبير، وكل ذلك يندفع بتشريكهم في شيء من الطبخ»[17].
ومنها: بذل النصيحة له في دينه، ودنياه، والمشورة عليه بالخير، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [التوبة: 71].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جرير بن عبد الله قال: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ[18].
وروى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»[19].
ومن أهم ذلك: حثُّه وترغيبه على المحافظة على الصلاة في جماعة المسلمين، وكذلك تحذيره من تقصيره في تربية أولاده، وإهماله لمن تحت يده، وتحذيره من اقتناء آلات اللهو، والقنوات الفضائية الفاسدة، وبيان خطر جلساء السوء، ومصاحبتهم.
ومنها: زيارته، وتفقد أحواله والسؤال عنه، وإجابة دعوته. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» – ذكر منها – «وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ»[20]. هذه الحقوق على وجه العموم، ويتأكد ذلك في حق الجار، وهو نص قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَليُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ»[21].
وكلما كان الجار أقرب كان حقه أعظم. روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِيَ؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»[22].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»[23].
ولا يحتقر المسلم الهدية التي يهديها لجاره وإن كانت قليلة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ»[24].
ومنها: إظهار محاسنه، وستر عيوبه وخاصة عند الأهل، والأولاد، فإن ذلك ينتج عنه انتشار المحبة، والمودة بين الجيران، وهذه الخصلة السابقة في غاية الأهمية، ليكونَ ذلك داعيًا إلى عدم المجاهرة بالأخلاق السيئة.
قال الغزالي رحمه الله مُلَخِّصًا حقوق الجار: «أن يبدأه بالسلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا في مصب الماء في ميزابه، ولا يضيق طرقه إلى الدار، ويستر ما يتكشف له من عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظته عند غيبته، ولا يسمع عليه كلامًا، ويغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف بولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه، ودنياه»[25].
ومن القصص التي تُذكر في هذا المجال، ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ»[26]. وفي رواية: فَلَمَّا مَاتَ قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»[27].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] صحيح البخاري برقم 6015، وصحيح مسلم برقم 2625 واللفظ له.
[2] فتح الباري (10/ 442) بتصرف. وقد رُوي في هذا حديث، ولا يصح.
[3] تفسير الطبري (3/ 2311 – 2313).
[4] فتح الباري (10/ 441 – 442).
[5] فتح الباري (10/ 442).
[6] صحيح البخاري برقم 6016، وصحيح مسلم برقم 46.
[7] صحيح البخاري برقم 6136، وصحيح مسلم برقم 47.
[8] الأثوار: جمع ثور، وهي قطعة من الأقط.
[9] الأقط: بفتح الهمزة وكسر القاف وبضمها أيضًا، وبكسر الهمزة والقاف معًا وبفتحهما، هو شيء يتخذ من مخيض اللبن الغنمي.
[10] (15/ 421 – 422) برقم 9675، وقال محققوه: إسناده حسن.
[11] (39/ 277) برقم 23854، وقال محققوه: إسناده جيد.
[12] صحيح البخاري برقم 4477، وصحيح مسلم برقم 86 واللفظ له.
[13] صحيح البخاري برقم 6019، وصحيح مسلم برقم 47.
[14] صحيح مسلم برقم 48.
[15] صحيح مسلم برقم 2625.
[16] الآداب الشرعية (2/ 15)، لابن مفلح.
[17] دليل الفالحين (3/ 175)، بتصرف.
[18] صحيح البخاري برقم 481، وصحيح مسلم برقم 2585 واللفظ له.
[19] برقم 55.
[20] برقم 2162.
[21] صحيح مسلم برقم 48، وروى البخاري بعضه.
[22] برقم 2259.
[23] صحيح البخاري برقم 2463، وصحيح مسلم برقم 1609.
[24] صحيح البخاري برقم 2566، وصحيح مسلم برقم 1030.
[25] إحياء علوم الدين (2/ 213)، مختصرًا.
[26] صحيح البخاري برقم 1356.
[27] مسند الإمام أحمد (3/ 260)، والرواية له.
ــــــــــــــــــــــــ
– الألوكة