حق الإحسان إلى الخلائق حق مُركب

الإثنين21 شعبان1436//8 يونيو/حزيران 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
خالد حدوي
الحمد لله رب العالمين المحسن إلى عباده تفضلًا منه وإحسانا ،والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، وعلى آله الأطهار وأصحابه مصابيح الهدى والأنام.
إن حق الإحسان في الشريعة الإسلامية حق أصيل ،ومن أجل الوقوف على أصالته وما امتاز به من مزايا دخلنا رياض الإمام العز بن عبد السلام لنقف على مُميزات هذا الحق.
الإحسان عند الإمام العز بن عبد السلام
يُعرف الإمام العز بن عبد السلام الإحسان إلى الخلائق في كتابه (الفوائد في اختصار المقاصد) : بأنه عبارة عن جلب المنافع إلى الخلائق أو دفع المضار أو بهما. ([1]) وفي كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) ذكر أن الإحسان في الدنيا يكون بالإرفاق ،ودفع المضار، وكذلك إسقاط الحقوق ،والعفو عن المظالم.([2])
وهكذا تبين أن العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى- ربط حق الإحسان بروح الشريعة وجوهرها وهو جلب المصالح ودرء المفاسد.ومما يدل على أن جوهر حق الإحسان هو جلب المصلحة للناس ودفع المفسدة عن الخلائق قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2] ،فالآية حسب رأي الإمام فيها نهي عن التسبب في المفاسد، وأمر بالتسبب في تحصيل المصالح.([3]) ويُمكن أيضًا عد قول الله عز وجل {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90] تأصيلًا لهذا الأمر، يقول في معنى تلك الاية : وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها.([4]) بل إن تلك الآية عنده أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها ، فإن الألف واللام في العدل والإحسان للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دق العدل وجله شيء إلا اندرج في قوله: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل: 90] ولا يبقى من دق الإحسان وجله شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان، والعدل هو التسوية والإنصاف، والإحسان: إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مُستغرقة لأنواع الفواحش.([5])
أقسام مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد
غير أن جلب المصالح ودرء المفاسد عند الإمام ضربان([6]) فالضرب الاول عنده ما يتعلق بحقوق الخالق كالطاعة والإيمان وترك الكفر والعصيان وحصره في ثلاثة أقسام.([7])
– أحدها ما هو خالص لله كالمعارف والأحوال المبنية عليها، والإيمان بما يجب الإيمان به، كالإيمان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبما تضمنته الشرائع من الأحكام، وبالحشر والنشر والثواب والعقاب.([8]) وهذا الحق حق خالص لله عز وجل.
-الثاني:ما يتركب من حُقوق الله وحُقوق عباده، كالزكاة والصدقات والكفارات والأموال المندوبات، والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف.([9]) وهذا القسم هو الذي يُدرج فيه أغلب الإحسان.
-الثالث: ما يتركب من حُقوق الله وحُقوق رسوله – صلى الله عليه وسلم – وحُقوق المكلف والعباد، أو يشتمل على الحقوق الثلاثة. مثل الأذان وهو عمل إحساني فيما مضى أما الآن فقد أصبح في بعض البلدان وظيفة، والأذان حسب الإمام العز اجتمعت فيه الحقوق الثلاثة فحق الله تعالى فالتكبيرات والشهادة بالوحدانية.وأما حق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فالشهادة له بالرسالة، وأما حق العباد فبالإرشاد إلى تعريف دخول الأوقات في حق النساء والمنفردين، والدعاء إلى الجماعات في حق المقتدي. ([10]) ويُمكن أن ندرج هنا أيضًا العمل الإحساني الدعوي ،ففيه حق الله- عز وجل- والمتمثل في الدعوة إليه -عز وجل- وفيه حق الرسول- صلى الله عليه وسلم- المتجلي في الدعوة إلى الاقتداء به، وفيه أيضًا حق العباد المتمثل في إرشادهم وتوجيههم.
-الضرب الثاني: ويتعلق بحقوق المخلوقين من جلب المصالح ودرء المفاسد ([11])وهذا الضرب عنده ثلاثة أقسام:
– حُقوق المكلف على نفسه كتقديمه نفسه بالكساء والمساكن والنفقات…([12])
– حُقوق بعض المكلفين على بعض، وضابطها عنده هو جلب المصلحة مثلما سبق، وقد ذكر منها أمثلة كثيرة ومنها ([13])
-التسليم عند القدوم،
-تشميت العاطس،
– عِيادة المرضى،
– الإعانة على البر والتقوى وعلى كل مُباح.
-حُقوق المكلفين على بعضهم ذكر منها نوعًا آخرًا وهو حكم الحكام والأئمة والولاة، وذكر أمثلة كثيرة تخص هذا القسم ومنها([14]):
-إنصاف المظلومين من الظالمين،
-توفير الحقوق على المستحقين العاجزين،
– حفظ أموال الأيتام والمجانين والعاجزين والغائبين،
-التقاط الأموال الضائعة والأطفال المهملين،
– إنظار المعسرين وإبراء كُسوة العراة وفك العناة.
العمل الإحساني عند الإمام العز حق مُركب
لقد اتضح إذًا أن العمل الإحساني عند الإمام العز حق مُركب من حُقوق الله وحُقوق عباده وأحيانًا نجده مُركبًا من حُقوق الله ورسوله وعباده.وهو أيضًا يشمل الحقوق المادية والمعنوية ،فالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلًا يُمكن إدراجهما في العمل الإحساني الدعوي،وزيارة المريض، كذلك ثم منه ما هو مُتعلق بالنفع المادي المحض.مثل العارية والقرض ويدرج هذا ضمن النفع المادي.
إن الامثلة التي ساقها العز بن عبد السلام في بيان حق الإحسان تبدوا وكأنها تتكرر وفيها من الإطناب ما هو ظاهر وجلي، وبعضها مُتداخل فعندما نتحدث عن دفع ضرر الظالم وهو عمل إحساني جليل فهو يدخل ضمن دفع الضرر عن الضعفاء، وهو قسم مُستقل عند الإمام، ويدخل أيضًا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قسم آخر وهو مُستقل عنده أيضًا، فكان يكفي أن يقول الإمام مثلًا :إن من واجب المكلفين بعضهم على بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المكنر، فيستوعب كل المفردات القريبة منه، لكن هذا مُتعمد من الإمام العز بن عبد السلام وقد كشف عن علة هذا الأمر، حيث قال:”ولو قلت في حق العباد هو أن يُجلب إليهم كل خير، ويُدفع عنهم كل ضير، لكان ذلك جامعًا عامًا، ولكن لا يحصل به من البيان ما يحصل بالتكرير وتنويع الأنواع.([15])
حق الإحسان فعل مطلوب شرعًا
والذي يُمكن أن نقوله عن حق الإحسان عند الإمام العز بن عبد السلام إنه فعل مطلوب شرعًا وممدوحًا أيضًا، وسبب لخير عاجل وآجل، ولهذا يقول الإمام العز بن عبد السلام في تأصيل مسلك الشارع الحكيم في تشريع ما يجلب المصالح للناس وما يدفع عنهم المفسدة:كل فعل طلبه الشارع أو أخبر عن طلبه أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو نصبه سببًا لخير عاجل أو أجل فهو مأمور به ،وكل فعل طلب الشارع تركه أو أخبر أنه طلب تركه أو ذمه أو ذم فاعله لأجله أو نصبه سببًا لشر عاجل أو أجل فهو منهي عنه.([16])
وقد توفرت كل تلك المعاني في حق الإحسان فهو مأمور به وممدوح في ذاته، وسبب للفلاح في الدنيا والآخرة.ومذموم نقيضه ومنهي عنه، وسبب لشر عاجل أو آجل.
يواصل الإمام العز بن عبد السلام عنايته بهذا الحق فيقرر أن جلب المصلحة للخلائق ،ودفع المفسدة عنهم يحتاج إلى معيار دقيق على أساسه يُقدم الإحسان إليهم، ولهذا وضع العز بن عبد السلام هذا المعيار في كتابه (الفوائد في اختصار المقاصد)، حينما تحدث عما يُقدم من الإحسان القاصر والمتعدي، حيث قال:يُقدم حفظ الأرواح على حفظ الأعضاء، وحفظ الأعضاء على حفظ الأبضاع ،وحفظ الأبضاع على حفظ الأموال، وحفظ المال الخطير على حفظ المال الحقير، وحفظ الفرائض مُقدم على حفظ النوافل، وحفظ أفضل الفرائض على حفظ مفضولها،ويُقدم بر الأبرار على بر الفجار، وبر الأقارب على بر الأجانب، وبر الجيران على بر الأباعد، وبر الآباء والأمهات والبنين والبنات على غيرهم من سائر القربات، وبر الضعفاء على بر الأقوياء، وبر العلماء على بر الجهال.([17])
إذا كان حق الإحسان كما وصفنا، فعلى العباد أن يتنافسوا فيه وعلى حد تعبير العز فهو جدير بأن يحرص عليه ويتنافس فيه ويُبادر إليه، ولا يتقيد ذلك الإحسان بالإنسان بل يجري في حق الملائكة – عليهم السلام- فإنهم يتأذون مما يتأذى منه الناس بل يجري في حق الحيوان المحترم بل في غير المحترم.([18])

اقرأ أيضا  مارسودي تزور مخيم اللاجئين الفلسطينيين في الأردن

________________________________________
([1]) الفوائد في اختصار المقاصد العز بن عبد السلام ص34. المحقق: إياد خالد الطباع الناشر: دار الفكر المعاصر , دار الفكر – دمشق الطبعة: الأولى، 1416.

([2]) قواعد الاحكام في مصالح الانام ،العز بن عبد السلام ،ج 2 ،ص190. راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة طبعة 1414 هـ – 1991 م.

([3]) نفسه ،ج1 ،ص 156.

([4]) نفسه ،ج1 ،ص156.

([5]) قواعد الاحكام في مصالح الآنام ،ج 2 ،ص190.

([6]) نفسه ،ج1 ،ص153.

([7]) نفسه ،ج1 ،ص153.

([8]) نفسه ،ج1 ،ص153.

([9]) نفسه ،ج1 ،ص153.

([10]) نفسه ،ج1 ،ص153.

([11]) نفسه ،ج1 ،ص156.

([12]) نفسه ،ج1 ،ص155.

اقرأ أيضا  وما أدراك ما ليلة القدر

([13]) نفسه ،ج1 ،ص157-158.

([14]) نفسه ،ج1 ،ص158.

([15]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ،ج1 ،ص161.

الإمام في بيان أدلة الأحكام: ص82. ([16])

([17]) الفوائد في اختصار المقاصد ، ص 78.وما بعدها.

([18]) الفوائد في اختصار المقاصد ،ص33.

-البشرى-

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.